تدليس وخيانة الفقهاء والأصوليين لأمة الإسلام

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  

الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تدليسُ العلماءِ والشيوخِ على الأمةِ وعلى طلابِ العلمِ

حديثُ مُعاذٍ نموذجًا

استمع للمقطع الصوتي

تدليس وخيانة الفقهاء والأصوليين لأمة الإسلام

هلْ إذا سمعتَ أنَّ القائلَ هو ابنُ القيِّمِ تشعرُ بالاطمئنانِ؟

وإذا سمعتَ كلامَ الغزاليِّ وإمامِ الحرمينِ شعرتَ بالعمقِ العلميِّ؟

أنصحُكَ أن تتريَّثَ.

القادمُ منقولٌ حرفيًّا من مقالٍ للشيخِ محمودِ محمدٍ خليلٍ

اشتهرَ في وسطِ هذا الزَّبَدِ شيءٌ احتجَّ به هؤلاءِ لإثباتِ أنَّه يجبُ الأخذُ بالرأيِ والقياسِ، وأنَّ الدينَ ناقصٌ، وأنَّ المسلمَ سيلتقي في حياتِه بأحكامٍ ليست في كتابِ اللهِ، ولا في سُنَّةِ رسولِه، وهنا عليه أن يجتهدَ رأيَه!

وإليك الحديثَ المزعومَ:

– عَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ ، عَنْ مُعَاذٍ ؛

)) أَنَّ رَسُولَ اللهِ r حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ : كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟ قَالَ : أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ ؟ قَالَ : فَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ r ، قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ r ؟ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي لاَ آلُو ، قَالَ : فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ r صَدْرِي ، ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ ِللهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ r لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ r..((

أخرجه ابن أَبي شَيْبَة ، وأحمد ، وعَبد بن حُميد ، والدارِمِي ، وأبو داود ، والترمذي ، من رواية أَبي عَوْن ، مُحَمد بن عُبَيْد الله الثَّقَقِي ، عن الحارث بن عَمْرو ، ابن أخي المُغِيرَة بن شُعْبة ، عن ناسٍ من أصحابِ مُعَاذ من أهل حِمْص ، عن معاذ ، به.

هذا ما يحتجُّ به سَدَنةُ المذاهبِ، والذين فرَّقوا دينَهم وكانوا شِيَعًا.

وهذا حديثٌ إسنادُه ساقطٌ لا يