عابري سبيل الرواية

 الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  


اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ 


يقابلنا أثناء بحث الروايات والأسانيد بعض الرواة الذين ليس لهم كثير حديث بل بضعة أحاديث لا غير كحد أقصى ، وتزداد حيرة الباحث إذا بحث عن هذا الراوى فوجده قد أُخرِجَ له في الصحيح ، فيتحير الباحث ولا يدرى ماذا يصنع !


للخروج من هذه الإشكالية يجب تحديث تصورك للرواية أولاً ، ثم معرفة أن كل حالة تمر عليك هى حالة مستقلة بذاتها ربما لا تتكرر مرة أخرى .


– تصور زمن الرواية :

تصور زمن الرواية يساعدك على رسم الصورة الذهنية للأحداث ، فمثلاً يوجد صحابي اسمه عبد الله بن عباس ، كونه صحابي فهذا يجعله في منزلة الأستاذ بالنسبة إلى الداخلين في الإسلام من أول منتصف ولاية عمر وما تلاها .

وابن عباس هذا هو ابن عم نبينا صلى الله عليه وسلم مباشرة ، وبحكم قرابته وسنه كان قريباً من نبينا صلى الله عليه وسلم أكثر الأوقات ، فعلم ما لم يعلمه غيره .


أيضاً كان ابن عباس يطوف على كبار الصحابة فيسمع منهم ما لم يدركه أو يعيه من سنن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.


إذا تصورت حال ابن عباس فهذا يقودنا إلى تصور الرغبة في السماع منه والقرب منه ، فمن فاته الصديق وعمر مثلاً سوف يجد في ابن عباس طريقاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.


تستطيع أن تتخيل أن ابن عباس صار قبلة للعلم يقصدها طلابه من جميع أرجاء العالم الإسلامي في زمانه فقد حضر وسمع ثم جمع ما فاته مع مكانته وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم.


من الطبيعي والمنطقي أنه قد لازم ابن عباس بعض التلاميذ ، صحيح تختلف فترات الملازمة بعضها يطول لسنوات وبعضها لأشهر وبعضها لرحلات فقط ،


ومن البديهي أيضاً أن الأكثر قد مروا عليه بسرعة ولم يصاحبوه كالحجيج والمعتمرين وغيرهم من الذين لهم وجهة وهدف غير التعلم من ابن عباس .


يمكن أن نصف الجميع بأنهم سمعوا من ابن عباس ، الذي صاحبه سنوات والذي صاحبه أشهراً والذي مر عليه وهو في طريقه إلى الحج مثلاً ، كل هؤلاء يشملهم اسم : روى عن ابن عباس أو سمع من ابن عباس .


لكن هل هم سواء ؟

هل هم في منزلة واحدة ؟


بالتأكيد لا ، فالذي اتخذ طريق طلب العلم هدفاً له غير الذي مر على شيخ يروى حديثاً او حديثين فسمعهما ثم انصرف ولم يعد أبداً ، قطعاً هذا غير ذاك .


فمثلاً الحميدي صحب سفيان ابن عيينة سبعة عشرة سنة يسمع منه ، سبعة عشرة سنة ! يسمع منه حديثه ، طيب حديث ابن عيينة كله إلا يمكن قراءته كله في أسبوع ؟ كل يومٍ مجموعة وانتهى الأمر ؟


لماذا هذه الصحبة الطويلة جداً ؟

هذه الصحبة جعلتنا نرد أي رواية لسفيان من طريق غير الحميدي إلى رواية الحميدي !


فأغلب من سمعوا من سفيان حديثه سمعوه بحضرة الحميدي !

يعنى سمعه مراراً وتكراراً مراراً وتكراراً عدد مرات لا يمكن توقعه أو حصره .


فإذا جاءنا من مر على سفيان سريعاً فسمع منه بضعة أحاديث وغادر فكيف نجعله بمنزلة الحميدي الذي كتب وكرر السماع لمدة سبعة عشرة عاماً حتى لو توبع على أكثر هذه البضع ؟


فالتصور يساعدنا على التفرقة بين عابر سبيل الرواية الذي يتقاطع معها لظرف او حدث كالغزو او الحج او العمرة وبين مشتغل بالرواية حياته كلها هي جمع الرواية وكتابتها وحفظها وتدوينها وفهم معانيها واختبار الشيوخ وتمييز الرجال والعلل .


فكيف نجعل هذا بمنزلة ذاك ؟


ذاك العابر لا نتهمه في دينه ولا أمانته ، لكن لا نساوى بينه وبين أصحاب الطبقة الأولى الملازمين للشيخ أبداً .


حتى وإن توبع على بعض من البضع الذي سمعه فإن فرده يُعرض على رجال الطبقة الأولى ، كونهم طلبوا ولم يطلب ، لازموا ولم يلازم .


وكلما كان الشيخ مكثراً تعقدت مسألة رواية عابر السبيل هذه ، عكس المقل الذي غالباً لا يكون له طلاب ملازمون لفترات طويلة ، بل يروى الحديث على الحدث .


فيجب التمييز عند البحث بين ( طالب الحديث ) وبين عابر سبيل سمع بضعة أحاديث .


فطالب الحديث يتعامل مع المادة المتلقاة تعاملاً يختلف تماماً عن عابر السبيل ، فطالب الحديث يدون ، ثم يقابل مع أقرانه ، ثم يحفظ ، ثم يمتحن شيخه مرات ، وهكذا كالفرق بين طبيب محترف وحلاق الصحة القديم أو كالفرق بين اللاعبين المحترفين وشخص اتفق مرة مع بعض الناس أن يؤجروا ساعة للعب في ملعب فصادف ميسى أو رونالدو في الملعب ، هذه المصادفة لا تجعله في مصاف لاعبي الريال وبرشلونة!


ليسوا سواءً


{  رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ  } [آل عمران:8]

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *