شرك الملة السلفية في التشريع والاتباع

 بسم الله الرحمان الرحيم

فتنة المذاهب والفِرق

المقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين ، الرحمان الرحيم ، مالكِ يوم الدين ، له الحمدُ في الأُولى والآخرة ، ولهُ الحكمُ ، وإليه تُرجعون ، أشهد أن لا إلهَ إِلاَّ الله ، وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أَن مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ ، اللهم إياك نعبدُ ، فاجعل عبادَتَنا خالصةً لك ، مأجورةً منك ، بعيدةً عن الرياء والشِّركِ ، وعن التَّقَرُّب إليك بما شَرَعَتْهُ شياطينُ الإنسِ والجن ، وإياكَ نستعينُ ، فأَعِنَّا بمددك الذي لا حدَّ له ، ولا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ ، أَو إلى بابِ غيرك ، ولا تُذِلَّنا بالخضوعِ لسواك ، وتقبل منا إنَّك أنت السميعُ العليمُ ، وتجاوز عن ذنوبنا وتقصيرنا ، وهذا حالُنا لا يخفى عليك ، فاغفر يا غفور، وارحم يا رحيم . آمين.


اللهم ، أنت ربي ،

وأنا الضعيفُ الذي قويتَ ، والجاهلُ الذي علمتَ ، والكسيرُ الذي جبرتَ ، والمريضُ الذي شفيتَ ، والخائف الذي أَمَّنْتَ ، والغريبُ الذي آويتَ ، والفقيرُ الذي أغنيتَ ، والعاصي الذي سترتَ.

والضالُّ الذي يرجو هدايتك ، والمُسرف الذي يطمع في رحمتك. 

أما بعد ؛

فَمِنْ نِعَم الله ، عز وجل ، التي لا تُحصى ، أن بعثَ إلى خلقه خيرةَ خَلْقهِ من الأنبياءِ والمُرسَلينَ ، ومِن أَعظمِ نِعَمِهِ ، سبحانَهُ ، علينا ، أَنْ بعثَ فينا رسولاً مِنَّا ، خَتم به الرسلَ والرسالةَ ، وأنزل عليه كتابًا ، هو الفصلُ ، ليس بالهزلِ ، لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفهِ ، فأنزله اللَّهُ ، عز وجل ، على رسولِهِ r قولاً ثقيلاً ، لو نَزَلَ على جبلٍ لخشعَ وتصدَّعَ ، فنزلَ على قلبِ مُحَمَّدٍ النبيِّ الأُمِّي الكريمِ r ، فحَمل الأمانةَ ، وصَدَعَ بما أُمِرَ، وَبَلَّغ ما أُنزل إليه من رَبِّهِ ، ما زاد حرفًا ، وما أخفى حرفًا ، ما ترك شيئًا يُقربنا منَ الجنةِ إِلاَّ وأمرنا بهِ ، وما تركَ شيئًا يُقربنا من النار إِلاَّ ونَهانا عنه ، فأُوذيَ وصَبَرَ، وقُوتِلَ وغَفَرَ ، وأُخْرِجَ من بلدِهِ حتى جاءَهُ فتحُ الله وانتصرَ.

ومع طول الأَمَدِ ، وابتعادِ الناس عن عصر النُّبُوَّةِ ، واستحواذِ شياطينِ الإنسِ والجنِّ على عقولِ الناسِ ، تَبَدَّلَ كلُّ شيءٍ ، أَوْ كَادَ ، وتحول الدينُ إلى مجموعةِ مذاهبَ ، وعِدَّةِ طُرُقٍ ، وحفنةٍ من الجماعات والجمعيات ، حتى صار ذلك واقعًا لا مفر منه ، ونسيَ الناسُ ، بتقادم العهد ما كان ، وآمنوا بما صار ، فلم يعد أحدٌ يعلم ، إلا مَنْ رَحِمَ ربُّكَ ، أَنَّ نبيًّا قد أتى ، وبَلَّغَ ما أُنزلَ إليهِ من ربِّهِ ، حتى وإن قالوها بأفواههم ، لكنَّ أعمالَهُمْ كَفَرَتْ بذلك ، فزواجُهم وطلاقُهم ، وبيعُهم وشراؤُهم ، وصلاتُهم وطَهُورهُم ، كلُّ ذلك ، وغيرُ ذلك ، صار على مذهبِ فلانٍ ، وطريقة أبي فلانةَ ، وقَسَموا دينَ الله إلى فروع وأصول ، وواجبات ومندوبات ، وتفرقوا واختلفوا ، بل وجعلوا الخلافَ رحمةً ، وأَصبح جهلُهم عِلمًا ، وخِلافُهم دينًا ، ونزاعُهم قُربى لرب العالمين.

وهنا ، في هذا المُقام ، نريد أن نقولَ : إن مُحَمَّدًا r قد جاء فعلاً ، ونزلت عليه رسالةٌ كاملةٌ ، فَبلَّغَها كما نزلت ، واتَّبَع ما أُوحي إليه من ربه ، وأنه هو الإمامُ الأولُ والأَخيرُ لهذه الأُمَّةِ ، ولا يحل لمسلمٍ أن يلتزم باتباع إِمامٍ سواه ، في أي عبادة من العبادات التي يُتقرب بها إلى الله عز وجل.

* * *

الباب الأول : الرسالة 

هل هناك من يُصَدِّقُ أَن رسالةً نزلت على مُحَمَّدٍ r كاملةً ، لإخراجِ الناسِ من الظلمات إلى النور ؟.

قد يعتقدُ البعضُ أن هذا السؤالَ غريبٌ ، في وسطِ أُمَّةٍ أَجمعت أَنها تُؤمن بذلك.

وأقول : إنها أُمة أَكثرُها يقولون ذلك.

ولكنَّ الإيمانَ شيءٌ ، والقولَ شيءٌ آخرُ.

والدليل هو هذا الواقع ، والخلافُ الذي لا يَرْحَمُ ، وتَفَرُّقُنَا إلى أحزابٍ وفِرَقٍ ، كُلُّ حِزْبٍ بما لديهم فرحون.

لو آمنا أن مُحَمَّدًا r نزلت عليه رسالةٌ ، وبَلَّغَهَا ، لرجعنا إليها في شأننا كُلِّهِ.

ولَمَا تَزوَّجْنَا على مذهبِ أبي حَنيفةَ ، وصَلينا على مذهبِ الشافعيِّ ، وصُمنا على مذهبِ أحمدَ بنِ حنبلٍ ، واعتقدنا على مذهبِ أهل السُّنَّةِ والجماعةِ ، وفَهِمْنَا الدِّينَ على مذهبِ السَّلفِ ، والسلفُ هذا مجهولٌ ، لايعرفه أَحدٌ على وجه التحديد ، لأَنَّ كُلَّ فرقةٍ لها سلفٌ يختلف عن سلف الفِرقة الأُخرى. 

لقد نزلت رسالةٌ على مُحَمَّدٍ r ، وبَلَّغَهَا ، وآمنَ بها ناسٌ ، وبشرهم الله بالجنةِ ، قبل ظهورِ مذاهبِكُمْ ، وطرقِكُمْ ، وشيعِكُمْ ، وأحزابِكُمْ ، وسلفِكُمْ ، وخلفِكُمْ.

– عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ r :

(( مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ ، إِلاَّ قَدْ أُعْطيَ مِنَ الآيَاتِ ، مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.))

أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي.

فالذي يُؤمن عليه البشرُ ، ويُحْكَمُ لهم بالإيمان ، إِنْ هم آمنوا به ، إنما هو الوَحْيُ ، النازلُ من السماء ، وما عدا ذلك ، فإنما هو وحلٌ ، تَوَلَّدَ ، وتكاثر من عَفَن عقول الذين تفرقوا واختلفوا. 

كمال الرسالة : 

إن رسالة الإسلام العظيم جمعها الله ، عز وجل ، بحكمته وعلمه ، في كتابه ، وفي هَدْيِ رسوله r , وما عدا ذلك فهو أمرٌ آخر ، يُسمى باسمٍ آخر ، وما هو من دين الله في شيءٍ ، يتفق فيه الناسُ ، أو يختلفُ فيه البعضُ ، فقد أكملَ الله دينَنَا ، وأَتَمَّ علينا نعمتَهُ ، ورضيَ لنا الإسلامَ دينًا ، وكل ذلك حدث قبل وفاة رسول الله r بعامٍ ، فأيُّ ادعاءٍ بزيادةٍ بعد رسولِ الله r في أحكام الإسلام ، أو نقصان ، إنما هو في الحقيقة ادعاءُ إنسان لم يُؤمن بأن الله أَكمل هذا الدينَ ، وأَتَمَّهُ. 

يقول رب العالمين : ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا …﴾ [المائدة : 3]. 

وهذا اليوم ، المشار إليه في الآية ، هو يومُ عَرفَةَ ، من حَجَّةِ الوداع ؛

عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ لِعُمَرَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾  لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا ، فَقَالَ عُمَرُ : إِنِّي لأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ.))

فإذا عَلِمَ المُسلِمُ أن الرسالةَ قد كَمُلَتْ بمُحَمَّدٍ r , فهل يُسلم أَمْرَهُ لغيره ، يسأله ، ويستفتيه عن رأيه ؟.

لو نزلت الآيةُ على اليهود ، وعَلِموا اليوم الذي نزلت فيه ، لاتخذوه عيدًا.

وقد نزلت الآية علينا ، وعَلِمْنَا اليوم ، والساعة ، كل هذا ومازلنا نقول :

إذا لم تجد الحكم في كتاب الله ، ففي سنة رسول الله r.

فإذا لم تجده في سنة رسول الله r ، فعليك بالإجماع.

فإذا لم تجده في الإجماع ، فعليك بالقياس.

فإذا لم تجده في القياس ، فعليك بفهم السلف.

فإذا لم تجده في فهم السلف ، فعليك بالمصالح المرسلة.

فإذا لم تجده في المصالح المرسلة ، فعليك بعمل أهل المدينة ، على مذهب المالكية.

فإذا لم تجده في عمل أهل المدينة ، فعليك بالاستحسان.

فإذا لم تجده في الاستحسان ، فاجتهد رأيك ، (ولا آلو).

فهل هذا هو الدينُ الذي أكمله الله ، سبحانه ، أم غيره ؟!.

دينٌ ، بكل هذا النقص ، ويحتاج إلى تكملة من الإجماع ، والقياس ، والسلف ، والمفاسد المرسلة ، واستصحاب الأصل ، هل يقول الله تعالى فيه :

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ ؟!.

مَنِ الَّذِي أََكْمَلَ ؟.

مَنِ الَّذِي أَتَمَّ ؟.

مَنِ الَّذِي رَضِيَ ؟. 

سيقولون : الله.

قل : الحمد لله ، ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾.

إذا كان هو الذي أََكْمَلَ ، وهو الذي أَتَمَّ ، وهو الذي رَضِيَ ، أسألُ :

هل في هذا الدينِ الذي أَكمل ، عبادةٌ واحدةٌ ، أمرني الله عز وجل بأدائها ، وفي هذا الأَمر نقصٌ ، أحتاج فيه إلى البحث في غير كتاب الله ، وسُنَّة مُحَمَّدٍ r ؟!.

وهذا سؤالٌ ، لا أنتظر إجابته من إي مخلوقٍ كان ، لأن الله أخذ بيدي ، وهدى قلبي ، فآمنتُ أنه أكملَ ، وأَتَمَّ ، ورَضِيَ ، فكفاني ما أكملَ ، ووَسِعَنِي ما أَتَمَّ ، وفَرِحتُ بما رضيَ به. 

 ابحث عن دينك في كتاب الله ، وفي سنة رسول الله r ، فإذا لم يكن ما تبحث عنه ، من دينكَ ، موجودًا في كتاب الله ، وفي سنةِ رسولِ الله r ، فهذا أمرٌ من أُمور الدنيا ، لم يُكَلِّفْكَ الله فيه بشيءٍ.

فلا نقص ، ولا زيادة ، في أمرٍ أكمله وأتمه العليمُ الحكيمُ.

ويأمر الله عبدَه أن يقولَ : ﴿أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.

ذلك ، لأن الأمر قد انتهى ؛ ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

وبَيَّن مواضعَ الضلال ، فقال : ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾.

وأظهر سببَ وقوعهم في هذا الضلال ، فقال : ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾. الأنعام [115 : 117].

لقد أمر الله سبحانه نَبِيَّهُ r أن يتبع الوحيَ الذي أُنْزِلَ عليه حصرًا ، لا يتبع غيرَهُ ؛

قال الله تعالى : ﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴾. [الأنعام : 50].

وقال سبحانه : ﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾. [الأنعام : 106].

وقال سبحانه : ﴿ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾. [الأعراف : 203].

وقال سبحانه : ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾. [يونس : 15].

وقال سبحانه : ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾. [يونس : 109].

وقال سبحانه : ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهََ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾. [الأحزاب : 2].

وقال سبحانه : ﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾. [الأحقاف : 9].

وبعد أن قرأت هذه الآيات ، لزمتك الإجابة : هل أمر الله تعالى نبيه r أن يتبع وحيًا ناقصًا ، بل حَصَرَ اتباعه فيه ؟!!.

وهذا الوحي ، الذي أمر الله سبحانه نبيه باتباعه ، هل كان يشتمل على صراع الثيران الذي نشب على قاعدة : خالِف ، لتُعرف ؟!!.

إن الله لم يأمر نبيه باتباع وحي ناقصٍ ، إنما الناقص من ترك وحي السماء ، وأخلد إلى الأرض ، واتبع رأي إنسانٍ ، سمته الشياطين إمامًا ، وهو لا يعرف كيف يغسل مقعدته.

شبهات وحقائق :

ومع هذا كله ، فإن الشيطان يوسوس في صدور أوليائه ، بوساوس وأوهام ، ولكي يخدع بها المرضى ، فإنه ينسبها للنبي r ، أو ربما لله عز وجل ، وهذا الباطل يسري في جسد الأمة الذي تهالك ، خاصة بعد أن ماتت ملكة البحث ، والتنقيب ، والسؤال ، وصار الناس يتلقون دينهم من كل ناعقٍ ، وصعد فوق المنابر ناس لايفرقون بين صحيح البخاري ، وكتاب ألف قيس وليلى ، يحملون شهادات الدكتوراة في علوم الحديث ، من أجل أكل العيش ، وأموال الناس !!.

وقد اشتهر في وسط هذا الزَبَد شيءٌ احتج بها هؤلاء لإثبات أنه يجب الأخذ بالرأي ، وأن الدين ناقصٌ ، وأن المسلمَ سيلتقي في حياته بأحكامٍ ليست في كتاب الله ، ولا في سُنَّةِ رسوله r ، وهنا عليه أن يجتهد رأيه ، ولا (آلو) !!. وإليك الحديث المزعوم :

– عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ ، عَنْ مُعَاذٍ ؛

)) أَنَّ رَسُولَ اللهِ r حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ : كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ : أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ ؟ قَالَ : فَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ r ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ r ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي لاَ آلُو ، قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ r صَدْرِي ، ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ ِللهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ r لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ r..((

أخرجه ابن أَبي شَيْبَة ، وأحمد ، وعَبد بن حُميد ، والدارِمِي ، وأبو داود ، والترمذي ، من رواية أَبي عَوْن ، مُحَمد بن عُبَيْد الله الثَّقَقِي ، عن الحارث بن عَمْرو ، ابن أخي المُغِيرَة بن شُعْبة ، عن ناسٍ من أصحابِ مُعَاذ من أهل حِمْص ، عن معاذ ، به.

هذا مايحتج به سدنة المذاهب ، والذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا.

وهذا حديثٌ إسناده ساقطٌ لايصح ، ومن نَسَبَهُ إلى رسول الله r ، فقد كذب عليه.

أولا : قال البخاري : الحارث بن عَمرو ، ابن أخي الْمُغِيرة بن شُعبة ، الثَّقَفيّ ، عن أصحاب مُعاذ ، عن مُعاذ ، رَوى عنه أبو عَوْن ، ولا يَصح ، ولا يُعرف إلا بِهَذا ، مُرسلٌ. التاريخ الكبير (2/2449).

ثانيًا : أورده العقيلي في الضعفاء 1/215 (262) ، ونقل قول البخاري السابق.

ثالثًا : قال الترمذي ، بعد أن أخرجه : هذا حديثٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده عندي بمتصلٍ ، وأبو عون الثقفي اسمه محمد بن عُبيد الله . سنن الترمذي (1327 و1328).

رابعًا : قال ابن حَزم : وحديث معاذ ، الذي فيه : أجتهد رأيي ولا آلو ، لا يصح ، لأنه لم يروه أحدٌ إلا الحارث بن عمرو ، وهو مجهولٌ ، لا ندري مَنْ هو ، عن رجالٍ من أهل حمص لم يُسَمِّهم ، عن معاذ. ((المحلى)) 1/62.

وقال ابن حَزم : وأما حديث معاذ ، فيما رُوِيَ من قوله : أجتهد رأيي ، وحديث عبد الله بن عمرو ، في قوله : أجتهد  بحضرتك يا رسول الله ، فحديثان ساقطان ، أما حديث معاذ ، فإنما رُوي عن رجالٍ من أهل حمص ، لم يُسَمَّوْا ، وحديث عبد الله منقطعٌ أيضًا ، لا يتصل. ((الإحكام في أصول الأحكام)) 5/121.

خامسًا : أخرجه ابن حَجَر في كتابه ((تلخيص الحبير)) 4/182 ، ثم قال : أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن عدي ، والطبراني ، والبيهقي ، من حديث الحارث بن عمرو ، عن ناسٍ من أصحاب معاذ ، عن معاذٍ.

قال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده بمتصل.

وقال البخاري ، في ((تاريخه)) : الحارث بن عمرو ، عن أصحاب معاذ ، وعنه أبو عون ، لا يصح ، ولا يُعرف إلا بهذا.

وقال الدارقطني ، في ((العلل)) : رواه شعبة ، عن أبي عون ، هكذا ، وأرسله ابن مهدي ، وجماعاتٌ ، عنه ، والمرسل أصح.

قال أبو داود ، يعني الطيالسي ، أكثر ما كان يحدثنا شعبة ، عن أصحاب معاذ ، أن رسول الله r ، وقال مرةً : عن معاذ.

وقال ابن حزم : لا يصح ، لأن الحارث مجهولٌ ، وشيوخه لا يُعرفون ، قال : وادعى بعضُهم فيه التواتر ، وهذا كذبٌ ، بل هو ضد التواتر ، لأنه ما رواه إلا أبو عون ، عن الحارث ، فكيف يكون متواترًا.

وقال عبد الحق : لا يُسند ، ولا يوجد من وجه صحيحٍ.

وقال ابن الجوزي ، في ((العلل المتناهية)) : لا يصح ، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ، ويعتمدون عليه.

وقال أبن طاهر ، في تصنيفٍ له مفرد ، في الكلام على هذا الحديث : اعلم أني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار ، وسألتُ عنه مَنْ لَقِيتُهُ من أهل العلم بالنقل ، فلم أجد إلا طريقين ، أحدهما طريق شعبة ، والأخرى عن محمد بن جابر ، عن أشعث بن أبي الشعثاء ، عن رجل من ثقيف ، عن معاذ ، وكلاهما لا يصح ، قال : وأقبح ما رأيتُ فيه ، قول إمام الحرمين ، في كتاب ((أصول الفقه)) : والعمدة في هذا الباب على حديث معاذ ، قال : وهذه زلةٌ منه ، ولو كان عالمًا بالنقل ، لما ارتكب هذه الجهالة.

قال ابن حَجَر : كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه ، فإنه قال : والحديث مدون في الصحاح ، متفق على صحته ، لا يتطرق إليه التأويل. انتهى كلام ابن حَجَر ، نقلا عن تلخيص الحبير ، مع الاختصار.

قلنا : وكلام ما يسمى بإمام الحرمين هذا باطل ، فالحديث لم يدون في الصحاح ، ومتفقٌ على ضعفه ، ويتطرق إليه الضلال المبين ، وكلامه مردود عليه ، وإن كان إماما لمساجد الدنيا.

وحديث آخر ، ظن هؤلاء الذين أحبوا مخالفة النبي r ، أنه يدعم حجتهم في أن الدين لم يكتمل ، وأن النعمة لم تتم ، وأن الرسالة قد وصلتهم ناقصةً ، وأنه يجب إكمال هذا النقص ، بذكاء الأئمة ، وفنهم الرفيع في الإضافة والحذف ، وهذا الحديث هو :

عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ، قَالَ :

(( صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ r ذَاتَ يَوْمٍ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي ، فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي ، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ ، تَمَسَّكُوا بِهَا ، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ.))

 ويأخذون من هذا الحديث شيئا واحدا ، يظنون ، إثمًا ، أنه يُثبت اتباعًا للخلفاء المهديين ، وأن لهم سنة غير سنة النبي r ، وهذا ما يبحث عنه دائما دعاة الشرك ، الذين رفضوا إلا أن يتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله .

أولا : طرق هذا الحديث :

1- أخرجه أحمد ، وأبو داود ، من حديث الوَلِيد بن مُسْلم ، حدَّثنا ثَوْر بن يَزِيد ، حدَّثني خالد بن مَعْدان ، قال : حدَّثنا عَبْد الرَّحْمان بن عَمْرو السُّلَمِي ، وحُجْر بن حُجْر ، عن العرباض بن سارية ، به.

2- وأخرجه أحمد ، والدارمي ، وابن ماجة ، والترمذي ، من حديث ضَمْرَة بن حَبِيب ، وخالد بن مَعْدان ، عن عَبْد الرَّحْمان بن عَمْرو السُّلَمِي ، أنه سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ ، به.

3- وأخرجه أحمد ، من طريق خالد بن مَعْدان ، عن ابن أَبي بِلاَل ، عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ ، به.

4- وأخرجه ابن ماجة ، من طريق عَبْد الله بن أحمد بن بَشِير بن ذَكْوَان الدِّمَشْقِي ، حدَّثنا الوَلِيد بن مُسْلم ، حدَّثنا عَبْد الله بن العَلاَء ، يعني ابن زَبْر ، حدَّثني يَحيى بن أَبي المُطَاع ، عن العرباض ، به.

قلنا : إسناده ضعيف ، الأول ؛ فيه عبد الرحمان بن عمرو السلمي ، لاتقوم به حجةٌ ، إذ لم يوثقه أحدٌ ممن يُعتمد عليه في الجرح والتعديل ، قال ابن القطان : مجهول ، وقال ابن حَجَر ، في ((التقريب)) : مقبول ، وهذه عنده تعني : لين الحديث ، كما بين في مقدمة كتابه ، خاصة وأن الذي تابعه هو : حُجْر بن حُجْر ، وهو مجهول ، تفرد بالرواية عنه خالد بن معدان ، ولذا أورده الذهبي في الميزان ، وقال : حجر بن حجر الكلاعي ، ما حدث عنه سوى خالد بن معدان ، بحديث العرباض ، مقرونًا بآخر.

وفي التقريب ، قال ابن حجر : مقبول.

والطريق الثاني ، فيه عبد الرحمان بن عمرو السلمي ، سبق الحديث عنه.

قال الحافظ العراقي : عبد الرحمان بن عمرو بن عبسة السلمي ، روى عن العرباض بن سارية ، قال : ((صلى بنا رسول الله r ذات يوم ، ثم أقبل علينا ، فوعظنا موعظةً بليغةً…)) الحديث ، رواه عنه خالد بن معدان ، عنه ، وعن حُجر بن حُجر ، عن العرباض بن سارية.

 قال ابن القطان : مجهولٌ ، والحديث لا يصح. ((ذيل ميزان الاعتدال)) (523). 

والطريق الثالث ؛ فيه عبد الله بن أبي بلال الخزاعي ، وهو مجهول أيضًا ، تفرد بالرواية عنه خالد بن معدان ، ولذا أورده الذهبي في ((الميزان)) .

ورابعهم أضعفهم ، فهو من رواية يحيى بن أبي المطاع ، عن العرباض ، ويحيى لم يسمع من العرباض شيئًا ، والعجيب أنه يأتي في بعض روايته : سمعت العرباض ، وهذه إن وقعت منه كانت كذبًا ، وإن كانت من الرواة عنه ، كانت كذلك ، وتدليسًا.

قال أبو زرعة الرازي لدُحيم ، تعجبًا من حديث الوليد بن سليمان ، قال صحبتُ يحيى بن أبي المطاع : كيف يُحدث عبد الله بن العلاء بن زبر ، عنه ، أي عن يحيى بن أبي المطاع ، أنه سمع العرباض ، مع قُرب عهد يحيى ؟! قال : أنا مِنْ أنكر الناس لهذا ، والعرباض قديم الموت. قال ابنُ حَجَر : قلت : وزعم ابن القطان أنه لا يُعرف حاله. ((تهذيب التهذيب)) ، ترجمة يحيى بن أبي المطاع.

قال الذهبي : يحيى بن أبي المطاع ، عن العرباض ، ومعاوية ، قال دُحيم : ثقةٌ معروفٌ ، و قد استبعد دُحيم لُقيه للعرباض ، فلعله أرسل عنه ، فهذا في الشاميين كثير الوقوع ، يروون عمن لم يلحقوهم. ((ميزان الاعتدال)) (9643).

 قلنا : وفي إسناده أيضًا الوليد بن مسلم ، والذي يدلس تدليس التسوية.

فلم يرد هذا الحديث من طريق صحيح ثابت لا مطعن فيه ، وإنما جاء من طرق يوهن بعضُها بعضًا.

والحديث الصحيح ، عند من أراد وجه الله ، هو الذي يأتي أولا ، وآخرا ، بشرط الله تعالى ، الذي وضعه للقبول ، وهو : ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾.

أَمَّا أن ياتي عَبَدَةُ العِجْل ، بطرق ، فيها الميتةُ ، والدمُ ، ولحمُ الخنزير ، وما أُهل لغير الله به ، والمنخنقةُ ، والموقوذةُ ، والمترديةُ ، والنطيحةُ ، ويقولون : إن الحديث صحيح بمجموع طرقه ، أي طرق ؟

تأتوننا بالضعيف ، وآخر في إسناده مجهولٌ ، وثالثٌ في إسناده مَنْ لا يُحتج به ، ورابعٌ في إسناده سيءُ الحفظ ، أو سيءُ الحظ ، وعاشرٌ في إسناده مدلسٌ لم يُصرح بسماعٍ ، ثم تقولون : هذا الحديث ، بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن ، أو الصحيح.

أين هذا الحديث ؟ ياقوم ،

إن الحديث هو قول النبي r ، الذي فيه الحلال والحرام ، والإيمان والكفر ، والجنة والنار.

والحديث ينقسم إلى قسمين اثنين ، ولا ثالث لهما ، إلا في عقولٍ أصابها العمى.

إما أن يكون حديثا قاله النبيُّ r من طريقٍ صحيحٍ ثابتٍ ، بنقل الثقة ، المسلم ، الأمين ، الضابط ، عن مثله ، حتى يصل إلى النبي r ، ويُعرض على كتب علل الحديث.

وإمَّا أن يكون شيئًا آخرَ ، لا يُحتج به ، ولا يُنسب إلى رسولِ الله r.

كلامٌ قاله النبيُّ r ، أو كلامٌ لم يقله.

لا توجد قسمةٌ ثالثة.

بلاغ الرسالة :

لقد بَلَّغَ محمدٌ r هذه الرسالةَ الكاملةَ ، كما نزلت عليه ، ما زاد الأمينُ شيئًا ، وما أخفى حرفًا . 

يقول الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾. [المائدة :67].

ويقول سبحانه : ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾. [الحاقة 44 : 47]. 

وفي حديث مسروقٍ ، عن عائشةَ ، رَضِيَ الله تَعالَى عَنْهَا ، قالتْ :

)) مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا r كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ كَذَبَ ، وَاللَّهُ يَقُولُ : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾.

أخرجه ، أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي.

ولم يَخُصَّ النبيُّ r أحدًا ، أو قبيلةً ، أو بلدًا ، بعلمٍ دون الآخرين ، مما هو من تعاليم الإسلام ، بل أبلغه كافةً ، إلى الناس كافة.

عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ، قَالَ : سُئِلَ عَلِيٌّ : 

(( هَلْ خَصَّكُمْ رَسُولُ اللهِ r بِشَيْءٍ ؟ فَقَالَ : مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللهِ r بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً…)).

(*) وفي رواية : (( عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ، عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ ، قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : مَا كَانَ النَّبِيُّ r يُسِرُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : فَغَضِبَ ، وَقَالَ : مَا كَانَ النَّبِيُّ r يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ النَّاسَ…)).

أخرجه ابن أَبي شَيْبَة ، وأحمد ، والبخاري ، في الأدب المفرد ، ومسلم ، والنسائي ، وأبو يَعلى ، وابن حِبان.

وإذا بلغك غيرُ ذلك عن نبيِّ الله r ، من أنه أخذ أحدًا على ناحيةٍ ، وعلَّمه شيئًا من دين الله ، فاعلم بأن هذا هو عين الكذب.

فقد كان النبي r حريصًا كل الحرص على إبلاغ هذه الرسالة ، كما نزلت إليه ؛

ففي حديث أبي بَكْرَةَ ، في خطبة النبي r ، في حجة الوداع بمنًى ، قال النبيُّ r

(( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ…)).

 أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، وابن حِبان.

وكذلك في حديث عائشة ، في صلاة الكسوف ، خطبهم النبيُّ r ، فكان من آخر خطبته :

(( يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَالله لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ ، لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ.)).

أخرجه مالك ، والحميدي ، أحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وابن خزيمة ، وابن حِبان.

بيان الرسالة :

يعتقد الكثيرون ، أن أئمتهم وكبراءهم حملوا مهمةَ بيان رسالة الإسلام ، أو إكمالها ، بما شرعوه لهم من مصطلحات وبِدع ، ومُسميات وفتن ، ما نزك الله بها من سلطان.

وهذه الرسالة التي نزلت كاملةًً ، تامةً ، وبَلَّغَها النبيُّ r كذلك ، لم يدع الله ، سبحانه وتعالى ، مهمةَ بيانها ، وتيسيرها ، لأَحدٍ ، دون رسولِ الله مُحَمدٍ r .

ومن زعم أن مذهب فلان ، أو المذاهب جميعًا ، أو الإمام فلان ، يَسَّرَ الدينَ ، أَو بَيَّنَهُ للناسِ ، فقد ارتكبَ كبيرةً من أكبرِ الكبائر ، قال الله تعالى : 

﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾. [الأعراف : 33].

والله عز وجل يقول : ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾. [القمر : 17 و22 و32 و40].

ويقول سبحانه : ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾. [مريم : 97].

ويقول سبحانه : ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾. [الدخان : 58].

فالله سبحانه ، هو الذي يَسَّرَ كتابه ، ويسره بلسان محمد r ، مبشرا للمتقين ، ومنذرا للفاسقين .

فكانت سنة النبي r ، قولا ، وعملا ، وتقريرا ، هي البيان الصحيح الثابت ، لما جاء في القرآن الكريم.

يقول الله سبحانه : ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. [النحل : 44].

ويقول تعالى : ﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾. [النحل : 64].

فهذا الذي يسر الله تعالى القرآن بلسانه.

وهذا الذي أنزل الله عليه الكتاب ، ليبين للناس مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم.

إنه محمدٌ r.

فإذا ما قال الله عز وجل : ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾.

فإن البيان العملي للصلاة ، كما أرادها الله تعالى ، إنما هي كما صلى النبيُّ r ، وليس هذا الخليط ، العفن ، الذي جاءت رائحته نتنة ، من خلافات المذاهب ، وظلمات الفرق ، وأهواء الجماعات.

إنها كما قال النبي r : (( …وَصَلُّوا ، كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّي.)).

أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وابن خزيمة ، وابن حِبان.

أَمَّا أن يقول قائلٌ : إِن رفعَ اليدين ، عند الركوع ، وعند الرفع منه ، سنةٌ عند المالكية ، وواجبٌ عند الشافعية ، ومستحبٌ عند الحنابلة ، ومكروهٌ عند الحنفية ، وفرضٌ عند الظاهرية.

فنقول : ذلك هو الضلال البعيد ، والقائل بذلك إنما هو الذي قال فيه الله عز وجل :

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. [الجمعة : 5].

فهو لم يفهم من كتاب الله شيئًا ، ولم بفهم لماذا نزل الكتابُ أصلاً ، ولم يعرف مَنِ الذي جعل الله فيه الأُسوةَ الحسنةَ ، ولم يُدرك مَنِ الذي أمره الله بطاعته.

فإذا كان هو كل ذلك ، فهو الذي قال الله فيه :

﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾. [الفرقان : 43 و44].

فهل يكفي أن نقول آناء الليل وأطراف النهار : إن مُحَمَّدًا r بَلَّغ الرسالة ، وأَدَّى الأمانةَ ، وَنَصَحَ الأُمةَ ، وَكَشَفَ الغُمَّةَ ، ثم نعتقد في نفس الوقت أن الإمامَ ، أو الشيخَ ، أو الحُجةَ  ، أو المرجع الديني ، إلى آخر الألقاب ، عند هذا بيانُ الدين ، وعند هذا الدين (أوسع) من ذاك ، وهذا ينفع في النكاح ، وذاك يصلح للطلاق ؟.

ثم في الجانب العملي ، تراه يُصلي على مذهب فلان ، ويتزوج على مذهب أبي فلانة ، ويَحُجُّ على مذهبٍ ثالث ، ويتعبد على طريقة هذا ، ويذكر الله بما شرعه ذاك ؟.

وهؤلاء مثلهم ، مثل هذا القطيع ، الذي فقد رَاعِيَهُ ، من المتصوفة ، الذين يرددون عشرات الآلاف من المرات (لا إله إِلاَّ الله) ، وبعدها يطلبون المددَ ، والعونَ ، والصحةَ ، والرزقَ ، والبركةَ ، والحرثَ ، والنسلَ ، من الأموات المقبورين.

فهؤلاء لو عرفوا (لا إله إِلاَّ الله) ما استغاثوا إِلاَّ به ، وما توكلوا إِلاَّ عليه ، وما أَمَّلُوا إِلاَّ فيه ، وما لجؤوا إِلاَّ إليه.

وهذا الذي نقوله ، لم نقصد به أن يقوم كلُّ مسلمٍ بإخراج الأحكام من كتاب الله ، عز وجل ، بنفسه ، مَنْ طَلَب العلمَ ، ومَنْ لم يطلب ، بدعوى أن الكتاب بَيِّنٌ ، وأن السنةَ مُيَسَّرَةٌ ، بل الذي دعونا إليه ، ونؤكده ، أن تكون الفتوى من العالِم قائمةً على كتابِ الله ، وسنةِ رسوله r ، وأن يحرص السائلُ على تلقي ذلك من العالِم دون غيره.

فقد أمرنا الله ، عز وجل ، أن نسال أهل الذكر في حالة عدم العلم ، فقال سبحانه :

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾. [النحل : 43].

وعندما نسال أهل الذِّكْرِ ، نسالهم عن الذكر الذي هُم أهله ، وليس عن آرائهم هُم ، فلم يأمرنا الله ، عز وجل ، أن نسال أهلَ الرأي ، ولا أهلَ الخلاف ، ولا أئمةَ الطوائف ، ولكن نسال أهلَ الذِّكْرِ ، أهلَ القرآن ، أهلَ الحديث ، وهؤلاء عليهم أن يُخبرونا عن الذِّكْرِ ، وما عدا ذلك فهو لهوٌ ولعبٌ.

فإذا ما قرأنا في كتب العلماء : قال فلان ، أو : اختلف فلان وفلان ، أو: حُكْمُ المسالة عند مذهب فلان ، فهذا لا علاقة له بالذِّكر ، إنما هي مصارعةُ الثيران ، ومبارزةُ الدِّيَكَةِ ، وهذا يخالف الإيمانَ بأن النبيَّ r قد بَلَّغ ما أُنزل إليه من ربه خَيْرَ بلاغٍ ، وبَيَّنَ r.

قال ابن حزم ، رَحِمَهُ الله : ولا يحل لأحدٍ أن يُقَلد أحدًا ، لا حيًّا ، ولا ميتًا ، وعلى كل أحدٍ الاجتهادُ حسب طاقته ، فمن سأل عن دينه ، فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله عز وجل في هذا الدين ، فَفَرْضٌ عليه ، إن كان أجهل البرية ، أن يسأل عن أعلم أهلِ موضعه بالدين ، الذي جاء به رسولُ الله r ، فإذا دُلَّ عليه ، سأله ، فإذا أفتاهُ ، قال له : هكذا قال الله عز وجل ورسولُهُ r ؟ فإن قال له : نعم ، أخذ بذلك ، وعَمِلَ به أبدًا ، وإن قال له : هذا رأيي ، أو هذا قياسٌ ، أو هذا قولُ فلان ، وذكر له صاحبًا ، أو تابعًا ، أو فقيهًا ، قديمًا أو حديثًا ، أو سكت ، أو انتهره ، أو قال له : لا أدري ، فلا يحل له أن يأخذ بقوله ، ولكنه يسأل غيره.

برهان ذلك قول الله عز وجل : ﴿ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾.

فلم يأمرنا ، عز وجل ، قطُّ ، بطاعة بعض أولى الأمر ، فمن قَلَّدَ عالِمًا ، أو جماعةَ علماء ، فلم يُطع الله تعالى ، ولا رسولَهُ r ، ولا أُولي الأَمر ، وإذا لم يَرُدَّ إلى مَنْ ذكرنا ، فقد خالف أمرَ الله عز وجل ، ولم يأمرِ الله ، عز وجل ، قطُّ ، بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض.

فإن قيل : فإن الله عز وجل قال : ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾.

وقال تعالى : ﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ﴾.

قلنا : نعم ، ولم يأمر الله عز وجل أن يُقبل من النافر للتفقه في الدين رَأْيَهُ ، ولا أن يُطاع أهلُ الذكر في رأيهم ، ولا في دينٍ يُشرعونه ، لم يأذن به الله عز وجل ، وإنما أَمَرَ ، تعالى ، بأن يُسأل أهلُ الذكر عما يعلمونه في الذكر ، الوارد من عند الله تعالى فقط ، لا عمن قاله مَنْ لا سَمْعَ له ولا طاعة.

وإنما أمر الله تعالى بقبول نذارةِ النافر للتفقه في الدين ، فيما تفقه فيه من دين الله تعالى ، الذي أَتَى به رسولُ اللهِ r ، لا في دينٍ لم يُشرعه الله ، عز وجل ، ومَنِ ادَّعى وجوبَ تقليد العامي للمفتي ، فقد ادعى الباطلَ ، وقال قولاً لم يأت به قط نصُّ قرآنٍ ، ولا سُنَّةٍ ، وما كان هكذا فهو باطلٌ ، لأنه قولٌ بلا دليل ، بل البرهان قد جاء بإبطاله ، قال تعالى ، ذامًا لقومٍ : قالوا : ﴿إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ﴾.

والاجتهاد ، إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله ، عز وجل ، الذي أوجبه على عباده ، وبالضرورة يدري كلُّ ذِي حِسٍ سليمٍ ، أن المسلمَ لا يكون مسلمًا ، إلاَّ حتى يُقرَّ بأن الله تعالى إلَههُ ، لا إله غيره ، وأن مُحَمَّدًا هو رسول الله r ، بهذا الدين ، إليه ، وإلى غيره ، فإذْ لا شك في هذا ، فكل سائلٍ في الأرض عن نازلةٍ في دينه ، فإنما يسألُ عَمَّا حكم الله تعالى به في هذه النازلة ، فإذْ لا شك في هذا ، ففرضٌ عليه أن يسأل إذا سمع فُتيا : أهذا حكم الله ، وحكم رسوله r ؟ وهذا لا يَعجز عنه من يدري ما الإسلامُ ، وبالله تعالى التوفيق . 

ثم قال ابن حزم : وإذا قيل له ، إذا سأل عَن أعلم أهل بلده بالدين : هذا صاحبُ حديثٍ عن النبيِّ r ، وهذا صاحبُ رأيٍ وقياسٍ ، فليسأل صاحبَ الحديث ، ولا يَحل له أن يسأل صاحب الرأي أصلاً.

برهان ذلك ، قول الله عز وجل : ﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾.

وقوله تعالى : ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾.

فهذا هو الدين ، لا دين سوى ذلك ، والرأي والقياس ظن ، والظن باطلٌ.

ثم ساق ابن حزم بسنده إلى أبي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : (( إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ…)). ((المحلى)) 1/66 و67 و68.

شبهات وحقائق : 

وكيف يقبلون الإيمان ، بأن محمدًا r ، هو الذي كلفه الله تعالى ببيان الرسالة ، وقد بينها ، وهم لم يؤمنوا ، بدايةً ، بأنه هو الإمام الأول ، والأخير لهذه الأُمة ، فإذا كان لهم ألف إمامٍ ، وألف حجةٍ ، وألف أمير ، وإذا كانوا يؤمنون بالخلافِ رحمةً ، والمذاهب عبادةً ، والتصوف عقيدةً ، والسلفية منهجًا ، فلا يُستبعد منهم بعد ذلك ، أن يؤمنوا بأن الإسلام لابد من فهمه وبيانه من جديدٍ .

فخرجت فتنةٌ ، في ليلٍ شديد السواد ، غابت فيه أقمارُه التي كانت ، وأسوده التي صالت وجالت ، ورحلت فيه الجيوش التي حاربت المرتدين عن الإسلام ، قالت هذه الفتنة :

إنه يجب أن نفهم الإسلام بفهم السلف الصالح.

كلمةُ باطلٍ ، أريد بها باطلاً.

ومعناها : إذا جاءت آيةٌ في كتاب الله ، أو حديثٌ من أحاديث النبي r ، فعلينا أن ننظر في فهم السلف الصالح لها ، ثم نعمل بفهمه للآية ، أو للحديث.

ونقول : هذا هو اتِّباع الهوى ، وهذا هو الطريق الأوسع للتحلل من أوامر الله ، لمن باع دينه بثمنٍ بخسٍ.

في البداية ، هذا كلامٌ فارغ ، إذ لادليل عليه ، من كتاب ، أو سُنَّةٍ.

إلا إذا أخرجت شياطينُهم دليلاً ، أيَّ دليلٍ ، كالذي تقول له : لا تشربِ الخمرَ ، فيقول لك : كيف ، والله تعالى يقول في كتابه : وأنتم سُكارى !!.

فنحن نريد آية كاملة من كتاب ربنا ، وليس من كتب ابن القيم ، أو ابن تيمية ، أو أَيِّ ابْنٍ ، أو حديثًا صحيحًا ، عن النبي r ، وليس عن مخلوقٍ غيره ، يقول : افهموا الدين بفهم السلف.

سيقولون لنا : وهل تريدون منا أن نأتي بهذا نصًا ، وهل سيقول الله ذلك نصًا ؟!

نقول : ولما لا ، وقد قال في أيسرَ منها : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ﴾.[المجادلة : 11].

فَفَهمُ الإسلامِ ، وتعاليمِهِ ، أكبرُ عند الله من التفسح قليلاً في مجلسٍ.

مع إيماننا بالكتاب كله ، لا أكبرَ ، ولا أصغرَ ، فكله من عند الله ، سَمِعَتْ له الأُذنُ ، وأطاعت له الجوارح ، ما استطعنا.

ثم يريدون فهم الدين ، بفهم السلف ، ونسأل : أيَّ سلف يريدون ؟.

وإذا ذكر فريقٌ ، أو مذهبٌ ، أو طائفةٌ ، سلفًأ ، هل توافق عليه باقي الطوائف؟.

الحنفية لهم سلفٌ ، والمالكية لهم سلفٌ ، والحنابلة لهم سلفٌ ، والشافعية لهم سلفٌ ، والشيعة لهم سلفٌ ، والخوارج لهم سلفٌ ، والظاهرية لهم سلفٌ ، والقدرية لهم سلفٌ ، والصوفية لهم سلفٌ ، والسلفية لهم سلفٌ ، وهكذا آلاف الطوائف.

والسؤال : أيَّ سلفٍ من هؤلاء ، تريدون منا أن نفهم الإسلام بفهمه؟!.

فإن اختار واحدٌ سلفًا ، نسأله : لماذا تركتَ الباقي ؟.

فإن قال : لأن سلفنا أقرب السلف إلى الحق.

قلنا له : وهكذا قال غيرُك في سلفه ، بل إن كل هؤلاء الذين تركتهم ، رفضوا سلفك ، وأجمعوا على ذلك ، لو تدبرتَ وفهمتَ.

الصوفية ، عَبَدَةُ القبور ، وسدنة الشرك ، يعتبرون سلفهم أقربَ الناس إلى الله.

والشيعةُ ، أعداءُ الله ، والقرآنِ ، والرسلِ جميعًا ، وأعداء جبريل ، والصحابة ، يزعمون أن سلفهم ، هم الذين فيهم النبوة والكتاب.

والحنفية ، أعداء حديث النبي r ، والذين جعلو عقولهم أسبق من شريعة الله ، كما هو واضح بالأدلة في هذا البحث ، يدعون بأن سلفهم هم أصحاب المدرسية الفكرية في الإسلام.

وكذلك باقي من ذكرنا ، ومن لم نذكر ، كل واحدٍ يعتقد أن سلفه أكرمُ وأفضلُ ، من سلفِ غيره.

فإذا قرأنا آية من كتاب الله ، أو حديثًا عن النبي r ، وأردنا فهم الآية والحديث ، أين السلف الذي نفهم بفهمه ، ويقبلُ ذلك الجميعُ ، إن كنتم صادقين. 

فإن اخترت سلفًا ، فقد حَكَّمْتَ في دين الله عقلك وهواك ، الذي اخترتَ بهما ، لأنه لايوجد معك وحيٌّ من الله ، بأن الذي اخترتَ قد أمر الله به.

والمسألة ، كما قال الله عز وجل :

﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهََ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. [القصص : 50].

 فالباحث عن الزنا ، ولكن في إطار الشرع ، لابد أن يكون شيعيًّا ، حيث سيجد الزنا هناك عبادةً ، يتقرب بها الأئمةُ إلى الله ، ولا مانع من تسمية ذلك : بنكاح المتعة!!.

والباحث عن التحلل ، وعدم التقيد بأوامر الله ، ولكن بطريق شرعي ، فلا بد أن يختار سلفه من الحنفية ، الذين عندهم في المسألة الواحدة ، عدة أقوال ، من سلفٍ واحدٍ.

وإذا اتخذت ابن تيمية ، أو ابن القيم ، أو ابن كثير ، أو ابن حجر ، سلفًا لك ، واختلفوا في مسألةٍ ، وكل واحدٍ يزعم دليلاً ، يظن أنه معه ، بأي فهم ستفهم ، إن اخترت واحدًا منهم ، فلا شك أنك اخترت بهواك ، فإن حكمت له بأن دليله أقوى ، فقد رجعت إلى مارجحه عقلك.

وكانت كلمة الباطل ، والتي أريد بها الباطل ، أنك تريدُ أن تفهم الإسلامَ ، بفهم السلف الذي يختاره عقلُك ، وحتى سلفك ، الذين اخترتهم ، إذا وقع بينهم الخلاف ، اخترت من بينهم رأيَ الذي يختاره عقُلك.

فعقلك هذا ، هو سلفك الذي تفهم به الدين ؛

يقول الله تعالى : ﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾. [الكهف : 28].

ويقول سبحانه : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾. [الفرقان : 43].

ويقول سبحانه : ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾. [الجاثية : 23].

لأن دين الله سبحانه وتعالى ، لم ، ولن يكون مجموعةَ آراءٍ ، يختارُ منها مَنْ شاء ما شاء. 

قال سبحانه : ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾. [القصص : 68].

وقال سبحانه : ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا ﴾. [الأحزاب : 36].

خذ هذه ، وافهمها بفهم السلف :

هل يصح أن نقول : صلى الله عليه وسلم ، لأحدٍ غير النبي r ؟.

قال ابن حجر : عن مالك : يُكره.

وقال عياض : عامةُ أهل العلم على الجواز.

وقال سفيان : يكره أن يُصَلَّى إلاَّ على نبيٍّ.

وَوَجَدْت بِخَطِّ بَعْض شُيُوخِي : مَذْهَبُ مَالِك ، لاَ يَجُوز أَنْ يُصَلَّى إِلاَّ عَلَى مُحَمَّد r , وَهَذَا غَيْر مَعْرُوفٍ عَنْ مَالِك , وَإِنَّمَا قَالَ : أَكْرَه الصَّلاَة عَلَى غَيْر الأَنْبِيَاء ، وَمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى مَا أُمِرْنَا بِهِ.

وَخَالَفَهُ يَحْيَى بْن يَحْيَى ، فَقَالَ : لاَ بَأْس بِهِ , وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الصَّلاَة دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ ، فَلاَ يُمْنَع إِلاَّ بِنَصٍّ ، أَوْ إِجْمَاع.

قَالَ عِيَاض : وَاَلَّذِي أَمِيل إِلَيْهِ ، قَوْل مَالِك ، وَسُفْيَان.

وَقَالَتْ طَائِفَة : لاَ تَجُوز مُطْلَقًا ، اِسْتِقْلالاً ، وَتَجُوز تَبَعًا ، فِيمَا وَرَدَ بِهِ النَّصّ ، أَوْ أُلْحِقَ بِهِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضكُمْ بَعْضًا ﴾.

وَهَذَا الْقَوْل اِخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيّ فِي  ((الْمُفْهِم))  ، وَأَبُو الْمَعَالِي مِنْ الْحَنَابِلَة.

وَهُوَ اِخْتِيَار اِبْن تَيْمِيَةَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ.

وَقَالَتْ طَائِفَة : تَجُوز تَبَعًا مُطْلَقًا ، وَلاَ تَجُوز اِسْتِقْلاَلاً , وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَجَمَاعَة.

وَقَالَتْ طَائِفَة : تُكْرَه اِسْتِقْلاَلاً ، لاَ تَبَعًا ، وَهِيَ رِوَايَة عَنْ أَحْمَد.

وَقَالَ النَّوَوِيّ : هُوَ خِلاَف الأَوْلَى.

وَقَالَتْ طَائِفَة : تَجُوز مُطْلَقًا , وَهُوَ مُقْتَضَى صَنِيع الْبُخَارِيّ ، فَإِنَّهُ صَدَّرَ بِالآيَةِ ، وَهِيَ قَوْله : ﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾. ((فتح الباري)) 6359.

هذه مسألةٌ واحدة ، مرت على فهم السلف ، قال بعضهم : تجوز ، وقال بعضهم : تُكره ، وقال بعضهم : لا تجوز ، وقال بعضهم : لا بأس بها ، وَقَالَ بعضهم : لاَ تَجُوز مُطْلَقًا ، اِسْتِقْلالاً ، وَتَجُوز تَبَعًا ، وقال بعضهم : تُكْرَه اِسْتِقْلاَلاً ، لاَ تَبَعًا.

وهناك آراء أخرى ، نكتفي بما ذكرنا.

ونقول : هذا فهم السلف ، نقلناه من كتاب رجل من السلف ، هو ابن حَجَر ، وكلُّ مسائل الإسلام فهمها السلف على هذا النحو ، أو أسوء.

وكلمة الباطل تقول لنا : افهموا الدين بفهم السلف.

وعلى هذا الفهم ، فيجب أن تفهم ، أن الصلاة على أحدٍ غير النبي r حكمها ، كما فهمه السلف ، هو :

تجوز ، وتُكره ، ولا تجوز ، ولا بأس بها ، ولاَ تَجُوز مُطْلَقًا ، اِسْتِقْلالاً ، وَتَجُوز تَبَعًا ، وتُكْرَه اِسْتِقْلاَلاً ، لاَ تَبَعًا.

والآن هل أصبح الدين واضحًا ، أم تشعر كأنك في ظلمات بعضها فوق بعض ، وهل فهم السلف يسر الإسلام ، أم زادنا فرقةً وضياعًا؟.

ولا يحل لك أن تختار واحدًا منهم دون الآخر ، لأنك ستختار بهواك.

أما إذا قلتَ : سأبحث في دليل كل واحدٍ منهم ، وما استند إليه من كتابٍ وسنة ، فمن كان دليله صحيحًا ، وحجته قوية ، أخذتُ بهذا الدليل.

هنا ، أقول لك : وهذا ما أراده الله منك ، وأنت هنا لم تأخذ بفهم السلف ، ولكن ببحث الدليل الذي اعتمد عليه السلف ، فأيُّ سلفٍ ، أو خلفٍ ، اعتمد القرآن الكريم ، وبيانَ النبي r له ، فلزمك الأخذُ بالدليل الذي ساقه إليك.

أما : هل يصح أن نقول : صلى الله عليه وسلم ، لأحدٍ غير النبي r ؟.

فالأمر سهلٌ ، ولا يحتاج إلى فرقة يجوز ، ولا إلى عصابة يُكره ، ولا إلى مذهب المطلق ، والاستقلال والتَّبَعِ.

مباشرةً ، اخفض صوتك ، وادخل على مهلٍ ، واطرح سؤالك على الصادق الأمين ، والنبي الكريم ، هذا هو محمد r ، بن عبد الله ، لم يبعث الله إليك أحدًا غيره ، استمع إلى قوله ، وتعلم من فعله ؛

عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ ، قَالَ :

(( كَانَ النَّبِيُّ r إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَةٍ ، قَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ ، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى.))

أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والنسائي ، وابن خزيمة ، وابن حِبان.

وهنا أغنانا الله تعالى بمحمد r ، وكفانا ، عن فهم السلف والخلف ، ويجوز ، ولا يجوز ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وهذه مسألة أُخرى ، خذها ، واذهب بها إلى فهم السلف :

ما حكم صلاة النافلة قبل صلاة العيدين ، وبعدها ؟

قال ابن حَجَر : وَقَدْ اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي جَمِيع ذَلِكَ ، فَذَكَرَ اِبْن الْمُنْذِر ، عَنْ أَحْمَد ، أَنَّهُ قَالَ : الْكُوفِيُّونَ يُصَلُّونَ بَعْدهَا ، لاَ قَبْلهَا , وَالْبَصْرِيُّونَ يُصَلُّونَ قَبْلهَا ، لاَ بَعْدهَا , وَالْمَدَنِيُّونَ لاَ قَبْلهَا ، وَلاَ بَعْدهَا.

وَبِالأَوَّلِ : قَالَ الأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْحَنَفِيَّة.

وَبِالثَّانِي : قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ ، وَجَمَاعَة.

وَبِالثَّالِثِ : قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَابْن جُرَيْجٍ ، وَأَحْمَد.

وَأَمَّا مَالِك فَمَنَعَهُ فِي الْمُصَلَّى ، وَعَنْهُ فِي الْمَسْجِد رِوَايَتَانِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي ((الأُمّ)) : وَنَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي ((الْمَعْرِفَة)) ، بَعْد أَنْ رَوَى حَدِيث اِبْن عَبَّاس ، مَا نَصّه : وَهَكَذَا يَجِب لِلإِمَامِ ، أَنْ لاَ يَتَنَفَّل قَبْلهَا وَلاَ بَعْدهَا , وَأَمَّا الْمَأْمُوم ، فَمُخَالِف لَهُ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ بَسَطَ الْكَلاَم فِي ذَلِكَ.

وَأَمَّا النَّوَوِيّ فِي شَرْح مُسْلِم ، فَقَالَ : قَالَ الشَّافِعِيّ ، وَجَمَاعَة مِنْ السَّلَف : لاَ كَرَاهَة فِي الصَّلاَة قَبْلهَا وَلاَ بَعْدهَا.

قال ابن حجر : فَإِن حَمْل كَلاَمه عَلَى الْمَأْمُوم ، وَإِلاَّ فَهُوَ مُخَالِف لِنَصِّ الشَّافِعِيّ الْمَذْكُور.

وَنَقَلَ بَعْض الْمَالِكِيَّة الإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الإِمَام لَا يَتَنَفَّل فِي الْمُصَلَّى.

وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : التَّنَفُّل فِي الْمُصَلَّى لَوْ فُعِلَ لَنُقِلَ , وَمَنْ أَجَازَهُ رَأَى أَنَّهُ وَقْت مُطْلَق لِلصَّلاَةِ , وَمَنْ تَرَكَهُ رَأَى أَنَّ النَّبِيّ r لَمْ يَفْعَلهُ , وَمَنْ اِقْتَدَى فَقَدْ اِهْتَدَى ، اِنْتَهَى.

قال ابن حجر : وَالْحَاصِل أَنَّ صَلاَة الْعِيد لَمْ يَثْبُت لَهَا سُنَّة قَبْلهَا ، وَلاَ بَعْدهَا ، خِلاَفًا لِمَنْ قَاسَهَا عَلَى الْجُمُعَة , وَأَمَّا مُطْلَق النَّفْل فَلَمْ يَثْبُت فِيهِ مَنْع بِدَلِيلِ خَاصّ إِلاَّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْت الْكَرَاهَة الَّذِي فِي جَمِيع الأَيَّام , وَاَللَّه أَعْلَم.

والآن ، إذا سألك أحدٌ ، عن حكم صلاة النافلة ، قبل صلاة العيدين ، وبعدها ، وكنت تأخذ بفهم السلف فعليك أن تقول :

لاتصل قبل صلاة العيد ، وصل قبلها ، ولا تصل بعدها ، وصل بعدها.

والنتيجة من هذا ، ولكي تحافظ على عقلك ، لا تذهب لصلاة العيد أصلاً ، وهذا ما أرادوه من الخلاف ، ولذلك قالوا : الخلاف رحمة.

لأنك ، لو استغنيت عن عقلك ودينك ، وخواتيمِ عملك ، وذهبتَ لتصل مع السلف صلاةَ العيدين ، إذا قمت تصل ركعتين قبلها ، سيقول لك الأوزاعي ، والثوري ، وأبو حنيفة : اجلس ، وصل بعدها.

فإذا جلست ، فسوف يغضب منك الحسن البصري وجماعةٌ ، ويقولون لك : قم ، صل قبلها ، ولا تصل بعدها.

فمطلوب منك ، أن تكون القائم القاعد ، في حالةٍ واحدة ، وهذه لا يستطيع أن يفعلها سحرةُ فرعون.

فكيف إذا أدخلنا في هذا البرنامج فريقَ السلف من الشيعة ، والطرق الصوفية ، وجماعة أنصار السنة.

هنا نحتاج إلى ناس يُتقنون أعمال السيرك ، وقراءةَ الكف ، والرملِ ، والنظرَ في أكواب القهوة.

ومسألة ثالثة : حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ r :

(( تَسَمَّوْا بِاسْمِي ، وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي.)).

أخرجه ابن أبي شيبة ، والحميدي ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي.

ولأن الذين عبدوا العِجل يعتقدون أن كلام النبي r يحتاج إلى مُحللين ، ومُحققين ، وناسٍ على خبرة عالية بعلوم حساب المثلثات ، ومواقع النجوم ، فكان عليهم عرض هذا الحديث على المترجمين من السلف ، لفك رموز هذه المعادلة ، اقرؤوا فهم السلف :

قال ابن القيم : فصح عنه r ، أنه قال : 

(( تَسَمَّوْا بِاسْمِي ، وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي.)).

فاختلف الناس في ذلك على أربعة أقوال :

أحدها : أنه لا يجوز التكني بكنيته مطلقًا ، سواء أفردها عن اسمه ، أو قرنها به ، وسواء محياه ، وبعد.

وحكى البيهقي ذلك عن الشافعي.

واختلف هؤلاء في جواز تسمية المولود بقاسم :

فأجازه طائفةٌ ، ومنعه آخرون.

القول الثاني : أن النهي إنما هو عن الجمع بين اسمه وكنيته ، فإذا أفرد أحدهما عن الآخر فلا بأس.

القول الثالث : جواز الجمع بينهما ، وهو المنقول عن مالك.

القول الرابع : أن التكني بأبي القاسم كان ممنوعا منه في حياة النبي r ، وهو جائز بعد وفاته.

قال ابن القيم : والصواب أن التسمي باسمه جائزٌ ، والتكني بكنيته ممنوعٌ منه ، والمنع في حياته أشد ، والجمع بينهما ممنوعٌ منه. ((زاد المعاد)) 2/345.

هذا هو فهم السلف الذي يدعوننا إليه ، وماذا عليك أن تفعل الآن ؟!.

طائفةٌ منعت ، وطائفةٌ أباحت ، وطائفةٌ منعت بشرط ، وطائفةٌ أباحت بشرط ، والطائفتان جاءتا إلى النور الواضح البَيِّن ، لطمسه ، وصد الناس عن سبيل الله.

فإذا كنت سلفيًّا ، وسألك سائلٌ : هل يحل التكني بأبي القاسم ؟.

فوجب عليك أن تقول إن فهم السلف يقول : يجوز ، ولا يجوز ، ويجوز إذا لم يكن اسمك محمدًا ، ولا يجوز إذا لم يكن اسمك محمدًا أيضًا … وتظل مع الفهم السلفي هكذا ، إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث.

وماذا علينا لو توكلنا على الحي الذي لا يموت ، وذهبنا إلى النور الذي جاءنا مع الكتاب المبين ، وقلنا ، في أدبٍ : السلام عليك أيها النبي ، ورحمة الله وبركاته ، لقد اختلف السلف والخلف ، وأنت فَرَطُنا ، رجاءً في الله ، على الحوض ، ما الحكم ؟

استمع ، وأنت أعلم أهل الأرض باللغة العربية ، واستمع وأنت الرجل الزارع في أرضه ، لا تقرأ ولا تكتب ، لتسمع المرأةُ في خدرها ، إلى كلمات لا تحتاج إلى مترجم ، لأنها خرجت من فمٍ طاهرٍ كريم ، قال له ربه :

﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾. [الشورى : 52].

يقول : (( تَسَمَّوْا بِاسْمِي ، وَلاَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي.)).

ونقول : سمعنا وأطعنا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

والجريمة الكبرى في هذا ، وهي من تزيين سوء العمل ، والعياذ برب الفلق ، أن يقول هؤلاء : نفهم الدين بفهم السلف ، بأن نختار من كل فهمٍ أيسره.

لأنهم لو قالوا : نبحث عن الدليل ، من الكتاب والسنة ، لكل فهمٍ ، ونأخذ بأصح الأدلة ، فهنا رجعنا إلى ديننا ، الذي أراده الله منا.

ولكن مصيبة المصائب ، وهي اتباع الهوى ، تتمثل في عملية استعراض مواطن الخلاف عند السلف ، ثم يختار هذا السلفي ما يراه هو سهلاً ، وميسرًا.

– فإذا كان لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي ، ولا ينقض عند أبي حنيفة ، أخذ برأي أبي حنيفة.

– وإذا كان القيء يُبطل الصيام ، مثلاً ، عند أبي حنيفة ، ولا يبطل عند الشافعي ، أخذ بمذهب الشافعي.

  – وإذا كان نكاح المتعة تم نسخه ، وأصبح هو الزنا عند الحنابلة ، ولكنه حلال عند ابن جريج ، وهو من كبار السلف ، وكذلك عند طوائف الشيعة ، أخذ بالأخير ، لأنه سيزني بمن شاء ، ومتى شاء ، والملائكة من حوله تقول : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، كما يدعي أئمة الشيعة ، من الزناة والمخمورين.

وكذلك يظل يختار بهواه ، من كل سلفٍ ما تهاون فيه هذا السلف ، حتى يرى نفسه ، قد خرج من الإسلام ، كما يخرج السهم من الرَّمية. 

إن كتاب الله تعالى ، وحديثَ محمد r ، لم يأتيان إلينا بلغةِ أهل الهند القديمة ، ولا بلهجة قدماء أهل الصين ، وما جاءت إلينا صلاةُ النبي r مُشَفَّرَةً ، والزكاةُ عنه في صورة معادلات الكيمياء ، والحجُّ على هيئة ألغازٍ ورموز.

بل نزل إلينا كتابٌ كريم ، بلغتنا نحن ، من تلك الحروف التي نكتبُ بها ونتكلم ، هي الحروف عينُها : ألف ، ولام ، وميم ، وصاد ، وقاف ، وعين ، إلى آخر هذه الحروف التي تخرج من فمك؛

قال رب العالمين : ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾. [يوسف : 1و2].

ويقول سبحانه : ﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ ﴾. [الرعد : 37].

ويقول سبحانه : ﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾. [طه : 113].

ويقول سبحانه : ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾. [الشعراء : 192 : 195].

ويقول سبحانه : ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾. [الزمر : 27 : 28].

ويقول سبحانه : ﴿ حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾. [فصلت : 1 : 3].

ويقول سبحانه : ﴿ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾. [الزخرف : 1 : 3].

ويقول سبحانه : ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾. [الشورى : 7].

ويقول سبحانه : ﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ﴾. [الأحقاف : 12].

مصادر الرسالة :

الرسالة ؛ هي القرآنُ الكريم ، وسُنَّة محمدٍ r.

وما عدا ذلك ، فاجمعه ، وأَضِفْه على الميتة ، والدم ، ولحمِ الخنزير ، وما أُهل به لغير الله.

فهذه رسالة الله ، التي نزلت علينا من السماء ، كتابٌ أُحكمت آياته ، وسنةٌ لنبيٍّ كريمٍ لا ينطق عن الهوى ، اقرأ ، ماذا جاءك من ربك :

يقول الله ، سبحانه : ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾. [الأنعام : 92].

ويقول الله ، سبحانه : ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾. [الأنعام : 155].

ويقول الله ، سبحانه : ﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾. [الأعراف : 2].

ويقول الله ، سبحانه : ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾. [هود : 1].

ويقول الله ، سبحانه : ﴿ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾. [إبراهيم : 1].

ويقول الله ، سبحانه : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾. [ص : 29].

ويقول الله ، سبحانه : ﴿ حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾. [فصلت : 1 :4].

هذا هو الكتابُ الذي فيه دينُك ، بين لك ربُّ العالمين ، أنه :

﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾.

﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ﴾.

﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾.

﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾.

هذا هو مصدر الرسالة الأول ، ومرجعها الأول.

أما مصدرها الثاني ، والأخير ، فهو ماكان من سنة النبي r ؛

يقول سبحانه : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾. [النساء : 170].

ويقول سبحانه : ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾. [البقرة : 151].

ويقول سبحانه : ﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾. [البقرة : 231].

ويقول سبحانه : ﴿ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾. [النساء : 113].

ويقول سبحانه : ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾. [الجمعة : 2].

والحكمة هنا هي كل ما ورد عن النبي r ، من قولٍ ، أو فعلٍ ، أو تقريرٍ.

وصدق الله : ﴿ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾. [المائدة : 15].

* * *

الباب الثاني : الرسول r

هل هناك من يُصَدِّقُ أَن الله قد بعث رسولاً r ، لهذه الأُمة ، ليخرجهم به من الظلمات إلى النور ؟.

قد يعتقدُ البعضُ أن هذا السؤالَ غريبٌ ، في وسطِ أُمَّةٍ أَجمعت أَنها تُؤمن بذلك.

وأقول : إنها أُمةٌ أَكثرُها يقولون ذلك.

ولكنَّ الإيمانَ شيءٌ ، والقولَ شيءٌ آخرُ.

والدليل هو هذا الواقع ، والخلافُ الذي لا يَرْحَمُ ، وتَفَرُّقُنَا إلى مذاهب ، وجماعاتٍ ، وطُرُقٍ ، وشِيع ، وبالتالي ، فكل مذهبٍ وله إمامٌ ، وكل جماعةٍ ولها أميرٌ ، وكل طريقةٍ ولها شيخٌ ، وكل شيعةٍ ولها حجة ، وكُلُّ حِزْبٍ بما لديهم فرحون.

لو آمنا أن مُحَمَّدًا r قد أرسله الله ، تعالى ، إلينا جميعًا ، لرجعنا إليه في شأننا كُلِّهِ.

لقد أرسل الله إلينا رسولاً r ، ويجب أن نعرف ذلك جيدًا ، وهذا الرسول r لم يأت لنحتفل به في الموالد ، أو لكي ننظم فيه قصائد شعر.

ولا بد أن تعرف اسم النبي الذي يتبعونه ، لكي لا تتعجب من عرض هذا السؤال ، وسنذكر مجرد أمثلة ، لتنطلق منها ، لمعرفة حقيقة الأمر :

– إذا أنتَ قرأت أمر محمد r ، للبراء بن عازب ، عندما قال له :

(( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ ، ثُمَّ قُلِ :  اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِى إِلَيْكَ …)). الحديث ؛

أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي.

ماذا ستفعل ؟ ستأخذ الحديث ، وتذهب به إلى أرباب الفرقة والخلاف ، سيقولون لك : هذه سنة اختيارية ، من فعلها أُجِر ، ومن لم يفعلها لم يأثم ، وستأخذ بقولهم ، وإذا أتيت مضجعك ، فلن تتوضأ وضوءك للصلاة ، ولن تتضطجع على شقك الأيمن ، ولن تقول شيئًا.

وإذا سئُلت : لماذا لم تفعل ؟ فستقول : (قالوا).

هل عرفت الآن اسم النبي الذي تتبعه ؟ اسمه : (قالوا) ، وقالوا هذا لم يُصل الله عليه ، ولم يُسَلِّم.

– مثال آخر : إذا قال قرأت : عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ الله عَنْهَا ؛

(( أنَّ النَّبِيَّ r كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ ، بَدَأ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ تَوَضَّأ كَمَا يَتَوَضَأ لِلصَّلاَةِ ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ الْمَاءَ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ . ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأسِهِ ثَلاثَ غُرَفٍ ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جَسَدِهِ كُلِّهِ.)).

  أخرجه مالك ، والحميدي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي.

ماذا يفعلون بعد سماع ما فعله النبي r ؟.

يأخذون الحديث ويذهبون به إلى مستنقع قيل وقال.

المذهب الأول يقول : البدء بغسل اليدين ليس مطلوبا ، فقد قال ابن حجر (ملحوظة : ابن حَجَر هو شارح فتح الباري ، ولم يكن نبيًّا ، ولم يدع الرجل ذلك ، ولم يأمر الله بطاعته ، في كثير أو قليل) ، قال ابن حَجَر : قوله : بدأ فغسل يديه ، يُحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما من مستقذر. ((فتح الباري)) (245) وعليك مراجعته لأن ابن حجر ذكر عدة احتمالات أخرى.

والمذهب الثاني يقول : الوضوء قبل الغسل مندوب ، قال ابن حجر : ويُحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة ، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد في الغسل ، ويحتمل أن يكتفى بغسلها في الوضوء عن إعادته.

ثم قال : ونقل ابن بطال الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل ، وهو مردود ، فقد ذهب جماعةٌ ، منهم أبو ثور ، وداود ، وغيرهما ، إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث.

والمذهب الثالث يقول : تخليل أصول الشعر غير واجب.

والرابع يقول : صب الغرف الثلاث على الرأس هيئة.

وضاع الحديث بين قيل وقال ، وإذا سألتهم : رجل اغتسل من الجنابة ، لم يبدأ بغسل يديه ، ولم يتوضأ ، ولم يخلل أصول شعره ، ولم يصب على رأسه ثلاث غرف ، وأفاض الماء على جسده ، سيقولون لك : غسله صحيحٌ.

وإذا سألتك : لقد ترك أربعة أفعالٍ للنبي r ، في حديث واحدٍ ، وفعل شيئًا واحدًا ؟!.

ستقول لي : قالوا .

سأقول لك : احفظ اسم نبيك ، (قالوا).

– مثال آخر : إذا قرأت هذا الحديث : عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ، رَضِىَ الله عَنْهُمَا ، أَخْبَرَهُ ؛

(( أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ ، حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ ، كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ r ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ ، إِذَا سَمِعْتُهُ.)).

أخرجه الحميدي ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي.

ماذا ستفعل ؟ هاهو عبد الله بن عباس يخبرك أن المسلمين في عهد النبي r كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر بعد الصلاة المكتوبة.

وهذا يتعارض مع فلسفة الفكر السلفي ، وعباقرة الأدب اليوناني .

وسبأخذون الحديث ، ويذهبون به إلى هناك ، وما أدراك ما هناك ؟.

هناك حيث يتم تفريغ الحديث من العمل به ، وذلك بعد عرضه على نفس المجموعة التي تخصصت في قتل أفعال النبي r وأوامره.

اقرأ معي : قال النووي : هذا دليلُ لما قاله بعضُ السلف أنه يُستحب رفع الصوت بالتكبير والذكر عقب المكتوبة ، وممن استحبه من المتأخرين : ابنُ حزمٍ الظاهري ، ونقل ابن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة ، وغيرَهم ، متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر والتكبير. ((شرح النووي لصحيح مسلم)) 5/84.

هل أنت الآن تعرف نبيك وسط هذا اللغط ، واستحب فلان ، وأصحاب المذاهب المتبوعة ، وأنهم متفقون على مخالفة محمد الذي r ؟!.

أكمل القراءة ، من أجل أن ترى باقي فصول الجريمة.

يقول النووي : وحمل الشافعيُّ هذا الحديثَ على أنه (أي النبي r) جهر وقتًا يسيرًا ، حتى يُعلمهم صفةَ الذكر ، لا أنهم جهروا دائمًا ، قال النووي : فاختار (أي الشافعي) للإمام والمأموم أن يذكرا الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة ، ويُخفيان ذلك ، إلاَّ أن يكون إمامًا يريد أن يُتعلم منه فيجهر حتى يَعلم أنه قد تُعلم منه ثم يُسِرُّ. المصدر السابق

الهدف في النهاية شيءٌ واحدٌ ، النبي r ومن معه رفعوا صوتهم بالذكر ، وأصحاب المذاهب المتبوعة أجمعوا على إخفاء الصوت بالذكر.

والشافعي يرى أن رفع الصوت من النبي r كان وقتًا يسيرا ، للتعليم.

ولم يسأل أحدٌ الشافعيَّ من أين أتى بهذا الادعاء على النبي r ؟ وما هو دليله ؟ وأين إسناده ؟.

ولكن الشافعي عند هؤلاء لا يُسأل عما يفعل ، والعياذ برب الناس.

ولو خرج مخالف للشافعي في المذهب ، وقال له : إن النبي r قد رفع صوته بالقرآن في صلوات المغرب ، والعشاء ، والفجر ، وذلك للتعليم ، ومن الأفضل الإسرار.

هنا يطالبك الطائفون حول الللات والعُزَّى ومناة ، بالدليل على هذا ، قل لهم الدليل في نفس الجراب الذي أخرج لكم منه الشافعي دليل إسرار الذكر بعد الصلاة ، فسمعتم له ، وعصيتم محمدًا r.

أما أنت ، فماذا ستفعل ؟! والذي ستفعله هو الذي سيحدد لك اسم نبيك ، إن كان محمدًا r  ، أو كان : (قالوا).  

مكانة الرسول r :  

يقول تعالى : ﴿ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾. [التوبة : 128].

ويقول تعالى : ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾. [آل عمران : 164].

ويقول تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾. [الجمعة : 2].

– وهو r دعوة إبراهيم ، وإسماعيل ، إذ قالا : ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴾. [البقرة : 129].

– وهو بشارة عيسى r : ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾. [الصف : 6].

وهو الذي زَكَّى الله هَدْيَهُ . فقال : ﴿ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ﴾ . [النجم : 2] . 

وَزَكَّى الله نُطْقَهُ ، فقال : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ . [النجْم : 3]. 

وَزَكَّى الله عِلْمَهُ ، فقال : ﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ﴾ . [النجم : 5]. 

وَزَكَّى الله فُؤَادَهُ ، فقال : ﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم : 11]. 

وَزَكَّى الله بَصَرَهُ ، فقال : ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ . [النجم : 17]. 

وَزَكَّى الله خُلُقَهُ ، فقال : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم : 4]. 

وزَكَّاهُ الله كله ، فقال : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ . [الأنبياء : 107].

 فهذا هو الذي ندعو أنفسنا ، وندعوكم ، إلى اتباعِه ، والبحثِ عن هَدْيِه ، قبل أن يأتيَ يومٌ يتبرأُ منكم هؤلاء الذين خلعتم عليهم ألقاب : مشايخ الإسلام ، وأئمة الإسلام ، وفقهاء المسلمين ، وآية الله العظمى .

أَمْرُ الله عز وجل بطاعته ، وطاعةِ رسولِهِ r :

إننا لا نقترف ذنبًا ، ولا نأتي منكرًا ، عندما ندعو إلى طاعةِ الله ، وطاعةِ رسولِ الله r ، وكلُّ من يجد في صدره حرجًا ، وفي قلبه اشمئزازًا ، عندما يسمع بطاعةِ الله ، وطاعة رسولهِ r ، وَنَبْذِ ما عدا ذلك ، وطرحِ المذاهب ، والفرق ، والطرق ، فعليه أن يراجع إيمانَهُ. 

يقول الله سبحانه : ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾. [الزمر: 45].

ولو علم كثيرٌ من الناس قَدْرَ النبي r ، وقَدْرَ رسالته ، والأمرَ الذي كلفه الله تعالى به ، لعادوا سريعًا إلى النور الذي أُنزل معه. 

فأهل الأرض جميعًا ، لو جمعناهم في صعيدٍ واحدٍ ، عالمُهم وجاهلُهم ، لا يحق ، بإجماعهم ، أن نضع رأيهم في كِفَّةٍ ، ونضع في الأخرى هَدْيَ مُحَمَّدٍ r .

يقول الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ﴾. [الأحزاب : 45 : 46].

إنه الشاهد ، والمبشر ، والنذير ، والداعي إلى الله ، بإذنٍ من الله.

فهل حمل هذه الصفات ، أو حمل نصفها ، أو حمل واحدةً منها كلُّ أئمة أهل الأرض مجتمعين ، لا والله ، ولوجئنا بضعف ضعفهم عددًا . 

هل مع واحدٍ من هؤلاء الأنداد إذنٌ من الله بأن يُطاع ؟!.

اقرأ قول الله : ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾. [البقرة : 97].

وهذا النبيُّ الكريمُ ، صاحبُ المقامِ المحمودِ ، وصاحبُ الحوضِ المورودِ ، هو الذي أمرك الله ، تعالى ، بطاعتِه ، ولزومِ هَدْيه ، واتخاذِه الأُسوةَ الحسنةَ ، وهذا لم يجعله الله تعالى ، بل ولم يجعل شيئًا منه ، في هذه الأُمة ، لغير محمدٍ r.

فإذا قرأ المسلمُ باسم ربه كما أُمِرَ ، ونظر في كتاب خالقه ، للبحث عن الطاعة ، والمُطَاع ، لوجد أن الله سبحانه بَيَّنَ ذلك وفَصَّلَ ، في إحكامٍ لا يتولى عنه إِلاَّ مَنْ سفه نفسَهُ . 

– فجعل طاعة رسوله r من طاعته : ﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ . [النساء : 80]. 

– وهذه الطاعة صدرت بإذنه عز وجل : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ﴾.  [النساء : 64]. 

– وجعل سبحانه الرحمة والفلاح في اتباع رسوله r : ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ . [آل عمران : 132].

– وقال سبحانه : ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. [الأعراف : 156و157].

ويقول سبحانه : ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ . [التوبة : 71]. 

– وفي اتباعه الهدايةُ : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾. [الأعراف : 158].

– وفي اتباعه الفوزُ : ﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ .  [النور: 52]. 

– وفي اتباعه دليلُ الإيمان : ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ . [الأنفال : 1]. 

وقال سبحانه : ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ . [النور: 51].

– وفي اتباعه علامةُ حب الله : ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾  [آل عمران : 31].

– وفي اتباعه الإيمان باليوم الآخر : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾. [الأحزاب : 21]. 

هل قرأتَ قول الله سبحانه : ﴿ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ ﴾ ؟.

وهل قرأتَ قوله تعالى : ﴿ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾؟.

فهل نقترف سفاهةً ، ونُقارن هَدي محمد r ، بآراء الفقهاء ، ومشايخ الطرق ، وأمراء الجماعات ، وأئمة الشيعة؟!.

وهل نقبل بعد ذلك من أحدهم أن يقول : وهذا عندنا فرض ، فيرد عليه صاحب مذهب آخر ليقول : لا ، لنفس المسالة : هذا عندنا واجب ، فينتفض ثالث ليقول : هذا عندنا مستحب ؟. 

لقد جعلوا من الخلافِ رحمةً ، والفُرقةِ نعمةً ، بل وقذفوا أتباعَ الرسول r ، الذين اتخذوه أُسوةً وإمامًا وهاديًا ، لا يصدرون إِلاَّ عن حديثه ، ولا يرتوون إِلاَّ من نبعه ، قذفوهم بالجمود ، والتطرف ، والشذوذ ، بل تسمع من هنا وهناك من يصرخ في الناس محذرًا بأن اتِّبَاعَ الرسولِ r وحده فتنةٌ تُؤدي إلى ضياع الإسلام.

كيف يقبل المسلمُ أن يَرُدَّ أمره لإنسانٍ مثلِهِ ، لم يأت بسلطانٍ من الله ، ولم يُكلف برسالةٍ ، بل جاء متطفلاً من تلقاء شيطانه.

قال سبحانه : ﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهََ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾. [القصص : 50].

جزاء وَحُكْمُ من عصى : 

لا ريب أن الضلاَل المبين ، والخيبةَ والخسرانَ ، صفاتٌ متلازمةٌ ، في الدنيا والآخرة ، لكل من ترك صراط الله المستقيم لهواه ، أو لهوى غيره ، لرأيه ، أو لرأي غيره .

قال تعالى : ﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ . [آل عمران : 32].

وقد يقول قائل : إن هذه الآيات نزلت في الكفار. 

ونقول : نعم ، هي في الكفار ، لم نقل غير ذلك ؛

وانظر على هذا المصير المظلم الذي ينتظر كلَّ من أطاع غيرَ الله ، وغيرَ رسوله r ؛

 يقول الله عز وجل : ﴿ إِنَّ اللَّهََ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ﴾ . [الأحزاب : 64 : 68]. 

 هل تدبرتَ هذه الايات ، وسمعت صراخهم في جهنم وندمهم ، وأين ومتى وكيف ينفع الندم ؟ ؛ ﴿ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ ﴾.

إذن فمن أطاعوا في الدنيا ؟ ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ ﴾ . 

نعم ، والذي بعث مُحَمَّدًا بالنورِ كُلِّه ، والهُدى كله ، والرحمة كلها ، فما عند المتبوعين إِلاَّ الضلالُ المبين ، وسيأتي اليومُ الحق الذي يَعَضُّ هؤلاء على أيديهم ؛ 

﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً ﴾  [الفرقان : 27 : 29].

فالناس رجلان ؛ رجل يبحث عن حكم الله ، وهَدْي رسوله r ، إذا أراد فتوى في طهارة ، أو صلاة ، أو زكاة ، أو حج ، أو معاملات ، أو في أي باب من العلم المتصل بدينه ، حمل هذه الفتوى ، باحثًا سائلاً عن هَدي الرسول r فيها ، فإذا ما وقف عليه ، عض على ذلك بالنواجذ ، ووضع هديَ رسول الله r موضع نور عينيه وأغلى ، وإن خالفه في الحُكم مَنْ على ظهرها. 

ورجلٌ آخر ، إذا أراد فتوى استأنس برأي هذا ، واستحسن قولَ هذا ، واستوسع مذهب ذاك ، وأخذ يتقلب بين فلان وفلان ، واختلف فلان وفلان.

فهذا الذي حذر الله تعالى عباده المؤمنين ، من أن يكونوا على شاكلته ؛

قال تعالى : ﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾. [الأنعام : 71].

وهو الذي يُنادي بالويل على نفسه ، صارخًا في دركات جهنم ﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً ﴾.

 فإما أن تكون في دينك متبعًا للرسول r ، وإما أن تكون تابعاً لـ(فلان) ، أَيِّ فلان.

ولا تظن ، ولا تعتقد ، أنه هناك فرقٌ بين فلانٍ وفلانٍ ، أو أن اتِّبَاع فلانٍ أفضلُ من اتِّباع فلان ، فالآية أطلقت الأمرَ ، وجعلته نَكِرَةً ، لكي يشمل كلَّ من اتبعه الناس ، عدا رسول الله r ، ونعوذ بالله ربِّ الفلق .

إن هذا الموقف النادم يوم القيامة يتبعه موقفٌ آخر ، لا يقل في السوء عنه ؛

فقد عاش هؤلاء على مستنقعات التقليد ، يتخذون أندادًا من دون الله ، يُحبونهم كحب الله عز وجل ، وهذا أصبح جليًّا لا لبس فيه ، من خلال الوقوف على ردهم لحديثِ النبي r ، لمجرد أن إمامًا ، خالفَ هذا الحديث ، فصارت مخالفتُه هي الأصل ، وأصبح الحديثُ هو المخالِف ، وتحول هذا الإمام الأَسكُّ إلى الإمام الأعظم .

وصدق رب العالمين : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ﴾.

وفي جانب النور مازال هناك خير : ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾.

ويأتي اليوم الحق ،  ويرى التابعً والمتبوعُ نارَ جهنم ، فيتبرأُ هذا من ذاك ، ويتمنى هذا أن يتبرأ من فلان.

يقول الله سبحانه : ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ . [البقرة : 166 : 167]. 

وهذه الأيات تستخدمها كل فرقةٍ وطائفةٍ ضد الطائفة الأُخرى ، مع أن الأمر لا يحتاج إلى بيان أعلى من هذا البيان ؛

﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ ﴾ كلُّ الذين اتبعَهُمُ الناسُ ، من سادةٍ ، وكبراء ، وأئمةٍ ، ومشايخَ ، وأُمراء ، كلُّ الذين اتُّبِعُوا.

﴿ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ﴾ ، من كل الذين اتبعوهم. 

فكل مَنِ اتبع أحدًا (فلانًا) أيَّ أحدٍ ، وأيَّ فلان ، وأخذ دينه عن رأيه ، فإن إمامَهُ ، أو شيخَهُ ، أو أميرَهُ ، أو مرجِعَهُ الديني ، عند الشيعة ، سيتبرأُ منه يوم القيامة ، وسوف يتمنى التابعُ أن تكون له عودةً إلى الدنيا ، من أجل أن يَتبرأَ من هذا الشيخ ، وذاك الإمام . 

ونعود ونكرر : إذا أفتى الشيخُ ، أو الإمامُ ، بكتابِ الله ، وسُنةِ رسول الله r ، مع ترك الأحلديث الضعيفة ، فوجب على المسلم اتباع ما أفتى به ، لأن المسلم في هذه الحالة لا يتبع الشيخ والإمام ، ولكنه يتبع القرآنَ ، وهديَ مُحَمَّدٍ r .

ولكن إذا قال الإمام : المسالة فيها قولان ، والشافعية يقولون كذا ، والمالكية رأيُهم كذا ، وشيخ الإسلام أفتى بكذا ، ورأي أهل البيت كذا ، فهذا القول ، والرأي ، والفتوى ، لا قيمة لشيءٍ منها ، بل ذلك من عمل الشيطان ، إذ لا سلطان معهم من الله ، والمسلم لا يُلْزَمُ أن يهتدي برأي إنسانٍ آخر ، لم تنزل عليه رسالةٌ من السماء ، كائنًا من كان ، ولو قام المسلمُ بجمع كل آراء المتقدمين والمتأخرين ، والتي لاسند لها من كتابٍ وسنةٍ ، ورمى بها جميعًا ، بل كَفَرَ بها جملةً ، وتمسك بكتاب الله ، وسنة رسولهِ r ، فقط ، لاهتدى إلى صراط مستقيم .

السؤال في القبر ، ويوم القيامة : 

رجلٌ واحدٌ ستسأل عن اتباعك له في القبر ، ورجلٌ واحدٌ سُتسأل عنه يوم القيامة ، ورجلٌ واحدٌ سَيُسأل عنه الكفار عند دخولهم جهنم ، ورجلٌ واحدٌ سيفرح المؤمنون باتباعهم له بعد استقرارهم في جنات النعيم .

وهذا الرجل هو واحدٌ في الحالات كافة ، من القبر إلى الجنة ، ليس إمامًا لمذهبٍ ، ولا شيخًا لطريقة ، ولا أميرًا لجماعة ، ولا آية ، أو حجة ، لطائفة. 

إنه الرسول r ، ولو كره المشركون. 

فكل أُمةٍ ستُسأل عن رسولها ، وأُمتنا تُسأل عن محمدٍ r

هناك حيث يتبرأ كلُّ الذين اتُّبِعُوا ، من كلِّ الذين اتَّبَعُوا ، واحدٌ فقط يتعرف عليك ، إن اتبعتَهُ ، وصَدَقْتَ في اتباعه ، حيث سرتَ وراءه ، وجعلتَه لك إمامًا ، وأُسوةً ، وقدوةً ، ورسولاً. 

والآن مع سؤال القبر ، يخبرنا عنه رسول الله r

عَنْ فَاطِمَةَ بنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أسْمَاءَ بنْت أبي بَكْرٍ . قَالَتْ : 

(( أَتَيْتُ عَائِشَةَ ، رَضِيَ الله عَنْهَا ، زَوْجَ النَّبِيِّ r ، حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي ، فَقُلْتُ : مَا لِلنَّاسِ ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى السَّمَاءِ ، وَقَالَتْ : سُبْحَانَ اللَّهِ . فَقُلْتُ : آيَةٌ ، فَأَشَارَتْ : أَيْ نَعَمْ . قَالَتْ : فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي الْمَاءَ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ r حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا ، حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ ، أَوْ قَرِيباً ، مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، لاَ أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ ، فَيُقَالُ لَهُ : مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ ، أَوِ الْمُوقِنُ ، لاَ أَدْرِى أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ ، فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ r ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا . فَيُقَالُ لَهُ : نَمْ صَالِحًا ، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ ، أَوِ الْمُرْتَابُ ، لاَ أَدْرِي أَيَّتَهُمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ ، فَيَقُولُ : لاَ أَدْرِي ، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئاً فَقُلْتُهُ.)).

أخرجه مالك ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم.

فهذا الحديث الشريف ، بما فيه من بيان لا لبس فيه ، أقام الحجةَ على كل إنسانٍ ، بأن الذي جاء بالهُدى ، ووجب تَلبيةُ دعوته ، والإيمانُ به ، واتباعُهُ ، هو محمدٌ r ، وأن الذي يجيبُه ، ويؤمنُ به ، ويتبعُهُ ، هو المؤمنُ الموقنُ ، الذي يستحق النومَ الصالحَ في قبره حتى يُوفَّىَ أجرَه الطيبَ يوم القيامة. 

أما المنافق والمرتاب ، فإنه لا يدري ، لا يعرف الرجلَ الذي أرسله الله لهدايته ، كان يسير وراء الناس ، يُرَدِّدُ ما يُرددون ، ويَرُدُّ أمرَه إلى ناسٍ لم يرسلهم الله بشيءٍ ، ولم ينزل عليهم شيءٌ ، أَعجبهم رأيُهم ، فنشروه بين المنافقين ، على أنه الشرع والدين . 

لن تُسأل إِلاَّ عن مُحَمَّدٍ r ، ولن تنجوَ إِلاَّ برحمةِ الله ، التي اتبعتَ بها مُحَمَّدًا r ، ولن يُقبل منا عملٌ إِلاَّ إذا صدر عن هَدْي محمد r

– عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r

(( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ.))

أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة.

ومن سؤال القبر، ننتقل إلى أسئلةٍ أخرى ، تُبين لمن كان له قلبٌ ، أن اتِّبَاعَ أصحاب الرأي إنما هو وبالٌ على صاحبه في الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد ، وأن الناس لن يُسألوا إلا عن الرسل. 

يقول الله سبحانه : ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾. [الزمر : 71]. 

وقال عز وجل : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾. [غافر : 49 : 50]. 

ويقول رب العالمين : ﴿ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ . [المُلك : 6 : 8]. 

فسؤال خزنةِ جهنم أيضًا سيكون عن الرسل ، الذين أرسلهم الله عز وجل لِيُطاعوا ، وليس عن إِمامٍ استَخَفَّ عقولَ أتباعه ، فشرع لهم دينًا آخر ، وسنةً أُخرى ، ثم أَلْقَوْا في قلوب الناس الرعبَ ، بالألقاب التي خُلعت عليهم ، حتى صار الدعاةُ إلى الله ، وإلى طاعةِ رسولِهِ r ، دون أي طاعةٍ أُخرى ، صاروا غرباءَ ، في وسطِ هذا القطيع المندفع على غير هُدًى ، لا يعرف له ربًّا ، ولا يَدْرِي له رسولاً

وعندما يشعر المنتفعون بفرقة الأُمة بأن داعيةً ما ينادي بالعودة إلى حديث رسول الله r ، فجأة ترى هؤلاء الموتى تحركوا ضده بتأليف الكتب ، ورمْيِهِ بكل ما تجمع لديهم من أدوات الكذب ، فيتهمونه بأنه يُكفر علماء الإسلام ، وأنه يهدم الدين ، وأن عقيدته عقيدة الخوارج . 

شبهاتٌ وحقائق :

كُلُّ من درس الخلافَ بين المذاهب ، والفِرق ، والطرق ، والطوائف ، يعلم أنه ما من شيء إِلاَّ وتنازعوا فيه ، واختلفوا ، بل إن المذهبَ الواحدَ ينقسم على نفسه في كل مسألةٍ ، ويذهب فريقٌ بالحكم إلى المغرب ، وآخرُ إلى المشرق ، فالذي ينقض الوضوءَ على مذهب فلانٍ ، يتحول إلى سنةٍ عند مذهبِ غيره ، بل عند نفس المذهب ، خلافٌ بين المتقدمين والمتأخرين ، لا عاصم منه إِلا رحمةُ الرحمان الرحيم . 

ودائمًا يُحاول هؤلاء العثورَ على ما يتعلقون به ، ويُعلقون عليه اتباعَهم لساداتهم ، فظنوا أنهم وجدوا بُغيتهم في قول الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ الآية . [النساء : 59].

فقالوا : إن قول الله سبحانه : ﴿ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ دليلٌ على وجود طاعةٍ ثالثةٍ غيرِ طاعة الله ، وطاعة الرسول r ، ثم انقسم هؤلاء في تفسير أُولي الأمر ، كلٌّ حسبِ منفعته ؛

 فالمتبعون للمشايخ والأئمة قالوا : أولوا الأَمر هم العلماء.

ومشايخ السلطان قالوا : أولوا الأَمر هم الرؤساء والملوك.

وأخيرًا ظهر ما يُسمى بالجماعات الدينية ، ففي كل شارعٍ جماعةٌ ، وكل جماعةٍ لها أميرٌ ، وكل أميرٍ يحكم بالكفر ، وعدمِ المغفرة ، والطردِ من رحمة الله ، والخلودِ في جهنم ، على جماعةِ غيره ، وبئس المصير ، فأميرُ كلِّ جماعةٍ ، عند أتباعه ، هو وليُّ الأمر.

والشيعة قالوا : إن أولياء الأمر هم : كل من اتهم القرآن بالتحريف ، وسب أصحاب رسول الله r ، وزنا ، وسمى الزنا نكاح المتعة ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وسماه الخُمُسَ ، وترك صلاة الجمعة انتظارًا للإمام الذي غاب إلى الأبد. 

وهكذا تنازعوا في الآية التي نزلت لإنهاء النزاع. 

فالآية لم تجعل لأولي الأمر طاعةً مطلقةً ، بل مقرونةً بطاعةِ الله ، وطاعةِ رسوله r .

فالله تعالى لم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم . بل قال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾.

فالآية هنا جعلت طاعةَ أُولي الأمر تابعةً لطاعة الله ، ورسوله r ، وليست طاعةً مفردةً. 

والآية لم تتوقف عند هذا ، بل فيها : ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ . 

فعندما يقع النزاع ، ويأتي ردُّ الأمر ، تتلاشى كلُّ طاعةٍ ، عدا طاعةِ الله ورسوله r .

ولكن مَنْ هم أولوا الأمر الذين ورد ذكرهم في الآية الكريمة ، هل هم علماءُ الأُمة ، أم حُكَّام الناس ، من الملوك ، والأُمراء ، والرؤساء ، أم أئمة المذاهب والفِرق ، أم مشايخ الطرق ، أم النجس من أئمة الشيعة ؟.

إن هؤلاء جميعًا جعلوا هذه الآية مصدرًا للدجل ، والاحتيال ، والتحكم في خلق الله.

وهناك بلادٌ كاملة ، كانت مسلمةً ، يعيش حكامها الآن ، على الربا ، والزنا ، وموالاة الكفر ، وجعلوا حولهم حاشيةً من علماء الرؤساء والملوك ، فإذا ما اعترضتَ ، أو سألتَ ، قال لك مُفتي المَلِك : ﴿ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾.  

إن الآية أمرتنا عند النزاع أن نرد الأمرَ إلى الله والرسول r ؛ ونحن هنا قد تنازعنا في معرفة أولي الأَمر ، فنردُّ الأمرَ كما أُمرنا ؛ 

(( عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ الله عَنْهُمَا ؛ ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ ، قَالَ : نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ ، إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ r فِي سَرِيَّةٍ.)).

أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي.

فالآية كما بين لنا عبد الله بن عباس ، صاحبُ رسولِ الله r ، نزلت في سريةِ عبد الله بن حُذافةَ ، وهذه السرية لها قصةٌ ؛

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ الله عَنْهُ ؛

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ جَيْشًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً ، فَأَوْقَدَ نَارًا ، فَقَالَ : ادْخُلُوهَا ، فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا ، وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ r ، فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا : لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَقَالَ لِلآخَرِينَ قَوْلاً حَسَنًا ، وَقَالَ : لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ.)).

أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي.

قال الشافعي : فأُمِروا أن يُطيعوا أُولي الأَمر ، الذين أَمَّرَهُم رسولُ الله r ، لاطاعةً مطلقةً ، بل طاعةً مستثناةً ، فيما لهم وعليهم ، فقال : ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ ﴾ يعني : إن اختلفتم في شيء.

وهذا ، إن شاء الله ، كما قال في أولي الأمر ، إلا أنه يقول : ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ ﴾ يعني ، والله أعلم ، هم وأُمراؤهم ، الذين أُمروا بطاعتهم ﴿ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ﴾ يعني ، والله أعلم ، إلى ما قال الله والرسولُ r ، إن عرفتموه ، فإن لم تعرفوه ، سألتُم الرسولَ r عنه إذا وصلتم ، أو مَنْ وصل منكم اليه.

لأن ذلك الفرضُ الذي لا مُنازعةَ لكم فيه ، لقول الله : ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ . الرسالة (263 : 265).

فأولوا الأمر في الآية المباركة ، وبنص حديث ابن عباس ، رضي الله عنهما ، هم الأُمراء الذين كان رسول الله r يؤمرهم بنفسه ، ويبعثُهم في سراياه.

والذكرى تنفع المؤمنين ، واتِّبَاعُ النبي r وحده ، دون سواه ، ليس جمودًا ، ولا بدعةً ، ولا أساطيرَ الأولين ، والمسلمُ يسير على صراط الله المستقيم ، أصله ثابتٌ ، لا يلتفت لاتهامٍ أتاه من هنا أو هناك ، لأنه آمن بالله ، وعرف قدر رسوله r ، وانتهى ، ويكره أن يعود إلى الكفر ، كما يكره أن يقذف في النار.

* * *

الباب الثالث

التحذير من الفرقة والخلاف 

القارىءُ لكتابِ الله ، عز وجل ، والباحثُ في حديث النبيِّ r ، يقف في مراحل القراءة والبحث عند آيات وأحاديث ، جمعت البيانَ والحجةَ ، على أن الخلافَ في دين الله عز وجل جريمةٌ اقترفها من قبل بنو إسرائيل ، عندما خرجوا على هَدي أنبيائهم ، فجادلوهم ، عندما لم يأتهم نبيهم بما تهوى أنفسُهُم ؛

﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾. [البقرة:87].

وقد بَيَّنَ لنا الرحمان ، عز وجل ، أساليب بني إسرائيل ، ونهجَهم مع أنبيائهم ، وأوضح لنا نواحيَ الجدالِ ، والحِيَلِ ، وتحريف الكَلِمَ عن مواضعه ، وخروجهم على شرع الله تعالى.

ففي سورة البقرة نقرأ هذا الحوار، أو هذا الجدال ، من هؤلاء الذين أصابهم العمى ، فتركوا سبيلَ نبيهم : 

﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا  وَإِنَّآ إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ﴾. [البقرة : 67 : 70].

فهؤلاء الذين تشابه عليهم البقرُ، كانوا مَثَلَ السُّوءِ في الفُرقة والجدال والخلاف.

وليس من صفات المؤمن الذي أسلم نفسه وماله لخالقه أن يجادل في آيات الله ، عز وجل ، ولا في هَدي رُسُله الكرام ، صلى الله عليهم جميعًا وسلم .

فهؤلاء أمرهم الله ، عز وجل ، بذبحِ بقرةٍ ، لا غير ، وكان عليهم ، وِفْقَ عقد الإيمان أن يذبحوا بقرةً ، أي بقرة.

ولكي ندرك مدى خطورة هذا الموقف مع الله ورسله ، لا بد أن نذهب معًا إلى مكان طيبٍ مباركٍ ، غيرِ مكان الفُرقة والجدال والخلاف ، ننظر فيه أيضًا على أمرٍ بالذبح ، لكن ليس بذبح بقرةٍ ، وإنما أمرٌ من الرحمان الرحيم ، لنبيٍّ من الأكرمين ، بذبح ولدِهِ.

واقرأ في كتاب الله تعالى : 

﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء الله مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ ﴾. [الصافات : 101 : 106].

فهذا سبيل المؤمن : ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾.

لا جدال ، ولا اختلاف.

وذاك سبيل الكافرين : ﴿إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾. 

فمثال الإيمان لم يُجادل في ذبح ولده ، الذي سأل الله عز وجل أن يرزقه إياه ؛

﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾. 

ومثال الفرقة والخلاف يجادل في ذبح بقرةٍ.

وكان على هذه الأُمة أن تتعلم كيف تنجو من مزالق ما جرى في بني إسرائيل.

وقد ذكرنا مثالاً واحدًا مما حدث من قبل ، وإلاَّ فالحديث عن جدال وخلاف بني إسرائيل منشورٌ بين آيات الكتاب العزيز ، من أجل أن نأخذ الحذر، وأن نتجنب مواضعَ الضلال.

فما أصابت الفرقةُ والخلافُ أُمَّةً إِلاَّ وتحولت إلى مظاهر وشعارات ، يحملها مجموعةٌ من أشباه الموتى.

جزاء الذين تفرقوا واختلفوا :

يقول الله عز وجل : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾. [البقرة : 167].

ويقول سبحانه : ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾. [آل عمران : 106 : 108].

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ :

(( خَطَبَنَا رَسُولُ الله r فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فَرَضَ الله عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا ، فَقَالَ رَسُولُ الله r : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ.))

أخرجه الحميدي ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم. 

فهذا كتاب الله ينطق بالحق ، وهذا رسول الله r يُخبر بالصدق ، ولكن الشيطان أبى إلا الشركَ والكفرَ ، والخلافَ والفرقةَ ، فخرج أولياؤه بالكذب منسوبًا إلى النبي r ، فقالوا : قال رسول الله r : اختلاف أُمتي رحمة.

وكذبوا ، وكذب شيطانهم الذي أوحى لهم بهذا الضلال ، فو الله ، ماخرج هذا الإثم إلا من جوف كاذبٍ على الله ، وعلى رسوله r.

قال السخاوي : قال ابن حجر : إنه حديثٌ مشهورٌ على الألسنة ، وقد أورده ابنُ الحاجب في المختصر في مباحث القياس بلفظ ، اختلاف أُمتي رحمةٌ للناس ، وكَثُر السؤالُ عنه ، وزعم كثيرٌ من الأئمة أنه لا أصل له. ((كشف الخفاء)) 1/66.

قال ابن حزم : وقد غلط قومٌ ، فقالوا : الاختلافُ رحمة ، واحتجوا بما رُوي عن النبي r ؛ أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم.

قال ابن حزم : وهذا من أفسد قولٍ يكون ، لأنه لو كان الاختلافُ رحمةً ، لكان الاتفاقُ سَخَطًا ، وهذا ما لا يقوله مسلمٌ ، لأنه ليس إلا اتفاقٌ أو اختلافٌ ، وليس إلا رحمةٌ ، أو سَخَطٌ ، وأما الحديث المذكور ، فباطلٌ ، مكذوبٌ ، من توليد أهل الفسق. ((الإحكام)) 5/61.

يعني حديث ؛ أصحابي كالنجوم.

حالنا اليوم :

فهل وقعنا فيما وقع فيه بنو إسرائيل ، عندما فَرَّقُوا دينهم وكانوا شِيعًا؟.

وهل تفرقنا واختلفنا من بعد ما جاءنا كتابٌ مهيمنٌ على ما سبق من كتب ، ورسولٌ كريمٌ جاء لإخراجنا من ظلمات الوحل ، إلى نور الوحي ؟.

وهل نحن الأن نتبغ رسولَنا ، هو الإمام والحجة والقدوة ، أم أنه كلما جاءنا أمرٌ أحلناه على كتب المذاهب ، لتضع حوله القولَ الفصلَ ؟.

فهذا الأمر اختلف فيه الفقهاء ، وذاك الأمر سُنَّة وليس بواجب ، والأمر الثالث هيئة وليس بركن.

ويظل أحدُنا يحمل حديثَ رسول الله r ، يدور به ، باحثًا عن رأي فقيهٍ يؤيده ، لأن كل أحكام الله الأن صار فيها قولان ؟.

سل أيَّ شيخ ، أيَّ إمام ، أيَّ أميرِ جماعةٍ ، أي مرجع شيعي :

تارك الصلاة ، كافر ، أم مسلمٌ ؟.

شارب الخمر ، كافر أم مسلم ؟.

لمس المرأة ، هل ينقض الوضوء ؟.

مس الفرج ، هل ينقض الوضوء ؟.

زكاة الفطر ، هل تجوز نقدًا ؟.

وآلاف الأسئلة من هذا النوع .

اسمع الإجابة :

يقول لك مَنْ سألت ، إلا من شرح الله صدره للإسلام :

المسألة فيها قولان ، واختلف الأئمة ، وهذه عند السادة الأحناف كذا ، وتختلف عند السادة الشافعية ، ورَأَى الحنابلةُ خلاف ذلك ، وهو عند الشيعة على عشرة أوجه ، فترى الزيدية ، خلاف ما رأت الإثنى عشرية….

وإذا كنتَ دخلت للسؤال وأنت في حيرة ، خرجت بالإجابة وأنت في غيابات الجُب.

ولو ظللت جاهلاً عن هذه الإجابة لكان خيرًا لك وأقوم.

من الصعب أن يقول لك المسؤول : قال رسول الله r.

وإن نسي مرةً وقالها ، فاحتمال الكذب على رسول الله r يزيد على التسعين بالمئة.

إن الإنسان قد يشعر بالحيرة إذا عُرض عليه أمران متشابهان ، أو يتقاربان في الشبه ، ليختار أحدهما.

والمتصوفة ، من أهل الطواف حول الموتى ، لايطلبون المدد ، والعون ، إلا من هذا الميت ، الراقدِ داخل تلك المقصورة ، التي صنعتها أيديهم.

فإذا قلت له : سلِ المدد ، والعون ، ممن يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء .

يشمئز قلب هذا الصوفي الذي تربى على الشرك بالله رب العالمين.

مع أنك تأخذ بيده ليسأل الحيَّ بدلا من الميت ، ويسألَ الخالق بدلا من الهالك.

قال الله عز وجل : ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾. [الرعد : 16].

وكذلك عندما ندعوهم إلى طاعة محمدٍ r ، كأن الأمر قد تشابه ، وكأن محمدًا r عند هؤلاء ، كان إمامًا لمذهبٍ ، فلم يتمكنوا من التمييز بينه وبين أئمتهم. 

 فهل تشابه البقرعلينا ؟

نعم تشابه البقرُ علينا ؛

عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، رَضِىَ الله عَنْهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ :

(( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ ، شِبْرًا بِشِبْرٍ ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ . قُلْنَا : يَا رَسُولَ الله ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟!.)).

أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم.

فهذا هو قول الرسول الكريم r ، لا يقبل نقضًا ولا تأويلاً.

فماذا جرى؟ 

إن الواقع الذي حولنا ، بل الذي سبقنا بما يزيد على الألف سنةٍ ، يشهد على أن ما حَذَّر منه الرحمانُ سبحانه قد وقع ، وأن ما نهى عنه الرسولُ r لم يفعله الناس حسب ، بل صار هو دينهم الذي يدافعون عنه.

مذاهبٌ وفِرقٌ ، طوائِفٌ وشِيَعٌ ، أحزابٌ وجماعاتٌ ، كل حزب بما لديهم فرحون ، وكل طائفة تزعم أنها على الحق الذي لا جدال فيه ، وأن ما عداها على الباطل الذي لا شك فيه. 

سمانا الله عز وجل مسلمين :

﴿وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بالله هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾. [الحج : 78].

 فغيرنا ما اختاره الله لنا ، وتحولنا إلى أسماء ما نزل الله بها من سلطان ؛

سنة وشيعة ، سلف وخلف ، متصوفة وأهل طريق ، شافعية ، وحنفية ، وحنبلية ، ومالكية ، وكلِ شيخ وله طريقته ، وكل طريقة ولها أتباعها .

فإذا قلت لهم : يا قوم ؛

﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾. [فصلت : 33].

هنا ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ، ولو صدقوا لقالوا : سمعنا وأطعنا ، وتركوا هذه الأسماء والمُسَميات ، التي زينها الشيطانُ لأوليائه ، لصد الناس عن الإسلام ، وما يَمُتُّ له بصلة.

والعجيب في هذا ، وكله عجب ، أن كل فرقة تُعيب على الأخرى الاسمَ الذي تسمت به.

أهل السنة يعيبون على الشيعة هذا الاسم ، ويقولون بدعة ، والشيعة تعيب أيضًا عليهم.

والسلفيون يعيبون على المتصوفة ما تَسَمَّوْا به ، ويقولون هذا اسم مخترع ، ولا دليل عليه ، ولم يقل السلفيون في الوقت نفسة ما اسم الشيطان الذي أخذوا عنه اسم السلف هذا؟!.

فإن قالوا : نحن نسير على فهم السلف الصالح .

قلنا لهم : وهل قالت الشيعة ، والمتصوفة ، وأهل الطريق : نحن نسير على فهم السلف الفاسد.

إن سلفهم عندهم أصلح من سلفكم ، وأئمتهم عندهم أتقى وأنقى من أئمتكم.

وقد نتج هذا الفساد كله ، عندهم جميعا ، لأنهم جعلوا كتاب الله وراء ظهورهم ، كأنهم لا يعلمون ، واقرأ :

﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ ﴾. [الحج : 78].

﴿ وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾. [فصلت : 33].

﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾. [الأنعام : 163].

﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾. [يونس : 72].

﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾. [النمل : 91].

هذا هو الاسم الذي سماك الله به ، وأمرك بأن تكون من المسلمين ، لا تخترع لنفسك شيئًا ، ولا تزد على ذلك حرفًا.

اتباع بني إسرائيل في تحريف الكلم عن مواضعه ؛ 

إن بني إسرائيل عندما أرادوا أن يحرفوا كتاب الله الذي نزل إليهم ، لم يقوموا بحذف الآيات منه ، بل تركوها كما هي ، وفَرَّغُوها من الهدف ، والأمر ، والنهي ، الذي جاءت من أجله ؛ 

يقول الله تعالى : ﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾. [النساء : 46].

ويقول الله تعالى : ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ ﴾. [المائدة : 13].

ويقول الله تعالى : ﴿ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ﴾. [المائدة : 41].

فكلام الله لهم ، هو هو ، لكنهم صرفوه عن الأَمر الذي أراده منه ، كما فعل هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أندادًا ، فيأتون على أمر الله ، وسنةِ نبيه ، ويجعلون هذا مستحبًا ، وذاك مندوبًا ، وهذا حديثٌ ظَنِّيُ الثبوت ، وذاك حديث آحاد ، وتصبح آياتُ الله ، وأحاديثُ نبيه ، مجرد كلماتٍ تُتلى على المقابر.

أما الذين قالوا : سمعنا وأطعنا ، فكانوا ، كما وصفهم الله ، ما بدلوا تبديلاً ، وأخذوا دين الله جملةً واحدة ؛

فقال سبحانه : ﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ﴾. [آل عمران : 119].

أنزل الله سبحانه إلينا كتاباً هو القرآن الكريم : 

فاتخذه الناسُ مهجورًا ، وجعلوه للتمائم ، وللقراءة عند الموتى.

وفريقٌ آخر حَرَّف فيه الكَلِمَ عن مواضعه ، ليوافق مذهبَه ، أو طريقتَه ، أو هواه.

وكان علينا في حالات النزاع والخلاف أن نعرض ما نتنازع ونختلف فيه إلى هذا الكتاب الكريم.

ولكن ، إنا لله وإنا إليه راجعون ؛

– إذا قال الله عز وجل : ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾. [المائدة : 44].

سمعتَهُم يقولون : هذه نزلت في اليهود ، أما نحن فليس علينا من سبيلٍ ، ونحكم بما شئنا ، ونحتكم إلى مَنْ شئنا ، فنحن المسلمون المؤمنون الصادقون ، حتى وإن حَكَمنا بقانون فرنسا ، واحتكمنا إلى طواغيت الأرض ، لأن الآية نزلت في اليهود !!.

وهكذا ظلت الآيةُ تُتلى في المصحف ، كما هي ، مع تفريغها من الحكم الذي جاءت به ، وهذ هو ما فعله من قبل كهنةُ يهودِ خيبر.

فإذا تركنا كتابَ الله وراء ظهورنا ، واستبدلنا أحكامَهُ باشتراكيةِ وإلحادِ الشرق ، أو بماديةِ وكفرِ الغرب ، ومشت نساؤُنا عرايا ، وكَرَّمْنَا العرايا ، وحاربنا الحجابَ ، والعفةَ ، والطهارةَ ، وسمَّينا الربا مكاسبَ وفوائد ، وأكلناه وشربناه ، وصارت الفاجرةُ مبدعةً ، وحَكَمنا على السارق بقانونٍ وضعه زعيمُ عصابة في أمريكا ، ووقف الزناةُ أمام قاضٍ يحكم بقانونٍ وضعه زانٍ.

كل هذا ، وأضعافُ هذا ، لا يُؤثر فينا بشيءٍ ، فنحن أبناء الله وأحباؤه ، والشيخ الأزهري ، أو في لجنة الإفتاء ، أو في هيئة كبار العلماء ، قال لنا : الآية نزلت في اليهود.

– وإذا قال سبحانه : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾. [الأنعام : 159].

 قالوا : نزلت هذه في اليهود والنصارى ، ولا علاقة لها بأئمتنا ومشايخنا ، فمن حقنا أن نختلف في كل شيء ، ونتفرق ، ونُقسم ديننا إلى ألف مذهبٍ ، وطريقةٍ ، وجماعةٍ ، وكل حزب بما لديهم فرحون ، ولا حرج علينا ، لأن الآية نزلت في اليهود والنصارى!!.

أما نحن ؛ فخِلافُنا رحمةٌ ، وضَلالنا هدى ، وانحرافنا هو الصراط المستقيم !!.

– وإذا قال عَزَّ مِن قائل : ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾. [الروم : 32:30].

قالوا : تارك الصلاة ليس بمشرك ، بل مسلم كافر ، أو مسلم فاسق ، طالما تركها كسلاً ، كما قال أئمة السلف !! وأهل السنة والجماعة والجمهور!!!.

فإذا قال تارك الصلاة : إن الله قد افترضها على المسلمين ، ولكنني لن أصلي ، ولن أدخل مسجدًا ، ولن أسجد لله ، إلا إذا عاد إبليسُ وسجد لآدم.

هذا على دين السلف ، وأهل السنة والجماعة والجمهور : مسلمٌ عاصٍ ، ما دام يقول : إن الصلاة عليها عسلٌ ، حتى وإن كان أسودَ.

وإن شاء الله ، تحقيقًا ، لا تعليقًا ، لهذا الجمهور ، وللذين هدمو السنة ، باسم أهل السنة ، لقاءٌ مع سؤال المؤمنين لهم :

﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾. [المدثر : 42].

وأعتقد أن الإجابة ستكون عليهم يسيرةً. 

أما الذين فرقوا دينهم ، فهذا تحذير للأُمم السابقة ، لا علاقة لنا به ، ومن حقنا أن نفرح بهذا الخلاف والتفرق ، حتى تتنوع المصادر ، والذي لا يجد مقاسه عند الشافعي ، يجده عند أبي حنيفة ، والذي لا يصل إلى مرتبة ((الدروشة)) عند الشاذلية ، يجدها هناك في الطريقة الرفاعية ، والذي يجد الزنا محرمًا في الدين الذي جاء به محمدٌ r ، سيراه حلالاً مشاعًا عند شيعة الشيطان ، في أي مذهب من مذاهب الشيعة ، وتحت اسم : نكاح المتعة ، بل بعد عملية الزنا ، وعد أئمة الشيعة مرتكب هذه الفاحشة ، بملائكةٍ ، يتساقطون بعدد قطرات الغسل من الزنا ، يستغفرون له إلى يوم القيامة.

وهذه درجةٌ لم يصل إليها الذين فتحوا مكة !!.

– وإذا قال رب العالمين : ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾. [فصلت : 6 و7].

قالوا : هذا شركٌ مجازيٌّ ، وليس حقيقيّا ، فتارك الزكاة عندهم رجلٌ اجتهد فأخطأ ، فله أجرٌ واحدٌ !!.

فتارك الصلاة مسلم عاصٍ.

وتارك الزكاة مسلم عاصٍ.

وتارك الحج مسلم عاصٍ.

وتارك الصيام مسلم عاصٍ.

وآكل مال اليتيم ، وآكل الربا ، مسلم عاصٍ.

والزاني ، والسارق ، وشارب الخمر ، مسلم عاصٍ.

يقولون : هذه عقيدة السلف ، وأهل السنة والجماعة .

ونقول لهم : أيُّ سلفٍ ، وأَيُّ سنةٍ ، وأيَّةُ جماعةٍ ؟!.

هذه عقيدةُ الحشاشين ، وأهلِ الليل والكأس والخمر ، ودعاةِ الدعارة.

لقد جاء محمد r ، لدعوة الناس إلى الصلاة ، والزكاة ، والصِّلَة ، والرَّحِم.

وعلى هذا استمر نهجُهم مع كتاب الله عز وجل ، الذي أنزله الله عز وجل تبيانًا لكل شيء ، فجعلوا قسمًا منه في اليهود ، وقسمًا في النصارى ، وثالثًا لا علاقة له بنا ، من باب القصص والمواعظ ، وقسمًا رابعًا حرفوه عن مواضعه ، بالتاويل الفاسد.

فإذا سمعوا بالإيمان خلعوه على مذاهبهم وأئمتهم وعليهم.

وإذا سمعوا بالكفر قسَموه إلى أشكال وأنواع ؛ إلى حقيقي ، ومجازي ، ولُغوي ، وكفر يُخرج عن الملة ، وكفر اصطلاحي. 

وإذا سألتهم الدليل على هذه الأسماء ، قالوا : إنا وجدنا آباءنا وسلفنا على أُمة ، ونحن على ما تركوه لنا سائرون.

ووقع تحريف الكلم عن مواضعه أيضًا في حديث النبي r ؛

– إذا قال النبي r : (( لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ.))

أخرجه أحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي.

هذا كلام لم يقله النبي r من عند نفسه ، وهو أشد وضوحًا من الشمس في ضحاها ، ولكن المدافعين عن الزنا ، وشرب الخمر ، والسرقة ، من أهل السنة والجماعة ، وعصابات تحريف دين الله ، لن يتركوا الحديث كماهو ، وأقرأ : 

قال النووي : هَذَا الْحَدِيث مِمَّا اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ ، فَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ ، الَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ ، أَنَّ مَعْنَاهُ : لاَ يَفْعَل هَذِهِ الْمَعَاصِي وَهُوَ كَامِل الإِيمَان ، مَعَ إِجْمَاع أَهْل الْحَقّ ، عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ ، وَالسَّارِقَ ، وَالْقَاتِلَ ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَاب الْكَبَائِر ، غَيْر الشِّرْك , لاَ يَكْفُرُونَ بِذَلِكَ , بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ ، نَاقِصُو الإِيمَان ، إِنْ تَابُوا سَقَطَتْ عُقُوبَتهمْ , وَإِنْ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْكَبَائِر كَانُوا فِي الْمَشِيئَة ، فَإِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عَفَا عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة أَوَّلاً , وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ , ثُمَّ أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّة. ((شرح النووي)) 2/41.

والنووي لم يقل أسماء المحققين الذين قالوا بذلك ، ولو ذكر أهل الأرض جميعًا ، فإن إجماعهم لا يُخرج حُكمًا ، وهكذا أصر النووي على أن الزَّانِيَ ، وَالسَّارِقَ ، وَالْقَاتِلَ ، وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْحَاب الْكَبَائِر ، غَيْر الشِّرْك , تابوا من ذلك ، أو أصروا وماتوا عليه ، ففي النهاية مصيرهم الجنة ، مع الصابرين ، والصادقين ، والمُنفقين ، والمستغفرين بالأسحار.

وهذا ليس بغريب على النووي ؛

فهو القائل ، بعد أن خلع نقاب الحياء : قال اصحابُنا : ولو غَيَّب الحشفةَ في دُبُر امرأةٍ ، أو دُبُر رجلٍ ، أو فرجِ بهيمة ، أو دُبرها ، وجب الغسلُ ، سواء كان المولَجُ فيه حيًّا ، أو ميتًا ، صغيرًا ، أو كبيرًا. ((شرح النووي)) 4/41.

فهل رجل هذه عقيدته ، وهذا دينه ، يؤخذ منه مذهب أهل السنة والجماعة ، إن قائل هذا الكلام لا بد أن يُدخل جميع الزناة إلى جناتٍ ونهر.

وللأسف ، هذا وأمثاله ، أخذ الناس عنهم دينهم ، وصدق الله تعالى ؛

﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾. [الأنعام : 116].

فالزاني عندهم مؤمن ، والشاربُ للخمر ، والسارقُ ، والمنتهبُ ، كل واحد من هؤلاء ينتظره الإيمانُ عند الباب ، حتى ينتهي من جريمته ، ثم يعود الإيمان إليه سالمًا غانمًا.

فهذه عقيدة السلف ، وأهل السنة والجماعة ، والجمهور.

ومن خالفهم وقال : (( لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ)).

اتهموه بأنه من الخوارج ، والمتطرفين ، وصانعي الإرهاب.

هكذا يفكر عَبَدَةُ العجل ، ومن تشابه البقرُ عليهم.

ونترك صاحب الحشفة ، ونذهب إلى عالم من كبار علماء الحديث ؛

قال الأوزاعي : سألتُ الزُّهْرِيّ عن تفسير هذا الحديث ، (( لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ )) ، فَنَفَر ، وقال : يجيء الحديثُ عن رسول الله r ، فتدعونه ، وتسألوني عن رأيي !!. 

وقال الأوزاعي أيضًا ، بعد أن سمع هذا الحديث من الزُّهْرِيّ : فقلتُ للزُّهْري : فإن لم يكن مؤمنًا ، فمه ؟ قال : فنفر عن ذلك ، وقال : أَمِرُّوا الأحاديث كما أَمَرَّها مَنْ كان مَنْ قبلكم ، فإن أصحاب رسول الله r أَمَرُّوها. ((علل الدارقطني)) 9/347.

نعم ، لا تجادلوا فيها ، واقرؤوها ، واستمعوا إليها ، كما استمع إليها أصحابُ رسول الله r ، فقالوا سمعنا وأطعنا ، لم يقولوا ما قلتم : ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا﴾. 

– وإذا قال النبي r : (( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ.)).

أخرجه الحميدي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وابن ماجة ، والتِّرمِذي ، والنَّسائي ، وأبو يعلى ، وابن حِبَّان.

قالوا : ليس معناه أنه كَفَر ، لكنه كُفْرٌ للتحذير والتخويف ، وهذا الحديث معناه التهديد ، ثم هذا الكفر من النوع الرابع ، الباب السادس ، والذي يأتي في مجال الزجر!!.

قال ابن حجر : ظَاهِره غَيْر مُرَاد , لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْقِتَال أَشَدّ مِنْ السِّبَاب ، لأَنَّهُ مُفْضٍ إِلَى إِزْهَاق الرُّوح ، عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ أَشَدّ مِنْ لَفْظ الْفِسْق ، وَهُوَ الْكُفْر , وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَة الْكُفْر الَّتِي هِيَ الْخُرُوج عَنْ الْمِلَّة , بَلْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْكُفْر مُبَالَغَة فِي التَّحْذِير. ((فتح الباري)) 48.

هكذا صار الحديث : سباب المسلم ليس بفسوق ، وقتاله ليس بكفر ، لكنها عمليةُ تهديد ، كما يرى ابن حَجَر ، والنبي r عندهم يقول كلامًا لا يقصده ، وهم الوكلاء الوحيدون الذين وصل إليهم مقصد النبي r ، وذلك عن طريق :

﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾.

وبعد كلام ابن حجر ، انظر على الحديث ، تراه كلامًا خاويًا لا رَوْحَ فيه.

– وإذا قال النبي r : (( لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ ، وَوَالِدِهِ ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.))

أخرجه أحمد ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وابن ماجة ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن حِبَّان.

على الفور سمعتَ من يقول : ليس هذا المعنى على حقيقته ، وقول النبي r : ((لاَ يُؤْمِنُ)) ليس معناه : لا يؤمن ، فهنا (مضاف محذوف) معناه : لا يؤمن إيماناً كاملاً.

قال السندي ، شارح سنن ابن ماجة (67) : قَالُوا : الْمُرَاد بِقَوْلِهِ r : لاَ يُؤْمِن : لاَ يَكْمُل إِيمَانُهُ.

وقال ابن حَجَر : قوله : لا يؤمن ، أي إيمانًا كاملاً. ((فتح الباري)) 14.

من أين جاؤوا بهذا التحريف ، من الذي وسوس لهم بهذا ؟ ومن الذي أباح لهم ساحة هذا الدين ، وأحل حرمتها ، النبي قال : (( لاَ يُؤْمِنُ)) ولو كانت هناك إضافة لأضاف. 

فالذي يقصده رسول الله r قد قاله بِوحيٍ يُوحى ، وما هو بالهزل ، وما كان الله عز وجل ليدع دينه بين أيدي هؤلاء ليوضحوا للناس (المضافاف المحذوفة) في كلام الله ورسوله r.

هكذا يكذبون على الله ، وعلى رسوله r ، ويسلكون سبيل أحبار ورهبان بني إسرائيل ، في تحريف الكلم عن مواضعه.

– وكذلك في قول النبي r : (( لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.)).

أخرجه أحمد ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن حِبَّان.

أيضا لا يستريحون إلا إذا بَدَّلوا ، وحَرَّفوا ، وأضافوا ، وحذفوا.

فالنبي r هنا نفى الإيمان ، في قولٍ فصلٍ ، إلى أن يُحب أحدُنا لأَخيه ما يُحب لنفسه.

لكن المرض الذي أصاب هؤلاء ، فأصمهم ، وأعمى أبصارهم ، جعلهم يخرجون ، بوحيٍ من شياطين الإنس والجن ، ببدعة المضافات المحذوفة ، يقولون لك : لا ، هو مؤمن ، بل من خيرة المؤمنين ، وإن لم يُحب لأَخيه ما يُحب لنفسه ، لكن إيمانه ليس كاملاً ، ينقص على سبيل المثال درجة ، أو ثلاث درجات.

ثم بعد هذا الضلال يضعون خاتم الفسوق ، وهو : هذه عقيدة السلف ، وأهل السنة والجماعة ، والعزاء قاصر على تشييع النور الذي جاء به محمد r.

– وإذا قال النبي r : (( لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ .)).

أخرجه الحميدي ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وابن خزيمة ، وابن حِبَّان.

وجدت من يرجع بك إلى قصة المضاف المحذوف ، فيقول : النبي r يقصد أنه لا صلاة كاملة.

وهذا القائل نسي الناس أنه من شياطين الإنس ، ومن بقايا عَبَدة الطاغوت ، فلم يسأله أحدٌ : من الذي خَوَّله ، وأعطاه الحق ، في أن يخبر الناس بمقصد النبي r !!.

الذي قصده النبي r قد قاله ، وانتهى الأمر ، وقال : ((لاَ يُؤْمِنُ)) ، وقال : ((لاَ صَلاَةَ)).

وقلنا : سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا ، وإليك المصير.

وقد وقعت هنا مفارقة غريبة ، فهذا الحديث يوافق مذهب الشافعي ، والنووي شافعي المذهب ، ولذلك لم يقم بتحريف الحديث ، كما سلف ، بل قاوم التحريف ، قال :

فِيهِ وُجُوبُ قِرَاءَة الْفَاتِحَة ، وَأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ ، لاَ يُجْزِي غَيْرُهَا ، إِلاَّ لِعَاجِزٍ عَنْهَا , وَهَذَا مَذْهَب مَالِك ، وَالشَّافِعِيّ ، وَجُمْهُور الْعُلَمَاء ، مِنْ الصَّحَابَة ، وَالتَّابِعِينَ ، فَمَنْ بَعْدهمْ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة ، وَطَائِفَة قَلِيلَة : لاَ تَجِب الْفَاتِحَةُ ، بَلْ الْوَاجِبُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآن ، لِقَوْلِهِ r :  اِقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ , وَدَلِيل الْجُمْهُور قَوْله r : لاَ صَلاَة إِلاَّ بِأُمِّ الْقُرْآن .

قال النووي : فَإِنْ قَالُوا : الْمُرَاد لاَ صَلاَة كَامِلَة . قُلْنَا :هَذَا خِلاَفُ ظَاهِر اللَّفْظ. ((شرح النووي)) 4/102.

الله أكبر ، وصدق الله العظيم ؛

﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾. [ النور : 46 : 52].

عَرفت الآن يا نووي أن هذا خالف ظاهر النص ، وظهر لك النص وظاهره ؟!

ورفضت أن يضيف أتباع أبي حنيفة على الحديث قوله : لا صلاة كاملة ؟!

وإذا خالفَ الحديثُ مذهبك ، أضفتَ عليه ، وحذفتَ منه ، وجعلتَ تُنْقِصُه من أطرافه ، حتى تُسخره لرأيك ، ورأي إمامك ، الذي ليس هو النبي ، وليس الذي r.

قال النووي ، عقب الحديث الماضي : قَوْله r : (( لاَ يُؤْمِن أَحَدكُمْ حَتَّى يُحِبّ ، لأَخِيهِ ، أَوْ قَالَ : لِجَارِهِ ، مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ.)).

  قَالَ الْعُلَمَاء رَحِمَهُمْ اللَّه : مَعْنَاهُ لاَ يُؤْمِن الإِيمَان التَّامّ , وَإِلاَّ فَأَصْلُ الإِيمَان يَحْصُل لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَة. ((شرح النووي)) 2/16.

ولا ندري ، لماذا استحيى النووي ، مع أنه فقيه الحشفة ، ولم يذكر لنا هؤلاء العلماء ، ولو ذكر أهلَ الأرض جميعًا ، من الجن والإنس ، من مات ومن سيأتي ، فإنهم لا يستطيعون إضافة حرفٍ على كلام محمدٍ r ، ولاحذف حرف.

وإذا ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ (( أَنَّ رَسُولَ الله r شَرِبَ لَبَنًا ، فَمَضْمَضَ ، وَقَالَ : إِنَّ لَهُ دَسَمًا.)).

أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حِبَّان.

فهل قابلوا حديث النبي r بقولهم : سمعنا وأطعنا ؟ ، كما أمرهم الله . 

أم ساروا على خطوات اليهود والنصارى ، شبرًا بشبرٍ ، وذراعًا بذراعٍ ؟.

اقرأ معي ماكتبه الترمذي عقب هذا الحديث ، ليصور الحال الذي وصلت إليه الأُمة :

قال : هذا حديثٌ حسن ٌ صحيحٌ.

قلنا : الحمد لله ، يأتي دورُ السمع والطاعة.

قال الترمذي : وقد رأى بعضُ أهل العلم المضمضةَ من اللبن ، وهذا عندنا على الاِستحباب ، ولم ير بعضُهم المضمضةَ من اللبن.

فهل هذا ما أمرنا الله ، عز وجل ، به ، وهل هذه هي العلاقة بيننا وبين رسولنا الكريم r ؟.

ومن الذي أعطى ، مَنْ أسماهم الترمذي بأهل العلم ، الحقَّ في أن يَرَوْا خلافَ ما فعله النبي r ؟ .

ثم ، حتى وإن سول لهم إبليسُ أن يَرَوا ذلك ، من هذا الذي جعل رؤيتهم دينًا ، وعِلمًا ؟.

قالوا لك : إن الحديث صحيحٌ ، ولكي تتم عملية التحريف ، يقولون : والعمل به على الاستحباب ، كل إنسان حسب مزاجه ، فالكلام كما هو ، ولكن ضاع موضعه.

قال النووي : قَوْله : (( إِنَّ النَّبِيّ r شَرِبَ لَبَنًا ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ ، فَتَمَضْمَضَ ، وَقَالَ : إِنَّ لَهُ دَسَمًا )) ، فِيهِ اِسْتِحْبَاب الْمَضْمَضَة مِنْ شُرْب اللَّبَن. ((شرح النووي)) 4/46.

وأنت لو قرأت ما جاء عن النبي r ، في هذا الأمر ، مئة ألف مرة ، ما وجدت هذه الكلمة التي أرادوا بها الباطل ، وصرف الناس عن القول خلف كل أمر وفعلٍ للنبي r : سمعنا وأطعنا.

لقد وردت كلمة استحباب هذه في فتح الباري ، وشرح النووي ، خمسمئة واثنين وثمانين مرة.

إن بني إسرائيل بدلوا قولاً واحدًا ، فماذا حدث لهم ؟

يقول الله عز وجل : ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾. [البقرة : 59].

وقال سبحانه : ﴿ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ﴾. [الأعراف : 162].

ونحن بدلنا كل قول ، وحرفنا كل فعل ، وجعلنا أقوال النبي r ، وأفعاله ، على الهوى والمزاج ، وسمينا الهوى استحبابًا من باب ستر الجريمة.

وإذا قال عبد الله بن عمر : (( إِنَّ رَسُولَ الله r فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ.))

أخرجه أحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حِبَّان.

هل يقبلون الحديث هكذا كما ورد عن النبي r الذي أرسله الله إليهم ، ويقبلون كلمة : ((فرض)) ؟.

اقرأ معي ، إن أردت ، شرح هذا الحديث عند النووي ، في شرحه لصحيح مسلم 7/58:

قال : اختلف الناس في معنى ((فَرَضَ)) هنا.

فقال جمهورهم من السلف والخلف : معناه ألزم وأوجب ، فزكاة الفطر فرضٌ واجبٌ عندهم لدخولها في عموم قوله تعالى : ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ، ولقوله : ((فَرَضَ)).

وهو غالب في استعمال الشرع بهذا المعنى.

وقال اسحاق بن راهويه : إيجاب زكاة الفطر كالإجماع.

وقال بعض أهل العراق ، وبعض أصحاب مالك ، وبعض أصحاب الشافعي ، وداود في آخر آمره : إنها سنة ، ليست واجبة.

قالوا : ومعنى ((فَرَضَ)) : قَدَّرَ على سبيل الندب.

وقال أبو حنيفة : هي واجبة ، ليست فرضًا ، بناء على مذهبه في الفرق بين الواجب والفرض .

قال القاضي عياض : وقال بعضهم : الفطرة منسوخة بالزكاة.

قلتُ ، القائل : النووي : هذا غلط صريحٌ ، والصواب أنها فرضٌ واجب.

قلنا : ونحو هذا الخلاف في دين الله ورد في ((فتح الباري)) عند شرح هذا الحديث.

فما دَخْلُ المسلمِ في هذا الخلاف الذي دبَّ بين المالكية ، والحنفية ، والشافعية ، والظاهرية ، والحنابلة ، وعياض ، والذين قام كل واحد منهم ليغني على ليلاه ؟!.

ولو عرف الحقيقة لبكى على مصيبته.

وهذا الحديث قاله النبي r قبل أن نُبتلى بهؤلاء جميعًا ، فماذا كان حال المسلمين قبل ظهور هؤلاء الذين آمنوا بالفرقة والخلاف دينًا ؟.

– هل قرأت حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، رَضِيَ الله عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : 

((غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.)).

أخرجه مالك ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والنسائي.

هل عرفت أسماء الذين قالوا : ليس بواجب ؟؟.

اقرأ ماذا يفعلون بأمر النبي r ؟. 

قال النووي : واختلف العلماء في غسل الجمعة ، فَحُكِيَ وجوبه عن طائفة من السلف ، حَكَوْهُ عن بعض الصحابة ، وبه قال أهلُ الظاهر ، وحكاه ابن المنذر عن مالك ، وحكاه الخطابي عن الحسن البصري ، ومالك.

وذهب جمهور العلماء ، من السلف والخلف ، وفقهاء الأمصار ، إلى أنه سنة مستحبة ، ليس بواجب.

قال النووي : ومذهبنا المشهور أنه يُستحب لكل مُريد لها ، وفي وجهٍ لأصحابنا ، يُستحب للذكور خاصة ، وفي وجه يُستحب لمن يلزمه الجمعة ، دون النساء ، والصبيان ، والعبيد ، والمسافرين ، ووجه يستحب لكل أحدٍ يوم الجمعة ، سواء أراد حضور الجمعة ، أم لا ، كغسل يوم العيد يستحب لكل أحدٍ. ((شرح النووي)) 6/131 ، وما بعدها.

والنووي هنا يتكلم ، بعد حديث النبي r ، وكأن النبي r صاحبَ رأيٍ ، من حق النووي ، أو غيره ، أن يختلف معه ، أو يتفق.

وصدق رسول الله r

(( إِنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ : إِذَا لَمْ تَسْتَحَ فَاصْنَعْ مَاشِئْتَ.)).

أخرجه أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، وابن ماجة ، من حديث أبي مسعود الأنصاري.

وهذا ليس بجديد على النووي ، فهو القائل : ولو استدخلت المرأةُ ذكرَ بهيمةٍ ، وجب عليها الغسلُ ، ولو استدخلت ذكرًا مقطوعًا ، فوجهان ، أصحهما يجب عليها الغسل. ((شرح النووي))  4/41.

ألم يقل لنا رسولنا الكريم : (( الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ.)).

أخرجه مالك ، والحميدي ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي. 

ولا مانع عند هؤلاء من الاحتجاج بأحاديث ضعيفة ، أو تأويل أحاديث صحيحة ، لإثبات مذاهبهم.

عندما يقول الذي بعثه الله رحمة للعالمين : ((غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.)).

ثم يأتي طالبُ علمٍ صغير ، من أمثالنا ، فيقول : غسل يوم الجمعة واجب.

هنا تقترب الساعة ، وينشق القمر ، وتقع الواقعة ، ويتهمه سَدنةُ المذاهب ، والمنتفعون بفُرقة الأُمة وضياعها ، بأنه ظاهريٌّ ، من أهل الجمود ، ولا علم له بأصول الفقه ، ومدلولات اللغة ، واتهموه بمحاولة هدم الإسلام ، لا لشيء ، إِلاَّ أنه ردد ما قاله الصادق المصدوق r حرفًا بحرفٍ. 

لقد صار العلم عندهم ، والعياذ برب الناس ، أنه إذا قال النبي r :

((غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.)).

أن نقول : لا . ليس بواجب . بل مستحب.

فإذا قال : مستحب . نقول : لا ، بل فرض.

فإذا قال فرض . نقول : لا ، بل مندوب.

وبهذه الطريقة أنت عندهم لا تهدم الإسلامَ ، ولا تُحرف الكَلِمَ عن مواضعه ، مثل أحبار بني إسرائيل . 

– مثال آخر ؛ قال النووي : 

باب الضيافة ونحوها ،

قوله r : (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ ، قَالُوا : وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يَوْمُهُ وَلَيْلَتُهُ ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ.

وَقَالَ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ.)).

وفي رواية : (( الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ ، وَجَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، وَلاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ أَخِيهِ حَتَّى يُؤْثِمَهُ ، قَالَوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يُؤْثِمُهُ ؟ قَالَ : يُقِيمُ عِنْدَهُ وَلاَ شَيْءَ لَهُ يَقْرِيهِ بِهِ.)).  

وفي رواية : (( إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ ، فَاقْبَلُوا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ.)).

قال النووي : هذه الأحاديث متظاهرة على الأمرِ بالضيافة ، والاهتمامِ بها ، وعظيمِ موقعها ، وقد أجمع المسلمون على الضيافة ، وأنها من متأكدات الإسلامِ ، قال الشافعيُّ ، ومالكٌ ، وأبو حنيفة ، والجمهور : هي سنة ليست بوجبة ، وقال الليث ، وأحمد : هي واجبة يومًا وليلة ، قال أحمد : هي واجبة يومًا وليلةً على أهل البادية ، وأهل القرى ، دون أهل المدن ، وتأول الجمهور هذه الأحاديث وأشباهها على الاستحباب ، ومكارمِ الأخلاق ، وتأكدِ حق الضيف ، كحديث غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلم ، أي متأكد الاستحباب ، وتأولها الخطابي وغيره على المضطر ، والله أعلم. ((شرح النووي)) 12/31.

هل رأيت ، وقرأت هذه المهزلة ؟

محمد بن عبد الله r ، الذي جاء لهذه الأُمة برسالة الله ، مبعوثًا منه ، يقول : (( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ…)).

والجمهور ، وفلان ، وفلان ، والأنداد ، والشركاء ، والشفعاء ، والسفهاء ، والذين في قلوبهم عفنٌ ، الذين لايحق لهم أن يتكلموا في دين الله بحرفٍ واحدٍ ، والذين لم يحملوا رسالةً ، يقولون : الأمر لمن أحب ، والمسألة على الاختيار.

ويقول لك النووي : وتأول الجمهور هذه الأحاديث وأشباهها على الاستحباب.

يا أُمة الجمهور ، هل بلغكم اسم هذا النبي الجديد المُسمى بالجمهور.

وهذا الجمهور من حقه أن يتأول ما جاء به الصادق المصدوق ، أبو القاسم r ، وأن يبدله ، وأن يغيره.

والحمد لله ، كفرنا بالجمهور ، وفلان ، وكلِّ فلان ، وتركناهم في ملاعب الصبيان بالأمس ، ووضعنا حديثَ مُحَمَّدٍ r داخل العين والقلب ، ويقول ، ونقول له ، قبل أن نسمع : سمعنا وأطعنا ، ونحتكم إليه ، ولا نجد في أنفسنا إلا الحبَّ لم حَكَم به ، وسَلَّمنا بحكمه ، قبل أن نعلم الحكم ، تسليمًا.

إذا قال : فرضٌ ، فهو فرضٌ ، وإذا قال : واجبٌ ، فهو واجبٌ ، لا تبديل ، ولا تأويل ، ولا تعطيل ، ولا الأمر يتصل بأهل القرى دون أهل المدن ، لأن حبيبنا ، وأُسوتنا ، وإمامُنا ، جاء للناس كافة ،

﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.

– وهل قرأت حديثَ الأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ :

(( إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ ، فَلْيَجْعَلْ فِى أَنْفِهِ مَاءً ، ثُمَّ لِيَنْثِرْ ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ.)).

أخرجه مالك ، والحميدي ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وابن ماجة ، والنسائي. 

قال النووي : الانتثار ليس بواجب ، بالاتفاق. شرحه 3/126.

اتفاق من يانووي ؟ لعله اتفاق علماء الحَشَفة.

قول النبي r : ((ثُمَّ لِيَنْثِرْ))  ، هذا فعلُ أمرٍ ، صدر من نبي ، قال الله عز وجل :

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهََ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾. [الحشر : 7].

والذي ذكرناه ، مجرد أمثلةٍ لا غير ، وما على المسلم الباحث عن الحق إِلاَّ أن يختار أي حديث من حديث رسول الله r ، يتصل بأي حكم من أحكام الدين ، ثم يراجع كتب الفقهاء ، أو كتب شروح الحديث ، ليقف على العجب ، وعندها سيعرف كيف تشابه البقر عليهم .

والأغرب مما سبق ، وكلها غرائب ، أنه في هذا المذهب وذاك من يقول : إن رفع اليدين في الصلاة ، ووضع اليمنى على اليسرى ، وصفة الجلوس للتشهد ، كل ذلك (هيئة) ، وليس بركن!!.

ونسأل : أي شيطان أوحى لكم بكلمة (هيئة) هذه ؟.

وهل أصبح من حق شياطين الإنس والجن تقسيم تعاليم الإسلام إلى هيئة، وركن ، وسنة ، وفرض ، وواجب ، ومندوب ، ومستحب ، ومكروه…إلى آخر ضلال العمى ؟!!.

ومن الذي أعطى الحق لمدعي الفقه ، ومتسولي الباطل ، أن يقسموا دينَ الله وشرعَه ، إلى هذه المسميات ، التي خرجت من عقول تعفنت بالشرك ، ورفضت إلا اتباع الأحبار والرهبان والمشايخ ، أربابا من دون الله ؟!!.

﴿قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾. [الأنعام : 148].

وإذا كان هؤلاء الفقهاء ، كما تسمونهم ، والأئمة ، كما وجدتم آباءكم يقولون ، إذا كانوا تفرقوا ، واختلفوا ، واخترعوا وابتدعوا ، وقَسَمَ كلُّ إمامٍ دينَ الله كما سَوَّلَ له هواه ، فمن الذي ألزمكم باتباع هؤلاء ؟.

وهل أرسل الله تعالى لكم فقهاء المقابر هؤلاء ، وأمركم باتباعهم ، ورد الأمر إليهم ؟.

وهل جعل الله تعالى طاعة هؤلاء من طاعته ، كما قال في رسولنا r ؟ :

﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾. [الأنعام : 80].

 يقول رب العالمين : ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً﴾. [الفرقان : 27 : 29].

اقرأ : ﴿وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

فلوعرف الناس قدر رسول الله r ، لآمنوا حق الإيمان برسالته ، بنور الوحي النازل عليه ، ولحملوا كل ما عندهم من خلاف ونزاع ، وكلَّ ما يفعلون من صلاة وزكاة ، وذهبوا يبحثون عن حديثه r ، ولعضوا عليه بالنواجذ ، تاركين خلف ظهورهم هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شِيعًا.

شبهات وحقائق :

الشبهة الأُولى :

دأب الذين اتخذوا من دون الله أندادًا ، على التمويه على شركهم ، بعباراتٍ ، استمروا في ترديدها ، حتى ظنها العامةُ وحيًا من السماء.

ومن ذلك ، قولهم ، في حق الذين تفرقوا واختلفوا ، من أئمة المذاهب :

                وكلهم من رسولِ الله ملتمس    رشفًا من البحر أو قطفًا من الدِّيَمِ

وهذا من التمويه الفاسد ، وشهادة الزور.

﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾. [البقرة : 9].

فوالذي بعث محمدًا r بالحق ، لو التمسوا من رسولِ الله r ، ما اختلفوا.

وانظر هذه المسألة :

في صلاة الاستسقاء ؛ قال الشافعي : يُصَلِّى صلاةَ الاستسقاء نحو صلاة العيدين ، يُكبر في الركعة الأُولى سبعًا ، وفي الثانية خمسًا.

وقال مالك بن أنس : لا يُكبر في صلاة الاستسقاء ، كما يُكبر في صلاة العيدين.

وقال النعمان أبو حنيفة لا تُصلي صلاة الاستسقاء. ((سنن الترمذي)) 562. 

واحدٌ يرى أن صلاة الاستسقاء ، ركعتان ، يُكبر في الركعة الأُولى سبعًا ، وفي الثانية خمسًا.

والثاني ، يراها ركعتين ، بلا تكبير.

وثالثهم ، أراح نفسه ، فلا توجد صلاة استسقاء أصلاً ، وإن صلاها النبي r.

هل هنا ، وهذا مثال من عشرات الآلاف من الأمثلة ، كلهم من رسول الله ملتمس ؟!!.

إذا كنت ما زلت مصرًا على تصديق ، أن النبي r صلى الاستسقاء ، ولم يُصل ، وكبر فى الأولى سبعًا ، ولم يكبر ، وفي الثانية خمسًا ، ولم يُكبر ، فلا بد أن تصدق ؛ أن الآب ، والابن ، والروح القدس ، هؤلاء الثلاثة إلهٌ واحدٌ ، ثم تقول : آمين.

خذ هذا المثال ؛

– عَنْ أَبِي حَسَّانَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ :

(( صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ r الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الأَيْمَنِ ، وَسَلَتَ الدَّمَ ، وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ ، فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ.))

أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، ومسلم ، وابن ماجة ، والتِّرمِذي ، والنَّسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حِبَّان.

لقد اتهم أبو حنيفة ، وهو إمامهم الأعظم ، النبيَّ r بأنه مَثَّلَ بالحيوان ، عندما أشعر الناقة ، بأن جرحها. 

قال يوسف بن عيسى : سمعتُ وكيعًا يقول ، حين روى هذا الحديث ، قال : لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا ، فإن الإشعارَ سُنَّةٌ ، وقولَهُم بدعةٌ.

قال : وسمعتُ أبا السائب يقول : كنا عند وكيع ، فقال لرجلٍ عنده ، ممن ينظر في الرأي : أشعر رسول الله  r ، ويقول أبو حنيفة : هو مُثْلَةٌ ؟!!.

قال الرجل : فإنه قد رُوي عن إبراهيم النخعي ، أنه قال : الإشعار مُثْلَةٌ ، قال : فرأيتُ وكيعًا غضب غضبًا شديدًا ، وقال : أقول لك قال رسولُ الله r ، وتقول : قال إبراهيم ؟!!! ما أحقَّكَ بأن تُحبس ، ثم لا تخرجَ ، حتى تَنْزِعَ عن قولك هذا. ((سنن الترمذي)) 906 .

فهل أبو حنيفة ، المُثْلُةُ ، عندما اتهم النبيَّ r بأنه مَثَّلَ بالحيوان ، كان :

وكلهم من رسول الله ملتمس ؟!

فإذا كنت ما زلت مصرًا على ذلك ، فاقرأ هذا المثال :

قال ابن حزم : قال عطاء بن أبي رباح : لا ينقضُ الوضوءَ مسُّ الفرج بالفخذ والساق ، وينقض مسه بالذراع.

وقال مالك : مَسُّ الْفَرْجِ مِنَ الرَّجُلِ فَرْجِ نَفْسِهِ الذَّكَرِ فَقَطْ بِبَاطِنِ الْكَفِّ لاَ بِظَاهِرِهَا ، وَلاَ بِالذِّرَاعِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ , فَإِنْ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ لَمْ يُعِدْ الصَّلاَةَ إلاَّ فِي الْوَقْتِ.

 وقال أبو حنيفة : لا ينقض الوضوءَ مسُّ الذكر كيف كان.

وقال الشافعي : ينقض الوضوء مسُّ الدُّبر ، ومسُّ المرأةِ فرجَها.

وقال مالك : لا ينقضُ الوضوءَ مسُّ الدُّبرِ ، ولا مسُّ المرأةِ فرجها. ((المحلى)) 1/237.

مِنْ هذا ، هل التمسوا من رسول الله r ؟.

هل رسول الله r قال لهم : مس الفرج ينقض الوضوء ، ولا ينقض الوضوء ، ومس البر ينقض ، ولا ينقض ، ومس المرأة فرجها ينقض ، ولا ينقض ، وكل الذي سبق؟!

إن هذا القول لا ينطق به ، حتى هذا الحمارُ الذي يحمل الأسفار في سورة الجمعة.

فما بالك بالقائل إنهم التمسوا خلافهم من الذي لا ينطق عن الهوى ؟!.

فهل مازلت على يقين ، أن محمدًا r يقول لحكم واحدٍ ، في مسألةٍ واحدة : هذا حلالٌ وحرامٌ ، وينقض ولا ينقض ، ويصح ولا يصح ، إذا كنت كذلك ، فخذ هذا المثال :

في الحلق ، والتقصير ، في الحج ، قال ابن حَجَر : استُدِل بقوله : المحلقين ، على مشروعية حلق جميع الرأس ، لأنه الذي تقتضيه الصيغة ، وقال بوجوب حلق جميعه : مالك ، وأحمد .

واستحبه الكوفيون ، والشافعي ، ويجزئ البعضُ عندهم.

واختلفوا فيه ، فعن الحنفية : الربع ، إلا أبا يوسف ، فقال : النصف.

وقال الشافعي : أقل ما يجب ، حلقُ ثلاث شعرات.

وفي وجه لبعض أصحابه : شعرةٌ واحدةٌ. ((فتح الباري)) 1728.

هنا رأَى مالك ، وأحمد  حلق جميع الرأس.

وقال أبو حنيفة : الربع.

وقال أبو يوسف ، وهو من أتباع أبي حنيفة : النصف.

وقال الشافعي : أقله ثلاث شعرات.

كل هذا ، وأنت ما زلت تقول : لقد أخذوا ذلك من النبي r.

وأسألك : هل النبي r عندما أمر بالحلق ، في الحج ، قال : احلقوا جميع الرأس ، ونصف الرأس ، وربع الرأس ، وثلاث شعرات ؟!!.

وهنا أسألك : الإنسان منا ما هي عدد الرؤوس التي له ؟!

وأغرب من هذا الإنسان الذي له رأسان إلا ربعا وثلاث شعرات ، أغرب منه من يسألك : من أين أتى هؤلاء بالنصف ، والربع ، والثلاث شعرات ؟.

وكأنك أنت الذي ارتكبت جريمة الآب ، والابن ، والروح القدس.

نحن لنا نبيٌّ واحدٌ r ، حجَّ حجةً واحدةً ، حلق شعَرَه فيها مرةً واحدةً ، وقد أمرك الله باتباعه ، ورد الأمر إليه ، وليس إلى ناسٍ تعاهدوا على الخلاف ، واتفقوا على الفُرقة .

خذ هذه الأمثلة :

– قال النووي : واختلفوا في شهادة الأعمى ، فمنعها الشافعى وطائفةٌ ، وأجازها مالكٌ وطائفةٌ. ((شرح النووي)) 1/61.

السؤال : هل هذه مصدره النبي r ، وأنه منع وأجاز شهادة الأعمى؟!.

وهل التمسوا ذلك من النبي r ؟!

إننا لو اتهمنا إنسانًا عاقلا بأنه منع وأجاز شيئًا واحدًا ، في وقت واحدٍ ، فإننا بذلك نتهمة بضياع عقله .

فهل مازال هناك من يعتقد أن كل ما وقعوا فيه من خلاف ، أخذوه عن النبي r ؟!

إن من وظيفة محمد r ، والتي جاء من أجلها ، أن يزيل الخلاف الذي يقع بين الناس ؛

قال تعالى : ﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾. [النحل : 64].

وهاهم الذين اتخذوا من دون الله شركاء ، يزعمون أنهم أخذوا الخلاف من النبي r.

﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ﴾. [الكهف : 5].

– قال النووي : وأجمعوا على وجوب مسح الرأس ، واختلفوا في قَدْر الواجب فيه :

فذهب الشافعي ، في جماعةٍ ، إلى أن الواجب ما يُطلق عليه الاسم ، ولو شعرة واحدة.

وذهب مالك ، وأحمد ، وجماعة ، إلى وجوب استيعابه.

وقال أبو حنيفة ، في رواية : الواجب رُبُعه.

واختلفوا في وجوب المضمضة والاستنشاق ، على أربعة مذاهب :

أحدها مذهب مالك ، والشافعي ، وأصحابهما : أنهما سنتان في الوضوء ، والغسل.

والمذهب الثاني : أنهما واجبتان في الوضوء والغسل ، لا يصحان إلا بهما ، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل.

والمذهب الثالث : أنهما واجبتان في الغسل دون الوضوء ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأصحابه.

والمذهب الرابع : أن الاستنشاق واجبٌ في الوضوء والغسل ، والمضمضة سنة فيهما ، وهو مذهب أبي ثور ، وأبي عبيد ، وداود الظاهري ، وأبي بكر بن المنذر ، ورواية عن أحمد. ((شرح النووي)) 3/107.

إن هذا الخلاف ، بين مسح الرأس كله في الوضوء ، ثم مسح النصف ، ثم الربع ، ثم ، ولو شعرة واحدة.

هل ذلك مصدره النبي r ؟!

أخرجوا لنا حديثا واحدًا ، لا نقول صحيحًا ، بل ضعيفًا ، يقول : إن النبي r مسح نصف رأسه ، وربع رأسه ، وشعرة واحدة.

فإن لم تفعلوا ، ولن تفعلوا ، فإننا ندعوهم إلى التوقف عن الكذب على الله ، وعلى رسوله r ، ويعلمون أن الذين تفرقوا واختلفوا ، إنما التمسوا ذلك من أحبار ورهبان بني إسرائيل.

– قال النووي : واختلفوا في التشهد ، هل هو واجبٌ ، أم سُنَّةٌ ؟

فقال الشافعي ، وطائفةٌ : التشهد الأول سنةٌ ، والأخير واجبٌ.

وقال جمهور المحدثين : هما واجبان.

وقال أحمد : الأول واجب ، والثاني فرض.

وقال أبو حنيفة ، ومالك ، وجمهور الفقهاء : هما سُنتان.

وعن مالك ، روايةٌ بوجوب الأخير. ((شرح النووي)) 4/116.

وما زلنا مع السؤال نفسه : هل كلهم التمس ذلك من محمد r .

وهل تخيلت أن النبي r قال : التشهد الأول سنةٌ ، والأخير واجبٌ ، والأول والأخير واجبان ، والأول واجب ، والثاني فرض ، والأول والأخير سُنَّتَان ؟!.

هل هذا الكلام يصدر عن إنسانٍ عنده بقيةُ من عقل ، حتى يخرج هذا الزعم الباطل ، بأنهم عندما اختلفوا ، التمسوا ذلك من النبي r ؟!.

ووالله الذي لا شريك له في حكمه ، لو ردوا ذلك وغيره ، إلى الله والرسول r ، ما كان إلا قولٌ واحدٌ ، يغنينا عن سماع أنكر الأصوات.

النبي r جلس ، وقرأ التشهد ، نجلس ونقرأ التشهد ، قُضي الأَمر.

وما عدا ذلك فهو صراعٌ بين مذاهب ، استخدمها الشيطان لقتل وحدة هذه الأمة.

يقول الله تعالى : ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾. [الأنفال : 64].

الشبهة الثانية :

يبحث المؤمنون باتخاذ الأنداد ، عن أي شيءٍ يتعلقون به ، ظانين ، وظنهم هو الإثم ، أن فرقة الأُمة وخلافها أمرٌ أقره النبي r.

ومن ذلك احتجاجهم بحديث بن قريظة ، ولا حجة لهم فيه ،

أخرجه البخاري ، ومُسلم ، كلاهما عن عبد الله بن مُحمد بن أسماء الضبعي ، قال : حدثنا جُويرية بن أسماء ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ 

(( قَالَ النَّبِيُّ r لَنَا ، لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ : لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نُصَلِّي ، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ r ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ.)).

قال ابن حجر : قوله : ((لا يصلين أحد العصر)) كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري ، ووقع في جميع النسخ عند مسلم : ((الظهر)) مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحدٍ ، بإسناد واحدٍ ، وقد وافق مسلمًا أبو يعلى وآخرون. ((فتح الباري)) 7/408.

ونقول لهم : إن هذا ماندعوكم إليه ، إذا أقر النبيُّ r شيئًا ، فوجب علينا السمعُ والطاعةُ.

وهل الخلاف حول مسح الرأس كله في الوضوء ، ومسح النصف ، ومسح الربع ، ومسح الثمن ، ومسح ثلاث شعرات ، ومسح شعره واحدة ، الذي وقع بين أئمتكم ، عُرض على النبي r ، فأقره ، وكذلك كل ما وقع بينهم من خلاف.

اسئلوا أئمتكم ، إن كانوا ينطقون.

ففي حديث الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ ، أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ ، فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ r ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ ، لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ r ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ ، فَلَبَبْتُهُ ، فَقُلْتُ : مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ ؟ قَالَ : أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ r ، فَقُلْتُ لَهُ : كَذَبْتَ ، فَوَاللَّهِ ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ r لَهُوَ أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ ، الَّتِي سَمِعْتُكَ ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r أَقُودُهُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ ، عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا ، وَإِنَّكَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ ، فَقَالَ : يَا هِشَامُ ، اقْرَأْهَا ، فَقَرَأَهَا الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : هَكَذَا أُنْزِلَتْ ، ثُمَّ قَالَ : اقْرَأْ يَا عُمَرُ ، فَقَرَأْتُهَا الَّتِي أَقْرَأَنِيهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : هَكَذَا أُنْزِلَتْ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ، فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.)).

  أخرجه مالك ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان.

فقد اختلف عمر ، وهشام ، رضي الله عنهما ، وردا الأمر إلى النبي r ، وأقر الطرفين.

فهل يصلح الآن أن تقوم مجموعة من الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أن يختلفوا ، ثم يخوضون في كتاب الله ، فيخترع كلُّ إنسان منهم فيه ما يشاء ، فإذا ما سألتَ ، قيل لك : لقد اختلف عمر وهشام ، وأفر النبيُّ r الطرفين؟!.

سنقول : هذا هو خلافكم ، فأين إقرارُ النبيِّ r ؟!.

وهناك سؤال هام ، لابد من طرحه ، حتى تزول الغِشاوةُ عن أعين الذين بحثوا عن أدلةٍ ، لإقرار الفرقة والخلاف ، وهو :

هل كل خلافٍ عُرض على النبيِّ r ، أقره ، ولم يُعنِّفْ أحدًا من الطرفين ؟.

وإذا كانت الإجابة : لا ، وهي كذلك ، فإنهم اختاروا واقعةً لم يُعَنِّفْ فيها النبيُّ r أحدًا ، وتركوا ماعنَّف فيه ، وهذا دليلٌ واضحٌ على اتباع الهوى.

فهذا مثال وقع ، وعُرض على النبي r ، وتبين خطأ الطرفين ، ولم يُقر أحدًا منهما :

– في حديث عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبْزَى ؛ أَنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ : إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ ، فَقَالَ عُمَرُ : لاَ تُصَلِّ ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ : 

(( أَمَا تَذْكُرُ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِي سَرِيَّةٍ ، فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدِ الْمَاءَ ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ ، فَصَلَّيْتُ ، فَلَمَّا أَتَيْتُ النَّبِيَّ r ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ ، وَضَرَبَ النَّبِيُّ r بِيَدَيْهِ إِلَى الأَرْضِ ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِمَا ، وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ، وَكَفَّيْهِ.)).

فهنا ، اختلف عُمر وعمار ، فعُمر لم يصلِّ ، وعمار تمرغ في التراب ، وعُرض الأَمر على النبيِّ r ، ولم يُقر النبي r أحدًا منهما على ما فعل ، وعلمهما الصواب.

فلماذا جعلوا كل خلافاتهم في قصة بني قريظة ؟.

ولماذا لايكون كلُّ خلاف وقعَ بين أئمتهم ، كان تمرغًا في التراب ، وتركًا للصلاة؟.

مثالٌ آخر :

– عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ الله عَنْهُ ؛

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ جَيْشًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً ، فَأَوْقَدَ نَارًا ، فَقَالَ : ادْخُلُوهَا ، فَأَرَادَ نَاسٌ أَنْ يَدْخُلُوهَا ، وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ r ، فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا : لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَقَالَ لِلآخَرِينَ قَوْلاً حَسَنًا ، وَقَالَ : لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ.)).

أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي.

فهنا وقع الخلاف ، وعُرض على النبيِّ r ، وبين للفريق الأول أن ما ذهب إليه كان سيودي به إلى النار ، وقال للفريق الثاني قولاً حسنًا.

فهذه أمثلة واضحة ، في خلافات وقعت ، وعرضت على النبي r ، فمنها ما أقره ، ومنها مارفضه ، ومنها ما أقر بعضه ورفض بعضه.

فخذوا كل ما اختلف فيه المختلفون ، واعرضوا الأمر على النبي r ، ليحكم فيه ، واسمعوا له وأطيعوا ، بهذا أمركم الله عز وجل ، فقال :

﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾. [النساء: 65].

وهذا مثالٌ لكيفية عرض الأمر على النبي r :

في مسألة مسح الرأس في الوضوء ،

ذهب مالك ، وأحمد ، وجماعة ، إلى وجوب مسح جميع الرأس.

وذهب الشافعي ، في جماعةٍ ، إلى المسح ، ولو شعرة واحدة.

وقال أبو حنيفة ، في رواية : الواجب رُبُعه.

هذا هو الخلاف ، فإن قلنا : كله صحيح ، والجميع على صواب ، مثل قضية بني قريظة ، فهذا ضلال بعيد ، لأن قضية بني قريظة عرضت على النبي r ، وقضى فيها.

فكيف مسح النبي r رأسه في الوضوء ؟.

وسنذكر الآن أصحَّ حديثٍ ، على الإطلاق ، في صفة وضوء النبي r.

عَنْ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى : أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِى كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَتَوَضَّأُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ : نَعَمْ ؛

(( فَدَعَا بِمَاءٍ ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ، فَغَسَلَ يَدَهُ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثاً ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ ، مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهَ بِيَدَيْهِ ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.)).

أخرجه مالك ، والحميدي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وابن خزيمة ، وابن حِبان.

 فالنبي r مسح رأسه كله ، وانتهى الخلاف ، وظهر أنه لا صلة له ببني قريظة.

الشبهة الثالثة :

وثالثة المصائب ، ما خرجت به شياطين الإنس ، وقولهم : إن الذين تفرقوا واختلفوا ، لم يختلفوا في أصول الإسلام ، بل في فروعه.

ونعود بهم إلى بداية الخلق ، نقرأ لهم من كتاب الله ؛ 

يقول الله : ﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾. 

فأول ما علم الله تعالى آدم علمه الأسماء ، 

قال سبحانه : ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾. [البقرة : 31].

ومعرفة الأسماء ، تحديدًا ، والمسميات ، من الأمور التي ييسر الله تعالى بها المعرفة على عبده المؤمن.

ولذلك ، اهتم أهلُ الباطل بتبديل الأسماء ، من أجل خلق الحياة لباطلهم.

بدلوا اسم الربا ، وجعلوه : الفائدة.

وبدلوا اسم التعري ، والانحراف ، وخلع المرأة ملابسها أمام الرجال ، وسموا ذلك بالفن.

وبدلوا اسم الرجل الذي يقوم بطبخ الفتاوى ، وتلفيقها ، لتناسب معدة الملوك والحكام ، وأسموه بالإمام الأكبر ، أو فضيلة المفتي ، أو رئيس هيئة الدعوة والإرشاد.

وهكذا صنع الباطل في أمره كله.

وقد علم الله تعالى أنبياءه التمييز الدقيق في هذا الأمر ،

عندما أرسل الله نبيه هودًا r إلى قومه ، ودعاهم إلى عبادة الله وحده ، 

﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾. [الأعراف : 70].

فرد عليهم هذا النبي الكريم r ، مفندًا لهم أولا تسميتهم لما يعبدون ؛

﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴾. [الأعراف : 71].

إذن كل اسم ، في عبادةٍ ، تتصل بدينٍ ، لا بد أن يكون به سلطان من الله ، وليس من اختراع الذين ضلوا سواء السبيل.

وكذلك دعا يوسف r ، قال :

﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾. [يوسف : 40].

وكذلك كان كفار مكة ، عندما جعلوا أصنامهم آلهةً ، فقال تعالى :

﴿ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾. [النجم : 19 : 23].

ومن هذا المنطلق القرآني ، نعود إلى شبهتهم ، التي تقول : إن الأئمة قد اختلفوا في الفروع ، ولم يختلفوا في الأصول.

ومعنا هنا ثلاثة أسماء : أئمة ، وأصول ، وفروع.

أولاً : من الذي نَصَّبَ هؤلاء أئمة ، ومن هم ، وهل أئمة كل مذهب ، أو طريق ، أو جماعة ، يوافقون على إمامة من خالفهم ؟

مثال : هل مالك يوافق على إمامة أبي حنيفة ؟.

والإجابة : كلا ، وألف كلا ، قال مالك : إن أبا حنيفة كادَ الدين ، ومن كادَ الدين فليس له دين. ((الضعفاء)) للعقيلي 4/280 :

وهل أئمة الشيعة يحكمون على أئمة المذاهب ، بشيءٍ غير الكفر؟.

وابن تيمية ، وابن القيم يحكمون على أئمة التصوف بالضلال والشرك.

والأمر في هذا بينٌ ، فليست هناك طائفةٌ ترضى عن الأُخرى ، ولا عن إمامها.

ثم ، من الذي قسم الإسلام إلى أصول وفروع ؟.

مع العلم بأن ما يُسمى بالأصول عند مذهب ، فروعٌ عند مذهبٍ آخر .

فهل اتفقت المذاهبُ كافةً على تحديد الأصول والفروع ، ثم اتفقوا على الاختلاف في الفروع فقط؟!.

الجاهل الذي يردد ما لا يفقه ، سيقول : نعم ، لأنه لايعرف الفرق بين نبيٍّ أرسله الله ، وإمامِ مذهبٍ يبول على نفسه.

أما الدارس لأصول هذه المذاهب ، فإنه يعلم ؛ أن المذهب الواحد اختلف في داخله على تحديد الأصول والفروع ، كما يزعمون.

ولكن ، هل نقبل ، ولنا نبيٌّ كريمٌ r ، أن يأتي صاحبُ مذهبٍ ، أو فرقةٍ ، ليقسم لنا الإسلام ، فيقول : هذه أصول ، وتلك فروع ، أو هذا حلالٌ ، وهذا حرامٌ.

﴿ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ ﴾. [الأنعام : 148].

ويقول سبحانه : ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ﴾. [يونس : 59].

فكل مصطلحاتهم التي خرجوا بها من عباءة الشيطان ، بدءًا بكلمة : إمامِ المذهب ، ومرورًا بالإجماع ، والقياسِ ، والمستحبِ ، والركنِ ، والسنةِ المؤكدةِ ، وفرضِ الكفاية ، والكفر المجازي ، والذي يُخرج عن الملة ، وانتهاءً بالأصول ، ثم الفروع ، كل ذلك لم يأذن به الله ، فهم على الله يفترون.

فهذا كتابُ الله بين أيدينا ، وحديثُ نبيه r ، أخرجوا لنا منهما شيئًا اسمه : فرض الكفاية ، أو الذي يُخرج عن الملة ، أو الأصول والفروع.

فإن قالوا : هذه فلسفات واجتهادات أئمتنا.

قلنا لهم : إذا كان يكفيكم فلسفات واجتهادات أئمتكم ، وهو باطلٌ ، فيكفينا النورُ الذي جاء به محمدٌ r ، وهو الحق من عند الله.

﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾. [سورة محمد r : 1 :3].

أمَّا حقيقة أمرِهم ؛ فإنهم قد اختلفوا في كل شيءٍ ، حتى في هذا الذي أَسْموه أُصولاً.

ولأن هذه المصطلحات مرفوضة أصلاً ، فإن مناقشتها ستكون عديمة الجدوى ، كالذي يكتب كتابًا يشرح فيه حديثًا ، وهذا الحديثُ ضعيفٌ.

فلو جئت بأصلٍ عند الشافعية ، اختلفوا فيه مع الحنفية ، سيقولون لك هذا فرعٌ ، وذلك لأن الأمر ليس لهم فيه نبيٌّ واحدٌ ، فكل من شاء سيقول ما شاء.

مثالٌ : في الزكاة ، وهي مما بُنِيَ عليه الإسلام ؛

قال ابن حزم : قال أبو حنيفة ، والشافعي : زكاةُ مالِ العبد على سيده ، لأَن مالَ العبد لسيده ، ولا يملكه العبد.

وقال مالك : لا تجب الزكاةُ في مال العبد ، لا عليه ، ولا علي سيده.

قال ابن حزم : وهذا قول فاسدٌ جدًّا ، لخلافه القرآنَ ، والسننَ. ((المحلى)) 5/202.

والسؤال هو : خروج الزكاة عندكم ، أصلٌ ، أم فرعٌ؟

هاهو خلافهم في إخراج الزكاة ، التي قاتل عليها المسلمون.

 مثال آخر : ذكر ابن حزم ، أن مالكًا ، والشافعي ، ذهبا إلى إيجاب الزكاة في مال الصبي ، والمجنون.

وقال أبو حنيفة : لا زكاة في أموالهما ، من الناضِّ (الناض ، ماكان متاعًا ثم تحول إلى ذهب وفضة) ، والماشيةِ خاصة ، والزكاة واجبة في ثمارهما وزروعهما.

وقال الحسن البصري ، وابن شبرمة : لا زكاة في ذهبه وفضته خاصة ، وأما الثمار والزروع والمواشي ففيها الزكاة.

وأما إبراهيم النخعي ، وشريح ، فقالا : لا زكاة في ماله جملةً.

 قال ابن حزم : وقولُ أبي حنيفةَ أسقطُ كلامٍ ، وأغثُّه ، ليت شعري ، ما الفرق بين زكاة الزرع والثمار ، وبين زكاة الماشية والذهب والفضة؟!. ((المحلى)) 5/205

ونسأل : هذا اختلاف في أصلٍ أم فرع ، فريقٌ يوجب الزكاةَ في مالٍ ، وفريقٌ لا يوجب ، وثالثٌ يقسم المال إلى نصفين ، فيوجب الزكاة على قسمٍ ، ولا يوجبه على الآخر ، هكذا من رأسه ، وإذا لم تستح ، فاصنع ما شئت.

مثال آخر : قال ابن حزم : من قال ، أي لامرأته : أنت طالق ، ونوى اثنتين ، أو ثلاثًا ، فهو كما نوى ، وهو قول مالك ، والليث ، والشافعي.

وقال أبو حنيفة ، وأبو سليمان ، وسفيان ، والأوزاعي : يلزمه واحدةٌ لا أكثرُ. ((المحلى)) 10/174.

هل هذه المصيبة أيضًا خلافٌ في الفروع.

إذا قال واحدٌ لامرأته : أنت طالق ، وهو ينوي ثلاثًا ، يرى مالك والليث ، والشافعي ، أنها قد طلقت ثلاثًا ، وعليه ، فلا تحل لزوجها من بعد ذلك ، حتى تنكح زوجًا غيره ، نكاحًا صحيحًا ، أما إن عاش معها زوجها قبل أن تتزوج من غيره ، فهو يعيش معها في الحرام ، واستحل حرمات الله.

أما أبو حنيفة  ، وأبو سليمان ، وسفيان ، والأوزاعي ، فيرون أنها طلقةٌ واحدةٌ ، وتعيش مع زوجها في حلال.

وعليه ، فهذه المرأة زانية ، عند مالك ، والليث ، والشافعي ، إن عاشت مع زوجها بعد قوله.

وهذه المرأة ، هي هي ، طاهرة ، عفيفة ، عند الفرقة الثانية.

وتقولون لنا بعد ذلك : خلافهم رحمة ، ونقول لكم : خلافهم دعارةٌ ونجاسة. 

امرأةٌ زانيةٌ طاهرةٌ في وقتٍ واحدٍ ، تنظر إليها أُمة محمد r ، في لحظة واحدة ، فيرونها عاهرةً ، طاهرةً.

ويقولون : لم يختلفوا في الأصول ، قبح الله أصول من لم يرد دينه ، وشرعه ، إلى محمد r.

أما نحن ، فديننا ينقسم إلى أمرٍ ، ونهي ، أمرٍ بالمعروف ، ونهيٍ عن المنكر ، هكذا بينه لنا ربُّنَا في كتابه ، فقال :

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهََ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾. [الحشر : 7].

وبَيَّنَه نَبِيُّنا r ، فقال :

((…إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ.)).

أخرجه الحميدي ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم. 

الباب الرابع

الذين قالوا : سمعنا وأطعنا

عندما خلق الله الناسَ ، قسم الجميع إلى قسمين ؛

فقال سبحانه : ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾. [التغابن : 2].

وعندما عاش الناس في الدنيا ، عاشوا فريقين ؛

فقال سبحانه : ﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾. [الأعراف : 30].

وكذلك يكونون بعد العرض ، والفصل ، والحساب ،

قال سبحانه : ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾. [الشورى : 7].

إنها سنة الله في خلقه ، وكذلك كانت في موقف الناس من الرسل ؛

يقول سبحانه : ﴿ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ﴾. [النساء : 55].

هم خَلقٌ ، من الجن والإنس ، أنعم الله عليهم برحمته ، وشرح صدورهم لطاعته ؛

﴿ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾. [الأنعام : 125].

واستَمِع إلى قول الجن ، ونِعَم ما قالوا ، عندما خالطت بشاشةُ القرآن قلوبَهم :

﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ﴾. [الجن : 1و2].

استمع : ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾. [الجن : 29 : 32].

إنه نداء الإيمان ، لاتأويل ، ولا تعطيل ، ولا تمثيل ، ولا تشبيه ، ولا قلنا ، ولا قالوا ، شيءٌ كنور الصبح يتنفسُ ، كماء نزل من السماء طاهرًا سلسبيلاً يتهادى على قلبٍ طاهر ، واقرأ : 

﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾. [البقرة : 285].

والمؤمن عبدٌ من عباد الله ، وليس مثل هذا السائب الشرود الذي يفعل ما يشاء ، ويدع ما يشاء ، له قول واحدٌ :

﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾. [النور : 51].

وأوامر الله تعالى ، وسنةُ نبيه r ، ليست بضاعةً بائرةً ، يختار منها ما يشاء ، ويستحب منها ما يهوى ، وهذا عنده فرض كفاية ، وذاك عنده كفاية فرض ؛

اقرأ : ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾. [القصص : 68].

واقرأ : ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا ﴾. [الأحزاب : 36].

فالناس ، أمام أمر الله ، رجلان ، عبدٌ ، وحرٌ.

عبدٌ ، ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾. [ البقرة : 131].

وحرٌ ؛ يفعل ما يشاء ، ويختار ما يشاء ، 

أمر الله نبيه أن يقول لهم : ﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾. [الزمر : 14].

وقال الله لهم : ﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾. [فصلت : 40].

العبد المؤمن ، أمام أمر الله ، ليس له اختيارٌ أن يفعل أو لا يفعل ، لأنه قبل سماعه الأمر كان قد عاهد الله ، أن يسمع ويطيع ، وأخذ على نفسه الميثاق ، وانتهى ؛

يقول سبحانه : ﴿ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾. [المائدة : 7].

وأول من كان المثالَ الطيبَ للسمع والطاعة ، أصحابُ رسول الله r ، الذين ألزمهم الله كلمة التقوى ، وكانوا أحقَّ بها ، وأهلَهَا.

في حديث صلح الحديبية ، وعندما اختلط الأمرُ ، قال عمر بن الخطاب :

((…فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ هَذَا نَبيَّ اللَّهِ حَقًّا ؟ قَالَ : بَلَى ، قُلْتُ : أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ ، وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ : بَلَى ، قُلْتُ : فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَالَ : أَيُّهَا الرَّجُلُ ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ r ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ ، وَهْوَ نَاصِرُهُ ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ…))

  أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان.

وقول أبي بكر ، رضي الله عنه ، لعمرَ : اسْتَمْسِك  بِغَرْزِه ، الغَرْزُ ، هو ركاب الراكب ، ومعناه : أي استمسك بما عليه النبيُّ r , واتَّبِع قولَه وفِعْله ، ولا تُخالِفه ، كالذي يُمْسِك بركاب الرَّاكِب ويَسِير بِسَيْره .

وبعد وفاة النبي r ، قال أبو هريرة : 

(( لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ r ، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ ، قَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ : كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ r : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ ، حَتَّى يَقُولُوا : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ ، إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ r ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ ، قَالَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.)).

أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والتِّرمِذي ، والنَّسائي ، وابن حِبَّان.

اقرأ قول أبي بكرٍ الصديق ، رَضِيَ الله عنهُ : (( وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ r ، لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ )).

لو منعوا عقالاً ، والعقال هو الحبل الذي يُربط به البعير ، لو منعوا حبلاً كان يؤدى للنبي r ، لقاتلهم أبو بكر على منعه.

فأين أبو بكر ، رَضِيَ الله عنهُ ، فقد أضعنا البعير بما عليه ، بل عقرنا الناقة يا أبا بكر.

صلاة الجنازة يا أبا بكر فرض كفاية ، وصلاة العيدين ، قيل : إنها سنةٌ مؤكدةٌ ، وزكاة الفطر في أيامنا تُخرج بالدولار ، لأنه عندهم أفضل مما أوصى به خليلك محمد r.

عقالاً يا أبا بكر تقاتلهم على منعه ؟ إن صلاةَ الجمعة لم تعد واجبةً ، عند مذاهب الفرقة والخلاف ، على النساء ، والمسافر ، والعبد المسلم ، وأنت يا أبا بكر تسأل عن الحَبْل ؟!.

قال ابن حزم : ورأى أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، أن لا جمعة على عبدٍ ، ولا مسافرٍ ، واحتج لهم مَنْ قَلَّدهم في ذلك بآثارٍ واهيةٍ ، لا تَصِحُّ ، أحدها مرسلٌ ، والثاني فيه هُريم ، وهو مجهولٌ ، والثالث فيه الحكم بن عَمْرٍو ، وضرار بن عَمْرٍو ، وهما مجهولان ، ولا يحل الاحتجاج بمثل هذا. ((المحلى)) 5/49.

وقال ابن حزم : قال مالك ، والليث : تجب الجمعة على من كان من المِصر على ثلاثة أميال ، ولا تجب على من كان على أكثر من ذلك.

وقال الشافعي : تجب على أهل المِصر وإن عظم ، وأما من كان خارج المِصر ، فمن كان بحيث يسمع النداء فعليه أن يجيب ، ومن كان بحيث لا يسمع النداء لم تلزمه الجمعة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : تلزم الجمعة جميعَ أهل المِصر ، سمعوا النداء ، أو لم يسمعوا ، ولا تلزم من كان خارج المِصر سمع النداء أو لم يسمع.

قال ابن حزم : كل هذه الأقوال لا حُجة لقائلها ، لا من قرآن ، ولا سنةٍ صحيحةٍ ، ولا سقيمةٍ ، لا سيما قول أبي حنيفة وأصحابه . ((المحلى)) 5/56.

 عقالاً يا أبا بكر ، حبلٌ لايساوي شيئًا ، لو مر به إنسانٌ في طريقٍ لنحاه برجله ، يا أبا بكر ، لقد منعوا زكاة الذهب !!.

يقول الله عز وجل : ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾. [التوبة : 34].

قال ابن حزم : والزكاةُ واجبةٌ في حُلِيِّ الفضة والذهب.

وقال أبو حنيفة بوجوب الزكاة في حُلِيِّ الذهب والفضة.

وقال مالك : إن كان الحُلِيُّ لامرأة تلبسه ، أو تُكريه ، أو كان لرجلٍ يعده لنسائه ، فلا زكاة في شيء منه ، فإن كان لرجل يعده لنفسه عدةً ففيه الزكاة ، ولا زكاة على الرجل في حلية السيف ، والمنطقة ، والمصحف ، والخاتم.

وقال الشافعي لا زكاة في حُلِيِّ ذهبٍ ، أو فضة. 

قال ابن حزم : أما قول مالك فتقسيمٌ غير صحيحٍ ، وما علمنا ذلك التقسيم عن أحدٍ قبله ، ولا تقوم على صحته حجةٌ من قرآنٍ ، ولا سُنَّةٍ .

وأما الشافعي ؛ فإنه علل ذلك بالنماء ، فأسقط الزكاة عن الحُلِيِّ ، وعن الإبل ، والبقر السوائم (أي التي ترعى في المراعي ، ولا تعمل).

قال ابن حزم : وهذا تعليلٌ فاسدٌ ، لأنه لم يأت به قرآنٌ ، ولا سُنَّةٌ ، وقد علمنا أن الثمار والخضر تَنْمِي ، وهو لا يرى الزكاة فيها ، وكراء الإبل ، وعمل البقر يَنْمِي ، وهو لا يرى الزكاة فيها ، والدراهم لا تَنْمِي عند مالكها ، وهو يرى الزكاة فيها. ((المحلى)) 6/ 75 : 78.

ونعود مع أصحاب رسول الله r ، وكيف وقفوا عند كتاب الله r ، لم يقل أحدهم : إنني أرى كذا ، أو المسألة عندي حكمها كذا ، لأن الرؤية عندهم كانت في اتجاهٍ واحدٍ ؛ 

﴿ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.

عمر بن الخطاب ، أبو حفص ، أميرُ المؤمنين ، هذا الجبل ، الذي يقف بجانبه كل الذين اتخذهم الناسُ أندادًا ، يقفون مجتمعين كحصاة أُلقيت في المحيط.

عمر لايرى إلا السمع والطاعة ، وليس عنده إلا : سمعنا ، وأطعنا.

(( يقول عبد الله بْنُ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ الله عنهُمَا : قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ ، كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا . فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ : يَا ابْنَ أَخِي ، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ . قَالَ : سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ ، قَالَ : هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ ، وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ ، فَغَضِبَ عُمَرُ ، حَتَّى هَمَّ بِهِ ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ r : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجِاهِلِينَ ﴾ ، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.)).

أخرجه البخاري ، والبيهقي.

ويدخل عمر بن الخطاب ، على شيبة بن عثمان ، حاجب الكعبة ، والكعبة بداخلها ذهبٌ ، وفضة ، فيقول :

(( لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ شَيْبَةُ : قُلْتُ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ . قَالَ : لِمَ ؟ قَالَ شَيْبَةُ : قُلْتُ : لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ . قَالَ : هُمَا الْمَرْءَانِ ، يُقْتَدَى بِهِمَا.)).

أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، وابن ماجة.

لاجدالَ ، ولا سمعنا وعصينا ، بل قلوبٌ أحبت محمدًا ، فصار أَمرُهُ ، ونهيُهُ ، وفعلُهُ ، ورائحتُهُ ، عليها بردًا وسلامًا.

في الأولى ؛ يكفي أن يستمع عمر للآية ، ليقول الحر بن قيس : وكان وقافًا عند كتاب الله.

وفي الثانية ، يكفي أن يعلم عمرُ ، أن حبيبه r لم يفعل كذا ، ليتوقف.

– ونمضي نحن معه ، نشتم رائحةَ المسك ، كأننا خلفه ، رَضِيَ الله عنهُ ،  يتقدم إلى الحجر الأسود ، فيراه حجرًا ، فيقول :

(( إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ ، قَالَ : ثُمَّ قَبَّلَهُ.))

أخرجه مالك ، والحميدي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حِبان.

رحمةُ الله عليك ياعمر ، فقد تبدل الأمر وتغير ، ولم تَعُدِ المسألةُ مسألةُ حجر ، فكل الحجارة ، عندهم الآن ، يُسجد لها من دون الله ، وتحول الحصى إلى أئمة مذاهب ، ومشايخ طرق ، وصار الأعمى يقول : أرى كذا ، والمفلس يقول : المسألة عندنا ، وصرنا نصوم رمضان بشهادة الأعمى لهلال رجب!!.

وأنت تقول : ((وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ .)).

ذَكَّرْتَنا به ياعمرُ ، فأعد علينا حتى نسمع اسمه مليون مرة ، فقد اشتقنا لسيرته ، وسماع اسمه ، فلم نعد نسمع ، إلا قال أبوحنيفة ، ورَأَى الشافعي ، والمسألة عند مالك ، وتقول الحنابلة ، والطرق الصوفية ، وأمراء الجماعات الذي بال الشيطان في آذانهم ، وضرب عليها نومًا طويلاً.

ذَكِّرْنَا به ياعمر ، فالذي وقع لنا بعدكم لم يقع لأحدٍ من قبل ، اللهم إلا إذا كان في بني إسرائيل ، عند عجائز خيبر ؛

يقول النووي ، بعد أن ذكر حديث عمر : هذا الحديث فيه فوائد ، منها استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف بعد استلامه.

وكذا يُستحب السجود على الحجر أيضًا ، بأن يضع جبهته عليه ، فيُستحب أن يستلمه ، ثم يقبله ، ثم يضع جبهته عليه ، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور.

وانفرد مالك عن العلماء ، فقال : السجود عليه بدعة.

واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك في هذه المسألة عن العلماء.

وأما الركن اليماني فيستلمه ولا يقبله ، بل يقبل اليد بعد استلامه ، هذا مذهبنا.

وقال أبو حنيفة : لا يستلمه.

وقال مالك وأحمد : يستلمه ، ولا يقبل اليد بعده.

وعن مالك رواية ، أنه يقبله.

وعن أحمد رواية ، أنه يقبله ، والله أعلم. ((شرح النووي لمسلم)) 9/16.

يا أمير المؤمنين ؛ لقد جعلوا الأمر على الاستحباب ، وأضافوا عليه السجود على الحجر ، ثم قامت معركة ، وكأنهم أقسموا بما يحلفون به ، لأنني لا أعرفه ، أن يتفرقوا ويختلفوا.

إذا قال الشافعي : الركن اليماني يستلمه ولا يقبله ، بل يقبل اليد بعد استلامه.

فلا بد أن يكون أبو حنيفة قد قال : لا يستلمه.

فيقول مالك وأحمد : يستلمه ، ولا يقبل اليد بعده.

معركة لا تتوقف ، وحربٌ ضروس ، في كل أمرٍ من أُمور الإسلام ، ولا تعرف من الذي كَلَّف هذا أو ذاك ، أن يقول ويخترع ويؤلف.

وعمر ، مازال هناك ، وسيظل ، في قصره في الجنة ، برحمة الله ، يُردد علينا كلماته :

(( وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ .))

– وما زلنا في بيت عمر ، والذرية التي بعضُها من بعضٍ ، ومع ابنه عبد الله ؛

عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ ، قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ ، رَضِيَ الله عنهُما ،  عَنِ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ . فَقَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ . قَالَ : قُلْتُ : أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ ؟ قَالَ : اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِالْيَمَنِ ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ.

أخرجه أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي.

هذا إيمانهم ، وهذا ما تعلموه من نبيهم ، وهذا هو الميثاق : سمعنا وأطعنا.

– وعَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَيَصْلُحُ لِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ، قَبْلَ أَنْ آتِيَ الْمَوْقِفَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : لاَ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَأْتِيَ الْمَوْقِفَ . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : 

(( فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ r ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ.)).

فَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ r أَحَقُّ أَنْ تَأْخُذَ ، أَوْ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟.

أخرجه أحمد ، ومسلم ، والنسائي.

وهذا لم يتركه أيضًا الذين حملوا على عاتقهم ، مهمة تحريف الكلم عن مواضعه ، فلا بد من تعطيل ما جاء به محمد r بكل السبل ؛

ولأن هذا الحديث في صحيح مسلم ، والنووي شارح هذا الصحيح ، شافعي المذهب ، فإنه يبدأ الباب بقوله :

باب استحباب طواف القدوم للحاج ، والسعى بعده.

فجعل الأمر أولاً على الاستحباب ، وكل إنسان يقرأ هذا الحديث ، فهو على هواه ، لأن الأمر مستحبٌ ، مع أن النووي لا يستطيع أن يأخذ أمرًا للشافعي ، أو فعلاً على الاستحباب.

ثم يقول النووي : هذا الذي قاله ابنُ عمر ، هو إثبات طواف القدوم للحاج ، وهو مشروعٌ قبل الوقوف بعرفات ، وبهذا الذي قاله ابنُ عمر ، قال العلماءُ كافة ، سوى ابن عباس.

وكلهم يقولون : إنه سنةٌ ، ليس بواجبٍ ، إلا بعض أصحابنا ، ومن وافقه ، فيقولون : واجبٌ يُجبر تركه بالدمِ ، والمشهور أنه سنة ليس بواجبٍ ، ولا دَمَ في تركه. ((شرح النووي)) 8/217.

عبد الله بن عمر ، الذي تربى أمام النبي r ، وأخذ العلم عنه ، يقول في حزم :

(( فَقَدْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ r ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْقِفَ.)).

والنووي أدخل نفسه ، وكثيرًا من الناس ، في دائرة الجدل ، والخلاف ، التي وُرثت عن بني إسرائيل.

ونقول للنووي ، ولكل الذين داروا في فللك التقليد للمذاهب ، إذا كان ابن عمر رفض رأي ابن عباس ، فما بالك برأي جميع أصحاب المذاهب ، المعروفة والمجهولة ، إنها كبصاقٍ بصقه صاحبه في كنيف.

عندنا سنة محمد r ، عندنا النور كله ، وسمعنا وأطعنا ، ونترك الذين آمنوا بالخلاف ربًّا  ، وبالمذاهب نبيًّا ، وقيل وقال دينًا ، نتركهم ، مذهب يقول : عليه دم ، ويرد الآخر : عليك ليلٌ طويلٌ ، فارقدْ.

يقول الرحمان الرحيم : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ [المائدة : 20 : 23]. 

ما زلنا مع الذين قالوا : سمعنا وأطعنا ، أولئك أصحاب رسول الله r ، الذين عرفوا قدره ، وقدر ما جاء به ، فعزروه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ؛ 

– عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ ، فِي الْجَمَاعَةِ ، فِي الْمَسْجِدِ ، فَقِيلَ لَهَا : لِمَ تَخْرُجِينَ ، وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ ، قَالَتْ : وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي ؟ قَالَ : يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ r :

(( لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ.)).

أخرجه أحمد ، والبخاري ، ومسلم. 

نعم ، يمنع عمرَ بن الخطاب ، رَضِيَ الله عنهُ .

– وَعَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ r ، أَنَّهُ قَالَ :

(( لاَ تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ بِاللَّيْلِ.)).

فَقَالَ سَالِمٌ ، أَوْ بَعْضُ بَنِيهِ : وَاللَّهِ ، لاَ نَدَعُهُنَّ ، يَتَّخِذْنَهُ دَغَلاً.

قَالَ : فَلَطَمَ صَدْرَهُ ، وَقَالَ : أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r وَتَقُولُ هَذَا؟!!.

أخرجه أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن حبان.

وقد كثر الذين يَرُدُّون حديثَ رسول الله r ، حتى اعتاد الناسُ ذلك ، وصاروا يسمعون عقب كل حديث : ولكن فلانًا يقول كذا ، ونقول : أين عبد الله بن عمر ، يلطمُ صدورَ هؤلاء الصُّمِّ ، والبُكْمِ ، والعُمْي.

وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ، وَهُوَ يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، عَنِ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : هِيَ حَلاَلٌ . فَقَالَ الشَّامِيُّ : إِنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا ، وَصَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ r ، أَأَمْرَ أَبِي نَتَّبِعُ ، أَمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ r ؟! فَقَالَ الرَّجُلُ : بَلْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ r . فَقَالَ : لَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ r.)).   

أخرجه الترمذي.

وهذا الرجل الشامي الذي جاء ليتعلم ، وجد نفسه فجأةً أمام قولٍ لعمر بن الخطاب ، في مقابل فِعلٍ للنبي r ، وهنا ، لا اختيار ، ولا خِيرة ، حتى وإن كان في المقابل رجلٌ في مكانة عمر بن الخطاب. 

أَمَّا ، ومنذ ظهورِ مذاهبِ العفن ، فإن التائه يقف مترددًا بين أمرٍ لله تعالى ، أَو لنبيه r ، وبين قولٍ لصاحب مذهبٍ ، باض الشيطانُ في صدره ، وفَرَّخَ. 

ابن عمر يسأل الرجل : أَأَمْرَ أَبِي نَتَّبِعُ ، أَمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ r ؟.

والرجلُ ، كأن الإجابةَ هي نورُ عينيه ، ونبضُ قلبه ، فيتنفسها : بَلْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ r .

لم يجادل ، لم يقل : هذا عمر ، أمير المؤمنين ، والذي بشره النبي r بقصر في الجنة ، فيه ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، كل هذا ، وملءُ الأرض من هذا ، يذوب ، عندما يوضع بجانب محمدٍ r.

هكذا كانت خيرُ أُمة أُخرجت للناس ، 

 انظر هناك ، هذا رسول الله r في مسجده ، يجلس على منبره ، هناك أمرٌ ما سوف يحدث ، فلندخل لنرى ماذا هناك ، من خلال حديث عبد الله بن عمر ؛

عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، رَضِيَ الله عنهُمَا ،

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ، وَكَانَ يَلْبَسُهُ ، فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ ، فَصَنَعَ النَّاسُ خَوَاتِيمَ ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَنَزَعَهُ ، فَقَالَ : إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ ، وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ ، فَرَمَى بِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ لاَ أَلْبَسُهُ أَبَدًا ، فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ.))

أخرجه الحميدي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن حبان.

هل شعرت بشيءٍ وأنت تقرأ هذا الحديث ؟ هل سمعت صوت أحدٍ ، غير الذي أرسله الله رحمةً للعالمين ؟.

صنع خاتما من ذهب ، فصنعوا مثله ، نبذه ، فنبذوه.

لم يأمر أحدًا بشيءٍ ، فقط ، يكفي أن يفعل ، وأَمَامه رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

لم يسأل أحدٌ منهم ، عن نوع الذهب ، وعن معياره ، وما هو الوزن الذي يَحْرم لبسه ، ولا عن نسبة النحاس فيه.

لم يفعلوا ذلك ، لأن الله عز وجل أكرمهم ، فلم يُعاصروا بقايا مذاهب بني إسرائيل.

إنهم خير صحبٍ لنبي كريم ، وهاهم ، وبأمر واحدٍ ، يأتيهم عن نبيهم r ، يتركون شيئًا أصبح يجري في عروقهم ، إنها الخمرُ ، والإدمانُ ، مئات المؤتمرات تنعقد ، وآلاف الأبحاث تعرض فيها ، وخبراء من شتى أنحاء الأرض ، يحذرون من التدخين ، والخمر ، وتوضع القوانين ، وتوقع العقوبات القاتلة ، والنتيجة ، ياليتها كانت صفرًا لكانت إنجازً ، ولكن ذلك كله ، والإدمان في زيادة ، والضياع ينتظر الجميع.

وكان أهل الجاهلية يعيشون على وجود الخمر في بيوتهم ، كأمرٍ من مقومات الحياة ، وجاءهم محمدٌ r ، نبيٌّ أُميُّ ، لم يعقد مؤتمرًا ، ولم يتحدث خبيرٌ من الناس ، بل يأخذنا أنس بن مالك ، لنرى من خلال قوله ، قمةً ، من قمم السمع والطاعة ؛   

– قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إِنِّي لَقَائِمٌ ، أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ ، وَفُلاَنًا ، وَفُلاَنًا ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : هَلْ بَلَغَكُمْ الْخَبَرُ ؟ فَقَالُوا : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : حُرِّمَتِ الْخَمْرُ . قَالُوا : أَهْرِقْ هَذِهِ الْقِلاَلَ يَا أَنَسُ ، قَالَ : فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا ، وَلاَ رَاجَعُوهَا ، بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ.

(*) وفي رواية : (( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ، وَأَبَا طَلْحَةَ ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ، شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ وَتَمْرٍ ، فَأَتَاهُمْ آتٍ ، فَقَالَ : إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : يَا أَنَسُ ، قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجَرَّةِ فَاكْسِرْهَا ، فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا ، فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ.)).

 أخرجه مالك ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن حبان.

كان يكفي هؤلاء أن يمر رجلٌ ، فيقول : إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ .

وفي الرواية الأُولى : قَالَ أَنَسٌ : فَمَا سَأَلُوا عَنْهَا ، وَلاَ رَاجَعُوهَا ، بَعْدَ خَبَرِ الرَّجُلِ.

وفي الثانية : فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : يَا أَنَسُ ، قُمْ إِلَى هَذِهِ الْجَرَّةِ فَاكْسِرْهَا.

لقد كانوا خير من استجاب لنداء الله تعالى ؛

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾. [الأنفال : 42].

ويكفي أن يستمر النبي r في دعوته ، ثلاثًا وعشرين سنةً ، حتى لَقِيَ ربَّه ، ولم تُعرض عليه قضيةَ رجلٍ شرب خمرًا ، من طريقٍ صحيحٍ ، إلاَّ مرةً واحدةً.

أما إذا عُرض أَمرُ النبي r على أرباب المذاهب ، والفرق ، فإنهم يثورون؛

﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾. [المدثر : 51].

فسوف يجادلون في المادة التي صنعت منها الخمر ، وعدد الأيام التي مرت على النقيع ، وحجم المادة التي يبدأ من عندها التحريم ، وهذا المذهب يحب ، وذاك الفريق يكره ، ويخرجون بعد البحث سكارى.

اقرأ هذه في فتح الباري ، شرح الحديث (5256) : قال ابن حجر :

ونقل الطحاوي في اختلاف العلماء ، عن أبي حنيفة : الخمر حرامٌ ، قليلها وكثيرها ، والسُّكر من غيرها حرامٌ ، وليس كتحريم الخمر ، والنبيذ المطبوخ لا بأس به ، من أي شيء كان ، وإنما يحرم منه القدر الذي يسكر ، وعن أبي يوسف : لا بأس بالنقيع من كل شيءٍ ، وإن غلا ، إلا الزبيب ، والتمر ، قال : وكذا حكاه محمد ، يعني ابن الحسن الشيباني ، عن أبي حنيفة ، وعن محمد : ما أسكر كثيره فأحب إلي أن لا أشربه ، ولا أُحرمه. انتهى.

قال ابن حزم : فأول فساد هذه الأقوال ، أنها كلُّها أقوالٌ ليس في القرآن شيءٌ يوافقها ، ولا في شيءٍ من السنن ، ولا في شيءٍ من الروايات الضعيفة ، ولا عن أحدٍ من الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولا صحيحٍ ، ولا غير صحيحٍ ، ولا عن أحدٍ من التابعين ، ولا عن أحدٍ من خلق الله تعالى قبل أبي حنيفة ، فيا لعظيمِ مصيبةِ هؤلاء القوم في أنفسهم ، إذ يُشَرِّعون الشرائعَ ، في الإيجابِ والتحريمِ والتحليلِ ، من ذوات أنفسهم ، ثم بأسخفِ قولٍ ، وأبعده عن المعقول. ((المحلى)) 7/492.

هذا هو الفرق بين أصحابِ رسولِ الله r ، في تلقي أوامره ، وبين الذين مَردوا على النفاق ، والله تعالى قد ذكر لنا حال الفريقين ؛

يقول الله تعالى : ﴿ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾. [الأنعام : 125].

انظر إليهم ، إلى أصحاب رسول الله r ، وكيف كانوا المثال الحي للسمع والطاعة ، لتعرف هذا المعنى العظيم ، في قوله تعالى : ﴿ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ﴾ ؛

– عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ؛

)) أَنَّ رَسُولَ اللهِ r كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَنَزَلَتْ : ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً ، فَنَادَى : أَلاَ إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ ، فَمَالُوا ، كَمَا هُمْ ، نَحْوَ الْقِبْلَةِ.)).

أخرجه أحمد ، ومسلم ، وأبوداود ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة.

كانوا في الصلاة ، رجالٌ من أصحابِ محمدٍ r ، مَرَّ بهم رجلٌ ، عَلِمَ أن القبلةَ قد حولها الله  ، نادى عليهم ، وهم في الصلاة ، أَخْبَرَهم أن القبلة قد تحولت ، فتحولوا.

هذا هو الإيمان بالله ، وهذا هو النباتُ الطيب ، عندما يُروى بماءٍ طيبٍ.

هل سمعتَ جدلاً ؟ هل سمعتَ صراخًا وعويلاً ؟.

لو عُرض الأمر على عصابة الذين تفرقوا واختلفوا ، من عَبَدة المذاهب ، والفرق ، والعِجل ، بقايا بني إسرائيل ، لرأيتَ فريقًا لطمَ الخدود ، وآخرَ شق الجيوب ، وثالثًا يدعو بدعوى الجاهلية ، ولأدخلوك في غيابات الجب ، ولن تخرج إلا برحمة الله.  

أما الذين شرح الله صدرهم للإسلام ، وهو نور الله إلى خلقه ، فتحولوا من إدمان الخمر إلى كراهية الخمر ، بأمر واحد ، في يُسْرٍ ، يسرهم الله إليه ، تنظر إليهم ، وهم يشربون الخمر ، فكأنهم خُلقوا لها ، ولن يتركوها إلا بترك الحياة.

فينزل التحريم ، فتراهم يتركونها ، برحمة الله ، وكأنهم لا يفعلون شيئًا .

وتتحول القبلة ، فيتحولون ، وأينما كان أمرُ الله كانوا.

أصحاب محمد r ، أولئك الذين وصفهم عروة بن مسعود الثقفي ، عندما بعثه كفار مكة ، لمفاوضة النبي r عند الحديبية ، فرجع عروة إلى أهل مكة ، وقال :

(( …أَيْ قَوْمِ ، وَالله ، لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ ، وَكِسْرَى ، وَالنَّجَاشِيِّ ، وَاللهِ ، إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ ، مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ r مُحَمَّدًا ، وَاللهِ ، إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ ، تَعْظِيمًا لَهُ .)).

أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، وأبوداود ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان.

صلى الله وسلم وبارك عليك يارسول الله ، ورضي الله عن أصحابك ، 

كانو يعرفون قدره ، وقدر طاعته ، وقدر ما يخرج من فمه ، ولا يقبلون بعد قوله حرفًا آخر ، حتى وإن كان ظاهره صحيحًا ؛

– عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r :

)) الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ.((.

فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ : مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ : إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا ، وَإِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً ، فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ : أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ r ، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ ؟! .

أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم.

فإذا قال r قولاً ، فلسنا في حاجةٍ إلى قولِ غيره ، بل ، ولم يقبلِ النبيُّ r ، تغيير كلمة واحدةٍ ، في أمرٍ له ، وإن أدت هذه الكلمة الغرض من الكلمة الأُولى ؛

– عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ r :

(( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ ، ثُمَّ قُلِ : اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ.

قَالَ الْبَرَاءُ : فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ r ، فَلَمَّا بَلَغْتُ : اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ . قُلْتُ : وَرَسُولِكَ . قَالَ : لاَ ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.))

أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبوداود ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان.

حتى هذا التبديل الحرفي ، والذي قد يقول فيه بعض أهل اللغة : إنه لا يُخل بالمعني ، لأن : رسولك الذي أرسلت ، هو محمد r ، و : نبيك الذي أرسلت ، هو محمد r.

هذا ، لم يقبله النبي r ، فقال للبراء : (( لاَ ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.)).

ولكننا إذا ذهبنا بمثل هذا الحديث إلى ظلمات التحريف ، والتبديل ، فإنك ستجد قومًا آخرين ، غير هذا الجيل الأول الطيب ، الذي آمن بطاعة نبيه.

اقرأ تفسير ، بل تحريف هذا الحديث الشريف ؛

فِي هَذَا الْحَدِيث ثَلاَث سُنَن مُهِمَّة مُسْتَحَبَّة , لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ : إِحْدَاهَا : الْوُضُوء عِنْد إِرَادَة النَّوْم , فَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا كَفَاهُ ذَلِكَ الْوُضُوء ، الثَّانِيَة : النَّوْم عَلَى الشِّقّ الأَيْمَن ، وَالثَّالِثَة : ذِكْر اللَّه تَعَالَى لِيَكُونَ خَاتِمَة عَمَله. شرح النووي 

لقد ضاع الحديث هنا ، لأن هذه على مذهب النووي سننٌ مهمة مستحبة ، كل واحدٍ حسب هواه ، وليست بواجبة على أحدٍ من خلق الله.

من أين جاء النووي بهذا اللغو والهراء ؟ من الذي أخبره أنها سنن مستحبه ، وأي شيطان أوحى له بأنها ليست بواجبة ؟.

كل هذه الأسئلة ، في عقيدة الطائفين بالات والعزى ، لا يُسأل عنها النووي ، لأن النووي لا يُسأل عما يفعل ، ومن حقه أن يقول محمد بن عبد الله r :  

(( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ.)).

فيقول النووي : هذه سنن مستحبة ليست بواجبة .

ماذا لو أوحى كل شيطانٍ إلى قرينه ، أن يقول وراء كل أمرٍ للنبي r : هذه سنةٌ مستحبةٌ ، وليست بواجبة ؟!.

هنا ، سيتحول الإسلام إلى الفقه على المذاهب الأربعة ، والطرق الصوفية ، وقلوب العارفين لها عيونٌ ، ويصبح كل تافهٍ فقيهًا في دين السنن المستحبة.

– عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ :

(( كُنَّا نُخْرِجُ ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ r زَكَاةَ الْفِطْرِ ، عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ.)).

 فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ حَاجًّا ، أَوْ مُعْتَمِرًا ، فَكَلَّمَ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ : إِنِّي أُرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ ، تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ.

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَأَمَّا أَنَا ، فَلاَ أَزَالُ أُخْرِجُهُ ، كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ ، أَبَداً مَا عِشْتُ.

أخرجه مالك ، والحميدي ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان. 

في هذا الحديث ذكر أبو سعيد ما كان في عهد النبي r ، بشأن زكاة الفطر ، ثم ذكر ما كان في عهد معاوية ، ورأي معاوية ، من أن مُدين من سمراء الشام ، وهي القمح ، تساوي صاعًا من تمر ، وأخذ الناس بذلك .

ورفض أبو سعيد الخدري ، رَضِيَ الله عنهُ ، ذلك ، جملةً وتفصيلاً ، وهو صاحب النبي r ، ليقول كلمة طيبةً ، من أرضٍ طيبة :

(( فَأَمَّا أَنَا ، فَلاَ أَزَالُ أُخْرِجُهُ ، كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ ، أَبَداً مَا عِشْتُ.))

ومعاوية في هذا الوقت ، كان أميرًا للمؤمنين ، وله حق السمع والطاعة ، على جميع المسلمين ، ولكن أي سمعٍ ، وأي طاعة ؟.

– عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، رَضِيَ الله عَنهُمَا ، عَنِ النَّبِيِّ r ، قَالَ :

(( السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ ، عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ ، فِيمَا أَحَبَّ ، أَوْ كَرِهَ ، إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ.))

أخرجه أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي. 

وهذا الذي قام به معاوية ، لو عرضناه على أتباع السلف والخلف ، وعَبَدَةِ الطواغيت ، وأصحاب العمائم ، بكل ألوانها ، لأَفْتَوْكَ بأن معاوية أدخل تعديلاً ، كان لا بد منه ، لأن دين الله يحتاج إلى تجديدٍ مستمر ، حتى يُساير تقدم الإنسانية.

أما أبو سعيد الخدري ، الذي تربى أمام محمد r ، وأخذ الدين من فمه الشريف ، ولامس صوتُ النبي r أوتار أذنيه ، كان يؤمن أن دين الله قد اكتمل ، وأن نعمة الله قد تمت ، وأن أي تبديل ، أو تغييرٍ ، أو زيادة ، أو نقصان ، كل ذلك عبثٌ من عمل الشيطان.

وقرر الصحابي الكريم ، أن يخرج زكاة الفطر كما كان يخرجها في عهد النبي r ، وإن خالف في ذلك أميرَ المؤمنين ، لأن أمير المؤمنين رجل يصيب إن اتبع محمدًا ، ويخطئ إن خالفه ، وتجب هنا ، فرضًا ، مخالفته.

– عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ ، قَالَ : كُنْتُ بِالشَّامِ ، فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ ، فَجَاءَ أَبُو الأَشْعَثِ ، قَالَ : قَالُوا : أَبُو الأَشْعَثِ . أَبُو الأَشْعَثِ ، فَجَلَسَ ، فَقُلْتُ لَهُ : حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : نَعَمْ ، غَزَوْنَا غَزَاةً ، وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ ، فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً ، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً أَنْ يَبِيعَهَا فِي أَعْطِيَاتِ النَّاسِ ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ، فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ، فَقَامَ ، فَقَالَ : 

(( إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، عَيْناً بِعَيْنٍ ، فَمَنْ زَادَ ، أَوِ ازْدَادَ ، فَقَدْ أَرْبَى.)).

فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ ، فَقَامَ خَطِيبًا ، فَقَالَ : أَلاَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r أَحَادِيثَ ، قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ ، وَنَصْحَبُهُ ، فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ ؟! فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ، ثُمَّ قَالَ : لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r ، وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ ، أَوْ قَالَ : وَإِنْ رَغِمَ ، مَا أُبَالِى أَنْ لاَ أَصْحَبَهُ ، فِي جُنْدِهِ ، لَيْلَةً سَوْدَاءَ.

أخرجه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي.

يا عبادة ، يا ابن الصامت ، تقول لأمير المؤمنين : (( وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ ، أَوْ قَالَ : وَإِنْ رَغِمَ.))

ونحن في أيامنا تلك ، لا نستطيع أن نقولها لصعلوكٍ ضالٍ ، رأسٍ في فتنة ، سماه حثالةُ الناسِ : إمامَ مذهب. 

تقول يا عبادة : (( لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ r .)).

ونحن إذا قلنا لهم : اتبعوا محمدًا r ، 

﴿ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾. [الأعراف : 3].

قالوا لنا : لا بد من فهم السلف ، وخلافِ المذاهب ، والأَمةِ الأربعة والأربعين.

حتى وإن كان المخالف أميرًا للمؤمنين ؛

– عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ؛

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الأَضْحَى ، وَيَوْمَ الْفِطْرِ ، فَيَبْدَأُ بِالصَّلاَةِ ، فَإِذَا صَلَّى صَلاَتَهُ ، وَسَلَّمَ ، قَامَ فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي مُصَلاَّهُمْ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِبَعْثٍ ذَكَرَهُ لِلنَّاسِ ، أَوْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِهَا ، وَكَانَ يَقُولُ : تَصَدَّقُوا . تَصَدَّقُوا . تَصَدَّقُوا ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَنْ يَتَصَدَّقُ النِّسَاءُ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ.)).

فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ، حَتَّى كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ ، فَخَرَجْتُ مُخَاصِرًا مَرْوَانَ ، حَتَّى أَتَيْنَا الْمُصَلَّى ، فَإِذَا كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ قَدْ بَنَى مِنْبَرًا مِنْ طِينٍ وَلَبِنٍ ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُنَازِعُنِي يَدَهُ ، كَأَنَّهُ يَجُرُّنِي نَحْوَ الْمِنْبَرِ ، وَأَنَا أَجُرُّهُ نَحْوَ الصَّلاَةِ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْهُ ، قُلْتُ : أَيْنَ الاِبْتِدَاءُ بِالصَّلاَةِ ؟ فَقَالَ : لاَ يَا أَبَا سَعِيدٍ ، قَدْ تُرِكَ مَا تَعْلَمُ ، قُلْتُ : كَلاَّ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ ، ثَلاَثَ مِرَارٍ ، ثُمَّ انْصَرَفَ.

أخبرنا أبو سعيد أولا ، بالنور الذي كان في عهده r ، ثم جاء مروان بن الحكم أميرًا على المدينة ، وذلك تحت جنح الظلم والظلام ، وذلك بعد أن غابت شمسٌ كانت مشرفةً هنا يومًا ، وعندما يغيب النور تنتشر الشياطين واللصوص ، ويبدأ عمل الذين يقطعون الطريق ، وينتشر في ناديهم المنكر ، ويلبسون الحق بالباطل.

– في عهد محمد r ، كان يبدأ صلاة العيدين بالصلاة قبل الخطبة.

– وفي عهد مروان ، بدَّل الأمر وغير ، فجعل الخطبة قبل الصلاة.

– في عهد محمد r ، كان يخطب العيدين قائمًا على الأرض.  

– وفي عهد مروان ، بدَّل الأمر وغير ، واتخذ منبرًا

يقول أبو سعيد لمروان : أين الابتداء بالصلاة ، أي : أين محمد r؟

يرد عليه مروان بكلمةٍ أقبح من وجهه ، لو نزلت هذه الكلمة في ماء المحيط لصار نجسًا.

كلمةٌ خبيثة ، لا تصدر إلا عن خبيث : فَقَالَ : لاَ يَا أَبَا سَعِيدٍ ، قَدْ تُرِكَ مَا تَعْلَمُ.

ويردُّ أبو سعيدٍ على أمير الخُبث والخبائث : كَلاَّ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ ، ثَلاَثَ مِرَارٍ ، ثُمَّ انْصَرَفَ.

تركه وجريمته ، ترك الصلاة معه ، وأي صلاة تصلح وراء المفسدين في الأرض؟!!.

قال الذهبي : مروان بن الحكم ، له أعمال موبقة ، نسأل الله السلامة ، رمى طلحةَ بسهمٍ ، وفعل ، وفعل. ((الميزان)) 8428.

أولئك أصحاب رسول الله r ، والذي من الله على نبيه r بهم ، كما من عليهم به ؛

﴿ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾. [الأنفال : 62 و63].

ولو عرض هذا الأمر على النووي ، أو غيره ، من المنتفعين بالفرقة والخلاف ، لرأيت أن مخالفة النبي r من الأمور التي لاتقدح في صحة الصلاة.

قام النووي بتحريف هذا الحديث عن مواضعه ، على الشكل التالي :

قال النووي : قوله : (( أن رسول الله r كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر ، فيبدأ بالصلاة)) هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى ، وأنه أفضل من فِعلها في المسجد ، وعلى هذا عمل الناس في معظم الأمصار ، وأما أهل مكة فلا يصلونها إلاَّ في المسجد ، من الزمن الأول ، ولأصحابنا وجهان : أحدهما الصحراء أفضل لهذا الحديث ، والثاني ، وهو الأصح عند أكثرهم : المسجد أفضل ، إلا أن يضيق.

ثم قال النووي : قوله (( فإذا مروان ينازعني يده ، كأنه يجرني نحو المنبر ، وأنا أجره نحو الصلاة ) اتفق أصحابنا على أنه لو قدمها على الصلاة صحت ، ولكنه يكون تاركًا للسنة ، مفوتا للفضيلة ، بخلاف خطبة الجمعة ، فإنه يشترط لصحة صلاة الجمعة تقدم خطبتها عليها ، لأن خطبة الجمعة واجبةٌ ، وخطبةَ العيد مندوبةٌ. ((شرح النووي)) 6/177 و178.

وهكذا ، إذا كان مروان بدَّل شيئًا ، فقد بدل النووي كلُّ شيءٍ ، بل جعل رأي الشافعية ، وهو منهم ، أفضل من فعل النبي r ، بقوله : ولأصحابنا وجهان : أحدهما الصحراء أفضل لهذا الحديث ، والثاني ، وهو الأصح عند أكثرهم : المسجد أفضل ، إلا أن يضيق.

بل جعل النووي انصراف أبي سعيد ، أنه انصرف إلى الصلاة ، وبذلك جعله النووي يصلي مع مروان. راجع شرحه.

هل سأل أحدٌ النوويَّ : من أين جاء بهذا التقسيم الفاسد ، في قوله : لأن خطبة الجمعة واجبةٌ ، وخطبةَ العيد مندوبةٌ ؟!.

لو أن النووي وأمثاله من الداعين إلى تفرق الأُمة ، استعاذوا بالله سبحانه ، من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنة والناس ، ماخرج منهم متل هذه الوساوس.

وفرعون لم يقل أنا ربكم الأعلى ، إلا بعد أن استخف قومه ، ووجد أمامه شيئًا يشبه البشر ، نوعًا غريبًا من الخلق ، صَوَّرَهُ الله بقوله :

﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾. [الأعراف : 179].

وهؤلاء هم الذين تحدث إليهم الذين تفرقوا واختلفوا ، فكل من هَبَّ ودَبَّ ، وكل جاهل وغافل ، يتحول فجأة في وسط هؤلاء البله إلى إمام مذهب ، وصاحب نظريات ، ويقول : هذا مستحب ، فيقول الإمام الآخر الذي على شاكلته : خطبة الجمعة واجبةٌ ، وخطبةُ العيد مندوبةٌ ، فيرد الثالث : بل خطبة العيد واجبة ، وخطبة الجمعة فرضٌ ، وهكذا يقول من شاء ، ما شاء ، فلن يسأل أحدٌ من البكم ، الذين صدقوا فرعون من قبل ، عن شيءٍ.

ليقول ربُّ العالمين : ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾. [الفرقان : 44]. 

* * *

الباب الخامس

الذين قالوا : سمعنا وعصينا

قال الله تعالى : ﴿لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ الله الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾. [النور : 63].

فهل اتبعنا أمره ، ولم نتفرق ولم نختلف ، بعد أن جاءنا بالبينات والهدى ؟.

وهل سألنا عنه في عباداتنا من صلاة ، وزكاة ، وحج ، وصيام ، وأشربة ، وأطعمة ، ومعاملات ، وجميعِ أبواب العلم ؟.

ماذا جرى ؟.

نسوق الآن أمثلةً ، لمجموعةٍ من السنن الثابتة ، عن النبيِّ r ، والتي رَدَّها من ردها برأيه ، سمعًا ومعصيةً.

ونفتح أولاً ((مصنف ابن أبي شيبة)) ، المجلد الرابع عشر ، كتاب الرد على أبي حنيفة.

والحمد لله ، أن الذي روى ذلك ، وذكره ، هو واحدٌ من أكبر علماء الحديث في هذه الأُمة ، وهو شيخ أحمد بن حنبل ، في المسند ، وشيخُ البخاريِّ ، ومسلم ، في الصحيحين ، إنه عبد الله بن محمد ، أبو بكر بن أبي شيبة ، صاحب ((المُصَنَّف)).

وكما فعلنا من قبل ، سنأخذ بعض النقول ، تاركين للباحث أن يستكمل القراءة ، من المصدر الذي نقلنا منه.

يقول أبو بكر بن أبي شيبة :

هذا ما خالف به أبو حنيفة الأثرَ الذي جاء عن رسول الله r :

– حدثنا ابن نمير ، حدثنا عُبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عُمر ؛

(( أَنَّ النَّبِيَّ r رَجَمَ يَهُودِيْيَنِ ، أَنَا فِيمَنْ رَجَمَهُمَا.)).

وذكر أن أبا حنيفة قال : ليس عليهما رجم.

– حدثنا ابن نُمير ، وأبو أسامة ، عن عُبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، 

(( عَنِ النَّبِيِّ r ؛ أَنَّهُ قَسَمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا.)).

وذكر أن أبا حنيفة قال : سهمٌ للفرس ، وسهمٌ لصاحبه.

– حدثنا ابن عُيينة ، عن عَمرو ، سمع جابرًا يقول :

(( دَبَّرَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ غُلاَماً لَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ ، فَبَاعَهُ النَّبِيُّ r ، فَاشْتَرَاهُ ابْنُ النَّحَّامِ ، عَبْداً قِبْطِيًّا ، مَاتَ عَامَ الأَوَّلِ فِى إِمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.)).

وذكر أن أبا حنيفة قال : لا يُباع.

قال محمد بن الحسن الشيباني : أما نحن فلا نرى أن يُبَاع المدبَّر. ((الموطأ)) بروايته (841).

– حدثنا ابن عيينة ، عن الزُّهْرِيّ ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان ؛

(( أَنَّ النَّبِيُّ r عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، خَرَجَ فِى بِضْعَ عَشْرَةَ مِئَةً مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، قَلَّدَ الْهَدْيَ ، وَأَشْعَرَ ، وَأَحْرَمَ.))

وذكر أن أبا حنيفة قال : الإشعار مثلة.

– حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، سمع جابرًا يقول : سمعتُ ابن عباس يقول : سمعت النبي r يقول :

إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ إِزَارًا ، فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ .)).

وذكر أن أبا حنيفة قال : لا يفعل ، فإن فعل فعليه دم.

– حدثنا ابن عُيينة ، عن الزُّهْرِيّ ، عن سالم ، عن أبيه ،

(( أَنَّ النَّبِيَّ r كَانَ إِذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ ، جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.))

وذكر أن أبا حنيفة قال : لا يُجزئه أن يفعل ذلك.

– حدثنا ابن عيينة ، عن الزُّهْرِيّ ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس ؛

 (( أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ r فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ ، وَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ ، فَقَالَ : اقْضِهِ عَنْهَا.))

وذكر أن أبا حنيفة قال : لا يجزئ ذلك.

– حدثنا ابن عيينة ، عن الزُّهْرِيّ ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : 

سَقَطَ النَّبِيُّ r عَنْ فَرَسٍ ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ ، فَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ ، فَصَلَّى بِنَا قَاعِداً ، وَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قِيَامًا ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ ، قَالَ : إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ . فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، وَإِنْ صَلَّى قَاعِداً فَصَلُّوا قُعُوداً أَجْمَعُونَ.)).

وذكر أن أبا حنيفة قال : لا يؤم الإمام وهو جالس.

– حدثنا ابن عيينة ، عن الزُّهْرِيّ ، عن عيسى بن طلحة ، عن عبد الله بن عمرو قال :

 (( أَتَى النَّبِيَّ r رَجُلٌ ، فَقَالَ : حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ . قَالَ : فَاذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ ، قَالَ : ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ . قَالَ : ارْمِ وَلاَ حَرَجَ.)).

وذكر أن أبا حنيفة قال : عليه دم. 

– حدثنا وكيع ، وأبو خالد الأحمر ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة ابنة المنذر ، عن أسماء ابنة أبي بكر ، قالت : 

(( نَحَرْنَا فَرَساً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r ، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ ، أَوْ أَصَبْنَا مِنْ لَحْمِهِ.)).

وذكر أن أبا حنيفة قال : لا تؤكل.

– حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود ؛

 (( أَنَّ النَّبِيَّ r سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ الْكَلاَمِ.))

وذكر أن أبا حنيفة قال : إذا تكلم فلا يسجدهما.

– حدثنا هشيم ، عن عبد العزيز ، عن أنس بن مالك ، 

(( أَنَّ النَّبِيَّ r أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَتَزَوَّجَهَا . قَالَ : فَقِيلَ لَهُ : مَا أَصْدَقَهَا ؟ قَالَ : أَصْدَقَهَا نَفْسَهَا ، جَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.)).

وذكر أن أبا حنيفة قال : لا يجوز إلا بمهر.

– حدثنا ابن عُيينة عن الزُّهْرِيّ ، عن حميد بن عبد الرحمان ، عن أبي هريرة ، قال :

(( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r ، فَقَالَ : هَلَكْتُ . قَالَ : وَمَا أَهْلَكَكَ ؟ قَالَ : وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ . قَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً ، قَالَ : لاَ أَجِدُ ، قَالَ : صُمْ شَهْرَيْنِ ، قَالَ : لاَ أَسْتَطِيعُ ، قَالَ : أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، قَالَ : لاَ أَجِدُ ، قَالَ : اجْلِسْ ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ ، إِذْ أُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ r : اذْهَبْ فَتَصَدَّقْ بِهِ ، قَالَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، مَا بَيْنَ لاَبَتَيِ الْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنَّا ، فَضَحِكَ ، حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ، ثُمَّ قَالَ : انْطَلِقْ فَأَطْعِمْهُ عِيَالَكَ.))

وذكر أن أبا حنيفة قال : لا يجوز أن يطعمه عياله.

– حدثنا ابن عُلية ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي r ، قال :

(( طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ ، إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ.))

وذكر أن أبا حنيفة قال : يجزئه أن يغسل مرة.

حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :

(( خَرَّ رَجُلٌ عَنْ بَعِيرِهِ ، فَوُقِصَ ، فَمَاتَ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَقَالَ النَّبِيُّ r : اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ ، وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا.))

وذكر أن أبا حنيفة قال : يغطى رأسه.

– حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزُّهْرِيّ ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : قال النبي r :

(( مَنِ اقْتَنَى كَلْباً ، إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ ، أَوْ مَاشِيَةٍ ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ.))

وذكر أن أبا حنيفة قال : لا بأس باتخاذه.

ونترك من أراد أن يُكمل فصولَ هذه الجريمة ، ليقرأ ما تبقى من كتاب ((الرد على أبي حنيفة)) ، في ((مصنف ابن أبي شيبة)). فقد ذكر أبو بكر بن أبي شيبة نحو أربع مئة حديث ، عن النبي r ، ردها أبو حنيفة جميعًا ، على الصورة التي ذكرناها ، فارجع إليها ، لتعرف أن فتنة اتباع الرأي والهوى ، أسوأ مما خطر على بال إبليس. 

– وروى الترمذي حديث عبد الله بن زيد بن عاصم ، قَالَ :

(( خَرَجَ النَّبِيُّ r إِلَى الْمُصَلَّى ، فَاسْتَسْقَى ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.)).

قال الترمذي : قال النعمان أبو حنيفة : لا تُصلَّي صلاة الاستسقاء ، ولا آمرهم بتحويل الرداء ، ولكن يدعون ، ويرجعون بجملتهم.

قال أبو عيسى الترمذي : خالف السنة.

والله ، إنك لرجلٌ طيبٌ ياترمذي ، كل هذا ، وخالف السنة ، يا أخي ؛

﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ﴾.

وننقل من تاريخ بغداد 13/403 ، وما بعدها :

قال بشر بن مفضل : قلتُ لأبي حنيفة : نافع ، عن ابن عمر ، أن النبي r قال :

(( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.)).

قال : هذا رَجَزٌ.

قلتُ : قتادة ، عن أنس ؛

(( أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ امْرَأَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ ، فَقَتَلَهَا ، فَرَضَخَ النَّبِيُّ r رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.)).  

قال : هَذَيَانٌ.

وقال سفيان بن عيينة : ما رأيتُ أجرأَ على الله من أبي حنيفة ، كان يضرب الأمثال لحديث رسولِ الله r ، فيرده ، بَلَغَهُ أني أروي ؛ أن (( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ، مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.)).

فجعل يقول : أرأيت إن كانا في سفينة ؟ أرأيت إن كانا في السجن ؟ أرأيت إن كانا في سفر ، كيف يفترقان ؟.

وقال وكيع : سأل ابنُ المبارك أبا حنيفة ، عن رفع اليدين في الركوع ، فقال أبو حنيفة : يريد أن يطير فيرفع يديه ؟ قال وكيع : وكان ابن المبارك رجلاً عاقلاً ، فقال ابن المبارك : إن كان طار في الأُولى ، فإنه يطير في الثانية ، فسكت أبو حنيفة ، ولم يقل شيئًا.

وبعد هذا كله ، نسمع من يقول : لعل هذا كله لم يقله أبو حنيفة ، وأن هؤلاء كذبوا عليه.

نقول لهم : لا بأس ، سنأخذكم الآن إلى التلميذ الثاني لأبي حنيفة ، وهو محمد بن الحسن الشيباني ، وهو من أقرب الناس إليه ، وأتباعُ أبي حنيفة ، على مدار التاريخ ، يعتبرون أن أساسَ المذهب يقومُ على أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، نعم : الأب ، والابن ، والروح القدس ، وقد روى الشيباني ((الموطأ)) عن مالك ، ولم يكتف بحديث النبي r ، بل وضع كلامَ النبي r في كِفَّةٍ ، وكلامَ أبي حنيفة في كفة ، وجعلها الراجحةَ على كفة النبي r ، ونعوذ برب الفلق ، وهنا لن يتمكن أتباعُ أبي حنيفة أن يقولوا : إن محمد بن الحسن أيضًا قد كذب على شيخه ، وشيطانه.

فلنقرأ شيئا من الشرك بالله ، مضطرين ، تاركين من أراد الحقيقة أن يواصل البحث ، وسنقرأ من الموطأ ، برواية محمد بن الحسن الشيباني :

– الحديث رقم (5) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، أخبرنا عَمرو بنُ يَحْيى بنِ عُمَارة بنِ أبي حَسَنٍ المازِنيُّ ، عن أبيه يحيى أنَّه سَمِعَ جدَّهُ أبا حَسَن يَسألُ عبدَ اللَّهِ بنَ زَيْد بن عَاصِمٍ وكان من أصحابِ رسولِ اللَّه r قال: هل تستطيعُ أن تُرِيَني كيف كان رسول اللَّه r يَتَوَضَّأُ قال عبدُ اللَّه بنُ زَيْدٍ: نَعْمَ ، 

(( فدعا بِوَضُوْءٍ فَأَفْرَغَ على يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْن ، ثُمَّ مَضْمَضَ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَاً، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْن مَرَّتَيْن ، ثُمَّ مَسَحَ مِنْ مُقَدَّمِ رأسِهِ حتى ذَهَبَ بهما إلى قَفَاه ، ثُمَّ رَدّهُما إلى المكانِ الَّذِي منه بَدَأَ، ثمّ غَسَلَ رِجْلَيْه.)).

قال محمد بن الحسن : هَذَا حَسَنٌ ، والوُضوءُ ثَلاثاً ثلاثاً أفْضَلُ ، والاثنان يُجْزِيان ، والواحدةُ إذا أَسْبَغَتْ تُجزئ أيضاً ، وهو قول أبي حنيفة.

وأقول : ياليت أُمك لم تلدك ، مَنْ أنت ؟ ومن إمامك ؟ وما الدنيا ومَنْ عليها ؟ حتى يقول قائل وراء فعلٍ لمُحَمَّدٍ النبيِّ الأُمِّي r : هذا حسن ، والأفضل كذا ، ويُجزئ كذا.

تقول : هذا حسن ؟! قَبَّحَك الله ، وقَبَّح إمامك.

أنت الذي تُقَيِّمُ كلامَ محمد r ، والذي قيمه الله تعالى من فوق سبع سماوات ، في أعظم كتاب نزل من السماء إلى الأرض ، بقوله :

﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ﴾. [النجم 1:5].

والمسلم ، وليس المشرك ، عندما يقرأ كلام النبي r ، أو يقرأ عن فعله ، لا يقول : هذا حسن ، ولا هذا جيد ، بل هي سنة واحدة :

﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ . [النور: 51].

– الحديث رقم (9) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، أخبرنا أبو الزِّناد، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أنَّ رسول الله r قال : 

((إذا استيقظ أَحَدُكُم من نومِهِ فَلْيَغْسِل يَدَه قبل أن يُدْخِلَها في وَضُوئِهِ ، فإنَّ أَحَدَكم لا يَدري أين باتت يَدُه.)).

قال محمد: هذا حَسَن ، وهكذا ينبغي أن يُفعَلَ ، وليس من الأمر الواجب ، الذي إنْ تركه تاركٌ أَثِم ، وهو قول أبي حنيفة.

هل قرأت فعل الأمر في كلام النبي r : ((فَلْيَغْسِل))  ، الذي ياتي بعده نَكِرَةٌ ، ليجعل الأمرَ ليس بواجبٍ ، تبعًا لشيطانه !!.

– الحديث رقم (40) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، حدثنا الزُّهْرِيّ ، عن عُبيد الله بن عبد الله ، عن أمِّ قيس بنتِ مِحْصَن ؛

(( أَنَّهَا جَاءَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَوَضَعَهُ النَّبِيُّ r فِي حِجْرِهِ ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ ، فَنَضَحَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.)).

قال محمد بن الحسن : قد جاءت رخصةٌ في بول الغلام ، إذا كان لم يأكل الطعام ، وأمر بغَسْلِ بول الجارية  ، وغَسْلُهما جميعاً أحبُّ إلينا ، وهو قول أبي حنيفة .

رأيتَ في الحديث أن النبي r لم يغسله.

ورأيت في وكر الشياطين أن الغسل أحب إليهم. 

– الحديث رقم (55) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، أخبرنا عبدُ الله بنُ دينار ، عن ابن عُمَرَ ؛

(( أَنَّ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ذكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ r أَنَّهُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ مِنَ اللَّيْلِ ، قَالَ : تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ، وَنَمْ.)).

قال محمد بن الحسن : وإن لم يتوضَّأ ، ولم يغسِل ذكره ، حتى ينام ، فلا بأس بذلك أيضاً.

هل سمعتَ ؟ هل رأيتَ مافرخ الشيطان ؟!.

محمد بن عبد الله r يقول : ((… تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ ، وَنَمْ.)).

وفَرْخ الشيطان ، محمد بن الحسن الشيباني يقول : وإن لم يتوضَّأ ، ولم يغسِل ذكره ، حتى ينام ، فلا بأس.

– الحديث رقم (58) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، حدثنا صفوان بن سُلَيم ، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أنَّ رسول الله r قال: 

((غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ.)).

قال محمد بن الحسن : الغُسْلُ أفضلُ يومَ الجمعة ، وليس بواجبٍ .

هل مازلت تقرأ معي ؟ وهل مازال عندك صبرٌ لأن تخوض في هذا الوحل ؟!.

النبي r يقول : واجبٌ.

وهذا الأبتر ، تلميذ الشيطان ، بل إنهم أساتذة الشياطين ، يقول : ليس بواجب.

إن بني إسرائيل لم يفعلوا كل ذلك.

– الحديث رقم (99) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، حدثنا الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، أن عبد الله بن عمر قال :

(( كَانَ رَسُولُ الله r إِذَا افْتَتَحَ الصَّلاَةَ ، رَفعَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ رَفعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ رَفعَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ، ثُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ.))

أخرجه أحمد ، والدارمي ، والبخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجة ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حِبَّان.

قال محمد بن الحسن : السنَّة أن يكبِّر الرجل في صلاته كلما خفض ، وكلما رفع ، وإذا انحطّ للسجود كبَّر، وإذا انحطّ للسجود الثاني كبَّر ، فأما رفع اليدين في الصلاة ، فإنه يرفع اليدين حذو الأذنين في ابتداء الصلاة مرَّةً واحدة ، ثم لا يرفع في شيْء من الصلاة بعد ذلك، وهذا كله قول أبي حنيفة. انتهى هذا القيء.

وقول أبي حنيفة عند هؤلاء مقدم على قول ، وفعل ، رسولِ الله r .

هل يمكنك أن تُقنع أحدًا على مذهب أبي حنيفة برفع يديه في هذه المواطن ، التي رفع فيها النبي r يديه ؟!.

قد يحدث ، ويستجيب لك ، ولكن إذا قَبِلَ ابن نوحٍ أن يركب الفلك مع أبيه !!.

– الحديث رقم (136) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، أخبرني الزُّهْرِيّ ، عن سعيد بن المسيّب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمان ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله r قال: 

إذا أمَّن الإمام فَأمَنِّنوا ، فإنه من وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، قال : فقال ابن شهاب : كان النبي r يقول: آمين.

قال محمد بن الحسن : وبهذا نأخذ ، ينبغي إذا فرغ الإمام من أُم الكتاب أن يؤمّن الإمام ، ويؤمّن مَنْ خلفه ، ولا يجهرون بذلك ، فأما أبو حنيفة ، فقال : يؤمّن مَنْ خلف الإمام ، ولا يؤمن الإمام.

– الحديث رقم (158) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، حدثنا الزُّهْرِيّ ، عن أنس بن مالك ؛ 

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r رَكِبَ فَرَسًا ، فَصُرِعَ عَنْهُ ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ ، فَصَلَّى صَلاَةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهْوَ جَالِسٌ ، فَصَلَّيْنَا جُلُوسًا ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ « إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، إِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَإِنْ صَلَّى قَاعِداً فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ.)).

قال محمد بن الحسن : ما روي من قوله : إذا صلى الإمامُ جالسًا ، فصلوا جلوسًا أجمعين ، فقد روي ذلك ، وقد جاء ما قد نسخه.

إلى هنا والضلال لم يتغير ، ولكي نقف على مدى هذا الشرك ، نقرأ ما ذكره محمد بن الحسن ، عقب هذا الكلام ، مبينا سبب النسخ :

قال محمد بن الحسن : حدثنا بشر ، حدثنا أحمد ، أخبرنا إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي ، عن جابر بن يزيد الجُعْفي ، عن عامر الشَّعبي ، قال : قال رسول الله r

(( لا يؤُمَّنَّ الناسَ أحدٌ بعدي جالسًا.)).

فأخذ الناسُ بهذا.

هذا هو دين أبي حنيفة ، وأتباعه ، بل دين كل الذين اتخذوا من دون الله أندادًا.

الحديث الأصل ، إسناده : مالك ، حدثنا الزُّهْرِيّ ، عن أنس بن مالك ، عن النبي r.

إسناد صحيح ، ثابت ، متصلٌ ، بين مالك ، وبين النبي r فيه رجلان.

يأتي هذا المشرك الجاهل ، لينسخه بما يلي :

1- برواية عامر الشعبي ، عن النبي r ، والشعبي من وسط التابعين ، لم يدرك أبابكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي ، فكيف يروي عن النبي r ؟!.

2- رواه عن الشعبي : جابر بن يزيد الجُعفي ، كذاب يضع الحديث ، ولأن الأمر صار كله عجبًا ، فقد قال أبو حنيفة بنفسه : ما لقيت فيمن لقيت أكذب من جابرٍ الجُعفي ، ما أتيتُه بشيء من رأيي ، إلا جاءني فيه بأثر. راجع ((تهذيب الكمال)) (879).

هذا مارَدَّ به أصحابُ الأهواء سُنَّةَ مُحَمَّدٍ r .

ونقرأ الآن في ناحية أخرى ، ناحية الإسلام ، والتقوى ، ناحيةِ الذين آمنوا به ، وعَزَّرُوهُ ونصروه ، واتَّبَعُوا النورَ الذي أُنْزل معه.

ماذا يحدث لو أن واحدًا من أهل الحديث قرأ هذا الحديث ، ماذا يقول وراءه ؟.

افتح معي ((صحيح ابن حِبَّان)) ، وهذا الحديث في ورد فيه برقم (2108) ، وقال ابن حِبَّان ، بعده :     

في هذا الخبر بيانٌ واضحٌ ، أن صلاةَ المأمومين قعودًا ، إذا صلى إمامُهم قاعدًا ، من طاعة الله جَلَّ وعلا ، التي أمر عبادَهُ ، وأول من أبطل في هذه الأُمة صلاةَ المأموم قاعدًا ، إذا صلى إِمامُهُ جالسًا : المغيرة بن مِقسم ، صاحب النخعي ، وأخذ عنه حمادُ بن أبي سليمان ، ثم أخذ عن حمادٍ أبو حنيفة ، وتبعه عليه من بعده من أصحابه ، وأعلى شيءٍ احتجوا به فيه ، شيءٌ رواه جابرٌ الجُعْفي ، عن الشعبي ، قال : قال رسول الله r

(( لا يؤُمَّنَّ أحدٌ بعدي جالسًا.)).

وهذا لو صح إسناده ، لكان مرسلاً ، والمرسل من الخبر ، وما لم يُرْو ، سيان في الحكم عندنا ، لأنا لو قبلنا إرسالَ تابعيٍّ ، وإن كان ثقةً ، فاضلاً ، على حسن الظن ، لَزَمَنَا قبولَ مثله عن أتباع التابعين ، ومتى قبلنا ذلك ، لَزَمَنَا قبولَ مثله عن تَبَعِ الأَتْبَاع ، ومتى قبلنا ذلك ، لَزَمَنَا قبول مثل ذلك عن تُبَّاعِ التَّبَعِ ، ومتى قبلنا ذلك ، لَزَمَنَا أن نقبل من كل إنسانٍ إذا قال : قال رسولُ الله r ، وفي هذا نقضٌ الشريعة.

والعجب ممن يحتج بمثل هذا المرسل ، وقد قدح في روايته زعيمُهم ، 

فيما أخبرنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان ، بالرقة ، قال : حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعتُ أبا يحيى الحِماني ، قال : سمعتُ أبا حنيفة يقول : ما رأيتُ ، فِيمن لقيتُ ، أفضل من عطاء ، ولا لقيتُ ، فيمن لقيتُ ، أكذبَ من جابرٍ الجُعْفي ، ما أتيتُه بشيءٍ قطُّ من رأيٍ ، إلا جاءني فيه بحديث ، وزعم أن عنده كذا وكذا ألف حديث ، عن رسول الله r ، لم ينطق بها ، فهذا أبو حنيفة ، يُجرح جابرًا الجعفي ، ويكذبه ، ضد قول من انتحل من أصحابه مذهبه ، وزعم أن قول أئمتنا في كتبهم : فلانٌ ضعيفٌ ، غيبةٌ ، ثم لما اضطره الأمر ، جعل يحتج بمن كَذَّبَهُ شيخُه ، في شيءٍ يدفع به سنةً ، من سُنن رسول الله r. انتهى كلام ابن حِبَّان.

– الحديث رقم (165) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، أخبرنا نافع، عن ابن عُمر؛

(( أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ r كَيْفَ الصَّلاَةُ بِاللَّيْلِ ؟ قَالَ : مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ أَنْ يُصْبِحَ فَلْيُصَلِّ رَكْعةً واحدةً ، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى.))

قال محمد بن الحسن : صلاةُ الليلِ عندنا مثنى مثنى.

وقال أبو حنيفة : صلاة الليلِ إنْ شئتَ صلَّيتَ ركعتين ، وإن شئتَ صلَّيتَ أربعًا ، وإن شئتَ ستًّا، وإن شئتَ ثمانياً ، وإن شئتَ ما شئتَ بتكبيرة واحدة ، وأفضل ذلك أربعًا أربعًا.

وأما الوتر ، فقولنا وقول أبي حنيفة فيه واحد ، والوتر ثلاث ، لا يُفصل بينهنَّ بتسليم.

النبي r ، الذي أرسله الله رحمة للعالمين ، يقول لك : ((مَثْنَى مَثْنَى.))

وتأتيك حمالة الحطب لتقول لك : إنْ شئتَ ركعتين ، وإن شئتَ أربعًا ، وإن شئتَ ستًّا، وإن شئتَ ثمانيًا ، وكله بمشيأتك أنت ، ولماذا تفكر ؛ يا أخي ، وإن شئتَ بتكبيرة واحدة.

بل هناك أمر آخر عند مذهب الدعارة ، والفجور ، وهو : وأفضل ذلك أربعًا أربعًا.

مادام محمد بن عبد الله r قال : ((مَثْنَى مَثْنَى.)) ، فلابد لعبدة العجل ، وأتباع الخنزير ، أن يخالفوا مُحَمَّدًا r ، بل ويجعلون كلامهم أفضل من كلامه.

لأن العلاقة بينه r ، وبينهم ، هي نفس العلاقة بين لوطٍ ، وقومه ، دعاهم إلى الطهارة ، فأبوا إلا النجاسة.

ويقول النبي r : (( فَلْيُصَلِّ رَكْعةً واحدةً ، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى.))

ويقول هذا العُتل الزَّنيم : وأما الوتر ، فقولنا وقول أبي حنيفة فيه واحد ، والوتر ثلاث ، لا يُفصل بينهنَّ بتسليم.

– الحديث رقم (187) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، أخبرنا نافع ، عن ابن عمر،

 (( أَنَّهُ نَادَى بِالصَّلاَةِ ، فِي سَفَرٍ ، فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ ، يَقُولُ : أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ.)).

قال محمد بن الحسن : هذا حسن ، وهذا رخصة ، والصلاة في الجماعة أفضل.

لم يقل لنا ، ونحن لا نريد قوله ، أفضل من ماذا ؟ أفضل مما دعا إليه النبي r ؟!

– الحديث رقم (202) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، أخبرنا نافع ، عن ابن عمر؛

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ إِذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.)).

قال محمد بن الحسن في آخر الباب : لسنا نأخذ بهذا ، لا نجمع بين الصلاتين في وقتٍ واحدٍ ، إلاَّ الظهر والعصر بعرَفَةَ ، والمغرب والعشاء بمُزدلفة ، وهو قول أبي حنيفة.

وهنا ، من حق أبي حنيفة ، ومن لَفَّ لَفَّهُ ، أن لا يأخذوا بهذا ، لأن هذا يأخذ به فقط من قال الله لهم :

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.

– الحديث رقم (207) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، أخبرني أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمان بن عبد الله بن عمر ، أن سعيد بن يسار أخبره ،

(( أَنَّهُ كَانَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، رَضِيَ الله عَنْهُمَا ، فِي سَفَرٍ ، فَكُنْتُ أَسِيرُ مَعَهُ ، وَأَتَحَدَّثُ مَعَهُ ، حَتَّى إِذَا خَشِيتُ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ ، تَخَلَّفْتُ ، فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ ، ثُمَّ رَكِبْتُ فَلَحِقْتُهُ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَيْنَ كُنْتَ ؟ فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ ، وَخَشِيتُ أَنْ أُصْبِحَ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ r أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ؟ فَقُلْتُ : بَلَى وَاللَّهِ ، قَالَ : فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ.)).

قال محمد بن الحسن : لابأس أن يصلِّي المسافر على دابته تطوعًا إيماءً ، حيث كان وجهه ، يجعل السجود أخفض من الركوع ، فأما الوتر والمكتوبة فإنهما تصلَّيان على الأرض.

– الحديث رقم (272) قال محمد بن الحسن : أخبرنا مالك ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمان بن أبي سعيد الخُدْري، عن أبيه أن رسول الله r قال : 

(( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي ، فَلاَ يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ.))

قال محمد بن الحسن : يُكره أنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ بين يدي المصلي، فإن أراد أن يمرَّ بين يديه فليدارأ ما استطاع ، ولا يقاتله ، فإنْ قاتَلَهُ كان ما يدخل عليه في صلاته من قتاله إياه أشدَّ عليه من ممرِّ هذا بين يديه ، ولا نعلم أحدًا روى قتاله إلاَّ ما رُوي عن أبي سعيد الخدري ، وليست العامَّة عليها ، ولكنها على ما وَصفتُ لك ، وهو قول أبي حنيفة.

هنا ، لا بد من التوقف ، فأنت أمام جريمة قامت على أساس يهوديٍّ ، هو : وقالوا : سمعنا وعصينا.

وأترك للمسلم الصادق أن يقرأ باقي كلام هذا الجربوع ، الذي صَدَق يحيى بن معين إذ رماه بالكذب ، وقال أحمد بن حنبل : ليس بشيء ، افتح أنت أي صفحة من صفحات ((الموطأ)) برواية محمد بن الحسن الشيباني.

والذي يواصل القراءة ، في هذه الرواية للموطأ ، سيعلم علم اليقين ، أن علماء الحديث عندما ذكروا مخالفة أبي حنيفة لدين الله ، وسُنَّة نبيه ، كانوا هم الأمناء.

افتح معي ((صحيح ابن حِبَّان)) (3780 و3781) ، 

قال ابن حِبَّان : أخبرنا الحسن بن سفيان الشيباني ، وأحمد بن علي بن المثنى ، قالا : حدثنا إبراهيم بن الحجاج السامي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : جلستُ إلى أبي حنيفة ، بمكة ، فجاءه رجلٌ ، فقال : إني لبستُ خُفين ، وأنا محرمٌ ، أو قال : لبستُ سراويلَ ، وأنا محرمٌ ، شك إبراهيم ، فقال له أبو حنيفة : عليك دَمٌ.

قال حماد بن زيد : فقلتُ للرجل : وجدتَ نعلين ، أَو وجدتَ إزارًا ؟ فقال : لا ، فقلت : يا أبا حنيفة ، إن هذا يزعم أنه لم يجد ؟ فقال : سواءٌ وجد أو لم يجد.

قال حماد بن زيد : فقلتُ حدثنا عَمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، قال : سمعتُ رسولَ اللهِ r يقول :

((السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ.)).

وحدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله r قال :

(( السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ ، وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ.))

قال : فقال بيده ، وأشار إبراهيم بن الحجاج ، كأنه لم يعبأ بالحديث ، فقمتُ من عنده.

وحتى العلماء الثقات الأفاضل ، والذين هم ليسوا على شاكلة أبي حنيفة ، بل هم ثقات ، مشهود لهم بالعدالة والصدق ، ليس مطلوبًا منا أن نُقلدهم ، أو أن نتبع آراءهم .

بل إذا رَوَوا الحديث عن النبي r ، أخذنا بالحديث ، وشكرنا لهم أمانةَ نقله.

أما إذا ذكر الواحد منهم رأيًا مخالفا ، مهما بلغت درجته ، فرأيه مردودٌ عليه.

الرأي كله سواء ، والتقليد كله عَمَى ، ولا فرق بين من قلد أبا حنيفة في رأيٍّ ، أو قلد مالكا ، أو الشافعي.  

– مثلا : في كتاب ((الأم)) 1/26.

قال الشافعي ، أخبرنا مالك ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، أنه قال : قلت لعبد الله بن زيد الأنصاري : 

(( هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَتَوَضَّأُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ : نَعَمْ ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلاَثاً ثَلاَثاً ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ ، وَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلِى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ.)).

قال الشافعي : وأُحب لو مسح رأسه ثلاثًا ، وواحدة تُجزئه ، ويأخذ بإصبعيه الماء لأُذنيه. 

نقول هنا : لقد أحببنا مافعله النبيُّ r ، وكفانا ، وكَرِهنا ما أحبه غيرُة ، بل أَذكم نَتْنُهُ أُنُوفَنا ، وما قاله الشافعي خطأ ، ما كان ليقع منه ، ولو وقع لرُدَّ عليه.

والغريب ، أن الصم والبكم والعمي ، الذين انقادوا وراء كل ناعقٍ ، يقولون لك : من أين أتى الشافعي ، أو أبو حنيفة ، بذلك ؟.

مع أن هذا السؤال موجه له هم ، وهم المطالبون بالإجابة.

– في كتاب ((الأم)) 6/259 :

قال الشافعي : وقد كان من حكام الآفاق من يستحلف على المُصحف ، وذلك عندي حسنٌ. 

ولم يذكر الشافعي أي دليل صَيَّرَ هذا عنده حسنًا ، وهذا حلفٌ بغير الله .

وفي حديث عبد الله بن عمر ، عن النبي r قال : (( مَنْ كَانَ حَالِفًا ، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ.)).

وقد يقول متعصبٌ للشرك : إن القرآن كلام الله ، ويُحلف به.

ونفول له : والنبي r رسولُ الله ، والكعبة بيت الله ، فهل نحلف بهما ؟.

ثم ، والبهائم من خلق الله ، فبأيٍّ منها تحلفُ ؟!!.

والنبي r قال لأُمته : (( مَنْ كَانَ حَالِفًا ، فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ.)).

نحن لا ننسى أننا في أُمَّة محمد r ، وأُمته ليس من علاماتها أن يتخذوا علماءهم وسفهاءهم أربابًا من دون الله ، يُحلون لهم الحرام ، وُيحرمون عليهم الحلال ، ويشرعون لهم من الدين ما لم يأذن به الله عز وجل .

قال تعالى : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾. [الشورى : 21].

﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾. [التوبة : 31].

* * *

الباب السادس

التحذير من أئمة جهنم

سوف يحاول المنتفعون بفرقة هذه الأمة ، والذين تَربَّوْا على موائد الشرك ، تشويه دعوة الذين يدعون الناس إلى طاعة الله ورسوله r .

والذين اشتغلوا بالدعوة إلى الله عز وجل ، وإلى طاعة رسوله r ، عانوا كثيرًا من تحريف الناس لدعوتهم بوسائل شتى.

فإذا نَهَوُا الناسَ من المتصوفة ، مثلاً ، عن التمايل ، والقفز ، والتَّرَقُّصِ ، أثناء الذكر الشرقي ، الذي يقومون به ، أشاع هؤلاء بأن الدعاة يحرمون الذِّكْرَ.

مع أنهم في الحقيقة يحرمون الرقص ، وقلة الأدب ، بل انعدامه ، عند ذكر الله.

وإذا قالوا للناس : لا تبتدعوا في دين الله ، وإياكم والزيادة على الأذان ، من قولهم : الصلاة والسلام عليك يا نور عرش الله  ، ويا أول خلق الله ، إلى آخر هذا الكذب على الله وعلى رسوله r ، أشاع هؤلاء المبتدعة أن الدعاة يُحرمون الصلاة على النبي r.

وإذا قالوا لهم : إن الطواف بالقبور، وسؤال المدد ، والعون ، والرزق ، والأطفال من المقبورين ، شِرك بالله عز وجل وكفر ، قالوا : إن الدعاة يسبون أولياءَ الله الصالحين ، وهلم جرا.

مع أن الدعاة هنا يحررونهم من الشرك ، وبدلا من أن تأخذ ولدك ، القادم على امتحان كلية الطب ، وتذهب به إلى السيد البدوي ، ليساعده في النجاح ، ساعد ولدك على الدراسة ، واستعن بالله.

فإن السيد نفسه ، لو دخل امتحان الصف الأول ، في مدرسة ابتدائي ، لرسب.

الدعاة يقولون لك : لا تستعن بميت ، ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾. [الفرقان : 58].

وهؤلاء يُصرون على تكليف السيد البدوي ، وزملاءه ، بما لا طاقة لهم به.

وعندما يقوم مسلمٌ بدعوة قومه لاتباع النبي r ، ونبذِ الفرقة والخلاف في دين الله ، تسمع من يشيع بأن هذه الدعوة طعنٌ واتهامٌ لأئمة العلم : مالك بن أنس ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وسفيان الثوري ، وابن المبارك ، والبخاري ، رضي الله عنهم جميعًا ، وعن أهل العلم والذِّكْر ، حملةِ الحديث الشريف ، والذين بَلَّغوا ما جاء به محمدٌ r ، ونشروه ، ودافعوا عنه ، وأُوذوا بسببه ، رحمةُ الله عليهم ومغفرته.

ومصيبةُ الناس أن البحث عندهم قد مات ، والقراءةَ تركوها لغيرهم ، وَرَكَن الجميع ، إلا من رحم ربك ، إلى الموات والخمول ، فمن الذي سيبحث ، ومن الذي سيقرأ ؟!.

والغريب أنهم حتى إذا قرؤوا ، وبحثوا ، فكأنهم يقرؤون ويبحثون لغيرهم.

فهل يعرف الناس ، أن مالكًا ، والشافعيَّ ، وأحمدَ بن حنبل ، وسفيان الثوري ، وابن المبارك ، والبخاري ، وأبا زُرعة الرازي ، وابنَ حزم ، وغيرَهم ، بل كل علماء الحديث الشريف ، كانوا دعاةً إلى طاعة الله ، وطاعة رسوله r ؟.

بل كانت حياتهم حربًا على التقليد ، واتباع الناس ، والقول في دين الله بغير علم.

وحَذَّروا من أصحاب الرأي ، أَتْبَاع الهوى ، وطعنوا في أئمة الرأي ، وأظهروا خروجهم على شرع الله.

واقرأ الآن جانبا من أقوال هؤلاء العلماء :

ـ قال الحميدي : حدثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً ، حتى ظهر فيهم المُوَلَّدُون ، أبناء سبايا الأمم ، فقالوا فيهم بالرأي ، فضلوا وأضلوا.

قال سفيان : ولم يزل أمرُ الناس معتدلاً ، حتى غَيَّرَ ذلك أبو حنيفة بالكوفة ، وعثمانُ البتي بالبصرة ، وربيعة بن أبي عبد الرحمان بالمدينة ، فنظرنا ، فوجدناهم من أبناء سبايا الأُمم. ((تاريخ بغداد)) 13/ 413.

– وقال عبد العزيز بن رُفيع : سئل عطاء عن شيءٍ ، قال : لا أدري ، قال : قيل له : ألا تقول فيها برأيك ؟ قال : إني أستحيي من الله ، أن يُدان في الأرض برأيي . ((سنن الدارمي)) (107).

وقال أبو هلال : سألتُ قتادة عن مسألةٍ ، فقال : لا أدري ، فقلت : قل فيها برأيك ، قال : ما قلت برأيٍ منذ أربعين سنة ، وكان يومئذ له نحو من خمسين سنة.

قلت : فدل على أنه ما قال في العلم شيئًا برأيه.

قال أبو عوانة : سمعت قتادة يقول : ما أفتيتُ برأيٍ منذ ثلاثين سنة. ((سير أعلام النبلاء)) 5/237.

وعن عبد الله بن المبارك ، أنه سأله رجلٌ عن مسألةٍ ، فحدثه فيها بحديث عن النبي r ، فقال الرجل : قال أبو حنيفة بخلاف هذا ، فغضب ابنُ المبارك غضبًا شديدًا ، وقال : أروي لك عن رسول الله r ، وتأتيني برأي رجل يرد الحديث ، لاحدثتكم اليوم بحديثٍ ، وقام. ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (392).

لقد كان أحمد بن حنبل ، رحمة الله عليه ، يأمر تلاميذه ، طلاب العلم ، ورواة الحديث ، إذا وقفوا على كتاب فيه أحاديث للنبي r ، ومعها آراء الفقهاء وأصحاب الرأي ، أن يقوموا بتجريد الكتاب على الحديث فقط ، وطرح ما عداه ، وهذا يدل على معرفة هذا العالِم العامل بقدر النبي r ومكانته ؛ 

قال ابن هانىء : سئل ، أحمد بن حنبل ، عن أبي حنيفة : يُرْوَى عنه ؟ قال : لا . قيل : فأبو يوسف ؟ قال : كأنه أمثلهم . ثم قال : كل من وضع الكتب فلا يُعجبني ، ويُجرد الحديث. ((مسائل ابن هانىء)) 2368 : 2369. 

وقال ابن هانىء : سمعت أبا عبد الله ، أحمد بن حنبل ، يقول : لا يُعجبني شيءٌ من وضع الكتب ، ومن وضع شيئًا من الكتب فهو مبتدع . 

سألتُ أبا عبد الله ، عن كتاب مالكٍ ، والشافعي ، أحب إليك أو كتب أبي حنيفة ، وأبي يوسف ؟ فقال : الشافعي أعجبُ إليَّ ، هذا إن كان وضع كتابًا ، فهؤلاء يُفتون بالحديث ، وهذا يُفتي بالرأي ، فكم بين هذين؟!. ((المسائل)) 1908 و 1909. 

وقال ابن هانىء : سمعتُ أبا عبد الله ، وسأله رجلٌ من أردبيل ، عن رجل يُقال له : عبد الرحمان ، وضع كتابًا . فقال أبو عبد الله : قولوا له : أحدٌ من أصحاب النبي r فعل هذا ؟ أو أحدٌ من التابعين ؟ فاغتاظ ، وشدَّدَ في أمره ، ونهى عنه . وقال : انهوا الناس عنه ، وعليكم بالحديث. ((المسائل)) 1911.

فهذا رجل من علماء هذه الأُمة ، عرف منزلةَ الرسولِ r ، فهان عنده ما عداه ، ودعا الناسَ إليه ، وحُبنا لأحمد بن حنبل ، رضي الله عنه ، لا يعني أبدًا أننا نأخذ برأيه في أمرٍ يتصل بأحكام الله ، فالرأي كله سواء. 

ويقول أحمد بن حنبل ، رحمةُ الله عليه : من دَلَّ على صاحب رأيٍّ ، فقد أعان على هدم الإسلام . كتاب بحر الدم (5) ، والمقصد الأرشد (114).

وقال أبو الحسن الميموني : سمعت أبا عبد الله ، أحمد بن حنبل ، وسُئل عن أصحاب الرأي : يُكتب عنهم الحديث ؟ فقال أبو عبد الله : قال عبد الرحمان بن مهدي : إذا وضع الرجل كتاباً من هذه الكتب ، كتب الرأي ، أرى أن لا يُكتب عنه الحديث ، ولا غيره.

قال أبو عبد الله ، : وما تصنع بالرأي ، وفي الحديث ما يغنيك عنه . بحر الدم : (612) ، وتهذيب الكمال 17/437. 

وقال إبراهيم بن هانىء ، عن أحمد بن حنبل : اترك رأي أبي حنيفة وأصحابه . بحرالدم (1071). 

وقال أبو داود ، صاحب السنن  : سمعتُ أحمدَ بن حنبلٍ يقول : لا يُعجبني رأيَ مالكٍ ، ولا رأيَ أحدٍ . ((مسائل أبي داود)) : صفحة 275 . 

وقال أبو داود: سمعت أحمد ، ذكر شيئًا من أمر أصحاب الرأي . فقال : يحتالون لنقض سُنن رسول الله r . ((المسائل)) : صفحة 276 . 

 وقال أبو داود : سمعتُ أحمدَ يقول : ليس أحدٌ إِلاَّ ويُؤخذ من رأيه وُيترك ، ما خلا النبي r . ((المسائل)) : صفحة 276 . 

وقال أبو داود : قلتُ لأحمد : الأوزاعي هو أَتْبَعُ من مالكٍ ؟ قال : لا تُقَلِّدْ دينكَ أحدًا من هؤلاء ، ما جاء عن النبي r وأصحابه فخذ به ، ثم التابعين بعدُ ، الرجل فيه مخيرٌ . ((المسائل)) : صفحة 276 .

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثني أبو الفضل ، حدثني أسود بن سالم ، قال : إذا جاء الأثر القينا رأي أبي حنيفة وأصحابه في الحش ، ثم قال لي أسود : عليك بالأثر فالزمه ،  أدركتُ أهل العلم يكرهون رأي أبي حنيفة ، ويعيبونه . السُّنة (390).

الحش ؛ هو الكنيف ، موضع قضاء الحاجة.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألتُ أبي ، عن الرجل يكون ببلدٍ ، لا يجد فيه إلا صاحب حديث ، لا يعرف صحيحه من سقميه ، وأصحاب رأي ، فتنزل به النازلة ، مَنْ يسأل ؟ فقال أبي : يسأل صاحب الحديث ، ولا يسأل صاحب الرأي ، ضعيف الحديث أقوى من رأي أبي حنيفة. ((المحلى)) 1/68. 

وقال محمد بن إدريس الشافعي ، رحمة الله عليه : فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ ، إِلاَّ وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهُدى فيها ، قال الله تبارك وتعالى : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾. [إبراهيم : 1]. 

وقال : ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. [النحل : 44].

وقال : ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾. [النحل : 89]. 

وقال : ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾. [الشورى : 52]. الرسالة : (48:52). 

وقال الشافعي : وأما أن نخالف حديثاً عن رسول الله r ثابتًا عنه ، فأرجو أن لا يُؤخذَ ذلك علينا ، إن شاء الله ، وليس ذلك لأحدٍ ، ولكن قد يجهل الرجلُ السُّنةَ فيكون له قولٌ يُخالفها ، لا أنه عَمَدَ خلافَها ، وقد يغفل المرءُ ويخطىءُ في التأويل . ((الرسالة)) (598:599) . 

 وقال الشافعي : إنه لا تُخالِفُ له (أي للنبي r) سنةٌ أبداً كتابَ الله ، وأن سُنَّته ، وإن لم يكن فيها نَصُّ كتاب ، لازمةٌ ، مما فرض الله من طاعةِ رسوله r ، ووجب عليه أن يعلمَ أن الله لم يجعل هذا لخلقٍ غيرَ رسوله r ، وأن يجعل قولَ كلِّ أحدٍ وفِعْلَهُ أبدًا تبعًا لكتابِ الله ، ثم سِنة رسوله r ، وأن يعلم أن عالمًا إن رُوي عنه قولٌ يخالف فيه شيئًا سَنَّ فيه رسولُ الله r سنةً ، لو عَلِمَ سنةَ رسولِ الله r لم يخالفها ، وانتقل عن قوله إلى سنة النبي r إن شاء الله ، وإن لم يفعل كان غيرَ مُوَسع له ، فكيف والحُجج في مثل هذا لله قائمة على خلقه ، بما افترض من طاعة النبي r ، وأبان من موضعه الذي وضعه به من وحيه ودينه وأهل دينه . الرسالة (537:541).

وقال مالك بنِ مغول : قال لي الشعبي ، عامر بن شَراحيل : ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله r فخُذْ به ، وما قالوه برأيهم فَالْقِهِ في الحش . ((سنن الدارمي)) (206).

وقال محمد بن مسلمة المديني : وقيل له : ما بال رأي أبي حنيفة دخل هذه الأمصار كلها ولم يدخل المدينةَ ؟ قال : لأن رسولَ الله r قال : ((عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ أَنْقَابِهَا مَلَكٌ يمنع الدجال من دخولها)) ، وهذا من كلام الدجالين ، فمن ثم لم يدخلها ، والله أعلم.

وقال : إسحاق بن إبراهيم الحنيني : قال مالك : ما ولد في الإسلام مولود ، أضرعلى أهل الإسلام ، من أبي حنيفة.

وكان مالك يعيب الرأي ، ويقول : قُبض رسولُ الله r ، وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن تُتبع آثار رسول الله r وأصحابه ، ولا يُتبع الرأي ، وإنه متى اتُّبع الرأي ، جاء رجلٌ آخر ، أقوى منك ، فاتبعته ، فأنت كلما جاء رجلٌ غلبك اتبعته ، أرى هذا الأمر لا يتم. تاريخ بغداد 13/415.

وقال البخاري ، يرحمه الله : باب ما كان النبي r يُسأل ، مما لم ينزل عليه الوحي ، فيقول : لا أدري ، أو لم يُجب ، حتى ينزل عليه الوحي ، ولم يَقُلْ برأيٍ ، ولا بقياسٍ ، لقوله تعالى : ﴿بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾. صحيح البخاري (6897).

وقال البخاري : إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ ، أَوِ الْحَاكِمُ ، فَأَخْطَأَ خِلاَفَ الرَّسُولِ r ، مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ ، فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ r : ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا ، فَهْوَ رَدٌّ.)). صحيح البخاري (6918).

وقال أبو بكر المروزي : كيف يكون به مؤمنًا ، من يَرُد عليه السنةَ الثابتةَ المعروفةَ ، برأيه ، أو برأي أحدٍ من الناس بعده ، تعمدًا لذلك ، أو شكًّا فيها ، أو إنكارًا لها ، حين لم توافق هواه ، ثم يزعم أنه مؤمنٌ عند الله ، مستكمل الإيمان ؟!!.

ثم قال : أو كيف يكون به مؤمنا ، من يأتيه الخبرُ الثابتُ عن رسول الله r ، أنه أمر بكذا ، أو نهى عن كذا ، فيقول : قال أبو فلان كذا ، خلافًا على رسول الله r ، وردًا لسنته ؟!!.

أم كيف يكون به مؤمنًا ، من تُعرض سنته على رأيه ، فما وافق منها قَبِلَ ، وما لم يوافقه منها احتال لردها ؟!!.

ألا ينظر الشقي على مَنِ اجترأ ، وبين يَدَيْ مَنْ تَقَدَّمَ ؟!!.

قال الله تبارك وتعالى :  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهََ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾.

وقال الله تبارك وتعالى : ﴿لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا﴾. 

فنهى الله المؤمنين أن يتقدموا بين يَدَيْ رسول الله r ، ونهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي r ، أو يجهروا له بالقول كجهر بعضِهم لبعضٍ ، إعظامًا له وإجلالاً ، وأَعْلَمَ أن ذلك يُحبط أعمالهم ، فكيف بمن جعل رسولَ الله r ، وغيره ، في دين الله وأحكامه ملتين ، ثم يؤخر حديثَ رسول الله r ، ويُقَدِّمه.

إذا حُدِّثَ عن رسول الله r بما لا يوافقه ، قال : هذا منسوخ.

فإذا حُدِّث عنه بما لا يعرف ، قال : هذا شاذ.

فمِن رسول الله r المنسوخ ، ومنه محمود.

ثم مِن رسول الله r الشاذ ، ومنه المعروف.

ومِن رسول الله r المتروك ، ومنه المأخوذ. ((تعظيم قدر الصلاة)) (711).

وقال ابن خزيمة : مُحَرَّمٌ على كل عالمٍ ، أن يخالف سنةَ النبي r ، برأي نفسه ، أو   برأي مَنْ بعد النبي r. ((صحيح ابن خزيمة)) (1054). 

وقال ابن حزم : والواجب إذا اختلف الناسُ ، أو نازع واحدٌ في مسألةٍ ما ، أن يرجع إلى القرآن ، وسنةِ رسول الله r  ، لا إلى شيءٍ غيرِهما ، ولا يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ، ولا غيرهم.

برهان ذلك ، قول الله عز وجل : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ ، فصح أنه لا يحل الرد عند التنازع إلا إلى كلام الله تعالى ، وسنة رسوله r  ، وفي هذا تحريم الرجوع إلى قول أحدٍ دون رسول الله r ، لأَن مَنْ رجع إلى قول إنسانٍ دونه ، عليه السلام ، فقد خالف أمرَ الله تعالى بالرد إليه ، وإلى رسوله r ، لا سيما مع تعليقه تعالى ذلك بقوله : ﴿إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ ، ولم يأمر الله تعالى بالرجوع إلى قول بعض المؤمنين دون جميعهم. ((المحلى)) 1/55.

وقال : ولا يحل القول بالقياس في الدين ، ولا بالرأي ، لأن أَمْرَ الله تعالى ، عند التنازع ، بالرد إلى كتابه ، وإلى رسوله r  ، قد صَحَّ ، فمن رد إلى قياسٍ ، أو إلى تعليلٍ يدعيه ، أو إلى رأي ، فقد خالف أمر الله تعالى المعلق بالإيمان ، ورد إلى غير مَنْ أمر الله تعالى بالرد إليه ، وفي هذا ما فيه.

ثم قال : وقول الله تعالى : ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾.

وقوله تعالى : ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾.

وقوله تعالى : ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾.

إبطالٌ للقياس والرأي ، لأنه لا يختلف أهل القياس والرأي أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نصٌ ، وقد شهد الله تعالى بأن النص لم يُفرط فيه شيئًا ، وأن رسوله عليه الصلاة والسلام قد بَيَّنَ للناسِ كُلَّ ما نزل إليهم ، وأن الدين قد كَمُلَ ، فصح أن النص قد استوفى جميعَ الدين ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلا حاجة بأحدٍ إلى قياسٍ ، ولا إلى رأيه ، ولا إلى رأي غيره. 

ثم قال : فإن ادَّعَوْا أن القياس قد أمر الله تعالى به ، سُئِلوا : أين وجدوا ذلك ؟ فإن قالوا : قال الله عز وجل : ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾.

قيل لهم : إن الاعتبار ليس هو في كلام العرب الذي به نزل القرآن إلا التعجب ، قال الله تعالى ، عز وجل : ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً﴾ ، أي لعجبًا ، وقال تعالى : ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ ، أي عجب ، ومن العجيب أن يكون معنى الاعتبار القياس ، ويقول الله تعالى لنا قيسوا ، ثم لا يبين لنا ماذا نقيس ، ولا كيف نقيس ، ولا على ماذا نقيس ، هذا ما لا سبيل إليه ، لأنه ليس في وُسع أحدٍ أن يَعْلَمَ شيئًا من الدين ، إلا بتعليم الله تعالى له إياه ، على لسان رسولِ الله r ، وقد قال تعالى : ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ، فإن ذكروا أحاديث وآيات ، فيها تشبيه شيءٍ بشيءٍ ، وأن الله قضى وحكم بأمر كذا من أجل أمر كذا ، قلنا لهم : كل ما قاله الله عز وجل ورسوله r من ذلك ، فهو حقٌّ ، لا يحل لأحدٍ خِلاَفُهُ ، وهو نصٌ به نقول ، وكل ما تريدون أن تشبهوه في الدين ، وأن تعللوه مما لم ينص عليه الله تعالى ، ولا رسولُه عليه الصلاة والسلام ، فهو باطلٌ ، ولا بد ، وشرعٌ لم يأذن الله تعالى به ، وكل آية وحديث ، موهوا بإيراده ، هو مع ذلك حجة عليهم. ((المحلى)) 1/56.

وقال ابن حزم : والمجتهد المخطىء أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب.

وذم الله التقليد جملةً ، فالمقلد عاصٍ ، والمجتهدُ مأجورٌ ، وليس من اتبع رسولَ الله r مقلدًا ، لأنه فعل ما أمره الله تعالى به ، وإنما المُقلد من اتبع مَنْ دون رسول الله r ، لأنه فعل ما لم يأمره الله تعالى به.

والحق من الأقوال في واحدٍ منها ، وسائرها خطأ ، وبالله تعالى التوفيق.

قال الله تعالى : ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ﴾.

وقال تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾.

وذم الله الاختلاف ، فقال : ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ﴾.

وقال تعالى : ﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ﴾.

وقال تعالى : ﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾.

فصح أن الحق في الأقوال ، ما حكم الله تعالى به فيه ، وهو واحدٌ لا يختلف ، وأن الخطأ ما لم يكن من عند الله عز وجل ، ومن ادعى أن الأقوال كلها حق ، وأن كل مجتهد مصيب ، فقد قال قولاً لم يأت به قرآنٌ ولا سُنةٌ. ((المحلى)) 1/69.

وهذا الأمر من نبذ الرأي ليس هنا مجال استقصاء ما ورد فيه ، وإنما نذكر منه معالمَ على السبيل ، ونُذَكِّر أن الدعوةَ إلى طاعة الله ، وطاعة رسول الله r ، ليست بدعة ابتدعها متأخرٌ ، وليست جمودًا ، أو رجعيةً ، وإنما هي نورٌ يقذفه الله في قلب من أحب من عباده.

إنما أردنا بيان هذا ، لكي لا يتطرق إلى ذهن أحدٍ ؛ أن الدعوة إلى نبذ الرأي تعني الطعن في أحدٍ من العلماء المسلمين ، وإنما تعني ، فيما تعنيه ، الطعنَ في كل صاحبِ رأيٍّ أراد به تحريفَ ما جاء من تعاليم الإسلام ، أو صرفَ الناسِ عن صراط الله المستقيم.

وقد حدث ذلك بالفعل من أئمة أهل الرأي ، عندما ردوا حديثَ رسول الله r ، وقالوا : سمعنا وعصينا ، مع أنهم كانوا قد قالوا من قبل : آمَنَّا ، بأفواههم.

نعم ، إذا كنا نطعن ، ففي أئمة أهل الرأي ، الذين رفضوا حديثَ رسول الله r ، وقَدَّموا عليه وساوس الشيطان والهوى.

ونحن في هذا أيضا لم نأت ببدعة ، بل هكذا كان المسلمون ، وبهذا أمر الله سبحانه.

والعيب فينا أننا لانقرأ ، وإذا قرأنا حاولنا عدم الفهم ، كأن الأمر لصنف آخر من مخلوقات الله.

وإلاَّ ؛ فَمَنِ الذي جعل أبا حنيفة إمامًا ، بل ولَقَّبَهُ بالإمام الأعظم؟!!.

وصار الناسُ ، إلا من رحم ربك ، ينعقون بما لا يسمعون ، إلا دعاء ونداءًا ، صمٌ ، بكمٌ ، عميٌ.

فمن هو هذا الإمام الأعظم ؟.

من الصعب أن أذكر كلَّ ما ورد بشأنه ، ولكن على طالب العلم أن يفتح أيَّ كتاب في الضعفاء ، والمتروكين ، والمتهمين بالكذب ، من كتب رجال الحديث ، لابد أن يلتقي بترجمة أبي حنيفة هذا.

والذي سنذكره هنا ، ما هو إلا نظرة سريعة ، تناسب هذا المقام ؛

ونقرأ الآن هذه الفقرات المتتالية ، 

أولا : من كتاب ((الضعفاء)) للعقيلي 4/280 :

قال سفيان الثوري : قال لنا حماد : أفيكم من يأتى أبا حنيفة ؟ بَلِّغوا عني أبا حنيفة ، أَنِّي بريءٌ منه.

وقال عبد الرحمان بن مهدي : سمعتُ حماد بن زيد يقول : سمعتُ أيوب ، يعني السختياني ، وذُكِرَ أبو حنيفة ، فقال أيوب : ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾. 

وقال الحميدي : سمعت سفيان يقول : ما وُلد في الإسلام مولودٌ أضر على الإسلام من أبي حنيفة.

وقال عبد الله بن عون : ما وُلد في الإسلام مولودٌ أشأمَ من أبي حنيفة ، وكيف تأخذون دينكم عن رجل قد خُذل في عظم دينه.

وقال مالك بن أنس : إن أبا حنيفة كادَ الدين ، ومن كادَ الدين فليس له دين.

وقال منصور بن سلمة ، أبو سلمة الخزاعي : سمعتُ حماد بن سلمة ، وسمعتُ شعبة يلعن أبا حنيفة. 

وقال محمد بن بشار العبدي ، بُنْدار : ما كان عبد الرحمان بن مهدي يذكر أبا حنيفة إلا قال : بينه وبين الحق حجابٌ.

وقال أحمد بن الحسن الترمذي : سمعتُ أحمد بن حنبل يقول : أبو حنيفة يكذب.

ثانيا : ومن كتاب ((العلل ومعرفة الرجال)) ، لعبد الله بن أحمد بن حنبل (3586 إلى : 4734) :

قال أحمد بن حنبل : حدثنا عبد الله بن إدريس ، قال : قلتُ لمالك بن أنس : كان عندنا علقمة ، والأسود ، فقال : قد كان عندكم من قَلَبَ الأمر هكذا ، يعني أبا حنيفة. ((العلل ومعرفة الرجال)) 1118 و2658.

ـ قال سفيان الثوري : استُتِيبَ أبو حنيفة مرتين.

ـ وقال سفيان الثوري : حدثني عباد بن كثير ، قال : قال لي عمرو بن عبيد : سل أبا حنيفة ، عن رجل قال : أنا أعلم أن الكعبة حق ، وأنها بيت الله ، ولكن لا أدري هي التي بمكة أو التي بخراسان ، أمؤمن هو ؟! قال : مؤمن.

قال لي : سله عن رجل قال : أنا أعلم أن مُحَمَّدًا r حق ، وأنه رسول الله ، ولكن لا أدري هو الذي كان بالمدينة ، أو محمد آخر ، أمؤمن هو ؟ قال مؤمن. 

ثالثا : ومن ((التاريخ الكبير)) للبخاري :

ـ قال البخاري : نعمان بن ثابت ، أبو حنيفة الكوفي ، مولًى لبني تيم الله بن ثعلبة ، كان مرجئًا ، سكتوا عنه ، وعن رأيه ، وعن حديثه. ((التاريخ الكبير)) 8/81.

ـ وقال البخاري : يعقوب بن إبراهيم ، أبو يوسف القاضي ، سمع الشيباني ، وصاحبه أبو حنيفة تركوه. ((التاريخ الكبير)) 8/397.

رابعًا : ومن كتاب ((المعرفة والتاريخ)) ليعقوب بن سفيان 2/783 ، وما بعدها :

ـ قال عمار بن رزيق : إذا سُئلت عن شيءٍ ، فلم يكن عندك شيءٌ ، فانظر ما قال أبو حنيفة ، فخالفه ، فإنك تصيب.

وقال إبراهيم بن محمد الفزاري : كنا عند سفيان الثوري ، إذ جاءه نعيُ أبي حنيفة ، فقال : الحمد لله الذي أراح المسلمين منه ، لقد كان ينقض عرى الإسلام عروةً عروةً ، ما وُلد في الإسلام مولودٌ أشأم على الإسلام منه.

وقال سليمان بن حرب : حدثنا حماد بن زيد ، قال : قال ابن عون : نُبئت أن فيكم صدادين ، يصدون عن سبيل الله . قال سليمان بن حرب : وأبو حنيفة ، وأصحابه ، ممن   يصدون عن سبيل الله.

وقال سلام بن أبي مطيع : كنتُ مع أيوبَ في المسجد الحرام ، قال : فرآه أبو حنيفة ، فأقبل نحوه ، قال : فلما رآه أقبل نحوه ، قال لأصحابه : قوموا ، لا يُعدنا بالجَرَبَة ، قوموا ، لا يُعْدِنا بالجَرَبَة.

خامسًا : ومن كتاب ((الجرح والتعديل)) ، لابن أبي حاتم 8/449 :

عن أبى عبد الرحمان المقرىء ، قال : كان أبو حنيفة يُحدثنا ، فإذا فرغ من الحديث ، قال : هذا الذي سمعتم كله ريحٌ وباطلٌ.

وقال الحسين بن الحسن المروزي : ذُكِرَ أبو حنيفة عند أحمد بن حنبل ، فقال : رأيُهُ مذمومٌ ، وبَدَنُهُ لا يُذكر.

سادسا : ومن كتاب ((المجروحين)) ، لابن حِبَّان : 3/60 :73.

قال عبد الرحمان بن مهدي ، وذَكَر أبا حنيفة ، فقرأ : ﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾.

سابعا : ومن كتاب ((تاريخ بغداد)) 13/416 ، وما بعدها :

قال إسماعيل بن بشر : سمعتُ عبد الرحمان بن مهدي يقول : ما أعلم في الإسلام فتنةً ، بعد فتنة الدجال ، أعظمَ من رأي أبي حنيفة.

وقال الأوزاعي ، لما مات أبو حنيفة : الحمد لله ، إن كان لينقض الإسلام عروةً عروةً.

وقال مطرف : سمعت مالكًا يقول : الداء العضال الهلاك في الدين ، وأبو حنيفة من الداء العضال.

وقال مزاحم بن زفر : قلتُ لأبي حنيفة : يا أبا حنيفة ، هذا الذي تُفتي ، والذي وضعت في كتبك ، هو الحق الذي لا شك فيه ؟ قال : فقال : والله ما أدري ، لعله الباطل الذي لا شك فيه.

وقال عبد الله بن المبارك : من نظر في كتاب الحِيَل لأبي حنيفة ، أَحل ما حَرَّمَ الله ، وَحَرَّمَ ما أحل الله.

وقال عبد الله بن المبارك : من كان عنده كتاب حِيَل أبي حنيفة ، يستعمله ، أو يُفتي به ، فقد بطل حَجُّه ، وبانت منه امرأته ، فقال مولى ابن المبارك : يا أبا عبد الرحمان ، ما أدري وضع كتاب الحيل إلا شيطان ، فقال ابن المبارك : الذي وضع كتاب الحيل أشر من الشيطان.

وقال أحمد بن سعيد الدارمي : سمعتُ النضر بن شُميل يقول : في كتاب الحِيَل كذا كذا مسألة ، كلها كُفر.

وقال ابن المبارك : كنتَ إذا أتيتَ مجلسَ سفيان ، فشئتَ أن تسمع كتابَ الله ، سمعته ، وإن شئتَ أن تسمع آثارَ رسول اللهِ r ، سمعتَها ، وإن شئتَ أن تسمع كلامًا في الزهد ، سمعتَه ، وأما مجلسٌ ، لا أذكر أني سمعتُ فيه قط ، صُلِّىَ على رسول اللهِ r ، فمجلسُ أبي حنيفة.

وقال عبد الله بن عبد الرحمان الدارمي : سُئل قيس بن الربيع ، عن أبي حنيفة ، فقال : مِنْ أجهل الناس بما كان ، وأعلمه بما لم يكن.

وقال ابن أبي حاتم : حدثني الربيع بن سليمان المرادي ، قال : سمعتُ الشافعي يقول : أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ، ثم يقيس الكتاب كله عليها.

وقال محمد بن حماد المقرئ : سألتُ يحيى بن مَعِين عن أبي حنيفة ، فقال : وإيش كان عند أبي حنيفة من الحديث حتى تسأل عنه ؟!.

وقال مسلم بن الحجاج ، صاحب الصحيح : أبو حنيفة ، النعمان بن ثابت ، صاحب الرأي ، مضطرب الحديث ، ليس له كبير حديثٍ صحيحٍ.

وقال النسائي : أبو حنيفة ، النعمان بن ثابت ، كوفيٌّ ، ليس بالقوي في الحديث.

وقال مُسَدَّد : سمعتُ أبا عاصم يقول : ذكر عند سفيان موتُ أبي حنيفة ، فما سمعته يقول رحمه الله ، ولا شيئًا ، قال : الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاه به.

انتهى نقلا من تاريخ بغداد ، للخطيب ، وذلك باختصار شديد ، ولو رجع الباحث لوجد أضعاف مانقلنا ، وأشد منه.

ولسنا الآن في مجال جمع الجرح والتعديل في أبي حنيفة ، والشاهد هنا ، أن نوضح للناس أنهم يتبعون ناسًا لا يعرفونهم ، ولا يعرفون أين كانوا ، فقط لمجرد أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون ، ولم يحاول أحدهم أن يعرف هذا الإمام ، والأعظم.

وقد ورد فيما سبق ، أن أبا حنيفة كان يستمع إلى الأحاديث فيردها برأيه.

والغريب ، حتى نعدل ، أنه ليس أبو حنيفة وحده هو الذي كان يفعل ذلك ، بل فعلها كثيرون ، إلاَّ من رحم ربك ، من الذين اتخذهم الناس أئمةً. 

وهنا تقع على عاتق من أحبَّ الله ، وأحبَّ رسولَهُ r ، مسؤوليةُ الأمرِ بالمعروف ، والنهي عن المنكر، دون وجل من لدغات الأفاعي ، ومكر الثعالب. 

على الداعية إلى الله عز وجل ، وإلى طاعةِ رسوله r أن لا يخاف في الله لومةَ لائمٍ ، فيجهر بالحق ، ولو كره أعداءُ الحق ، وأن يُدافع بحريته ، وماله ، ونفسه ، وأولاده ، وبأغلى ما يملك عن طاعة الرسول r ، وأن يتحمل في ذلك الأذى الذي أعده الذين تفرقوا واختلفوا. 

لقد أنزل الله لأُمتنا كتابًا مُهيمنًا على ما سبقه من كُتب ، وأرسل لنا رسولاً كان ختامَ المسك للرسل الأطهار الكرام ، في هَدْيِهِ الكفايةُ ، وفي اتَباعِه النجاةُ ، وإنه ليهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ . 

ربنا ، جئناك مُقَصِّرين فلا تَرُدَّنا

ووقفنا أمام رحمتك مُذنبين ، فلا تَطردنا بما كسبت أيدينا

وقدمنا إلى عفوك ، وهذا جُهد المُقِلِّ ، وعملُ المُقَصِّرِ ، وحِيلةُ الضعيفِ

عرفناك تغفر للمذنبين ، وتقبل التائبين ، وتُنَجِّي من عذابك ولو بشِق تمرة

اللهم جئناك ، وقد ثَقُلَتْ ذنوبُنا ، وهذه شِق تمرةٍ ، فاقبلها يا أرحم الراحمين

السلام عليك أيها النبيُّ ، ورحمةُ الله وبركاته

السلام علينا ، وعلى عباد الله الصالحين

تعليق واحد

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *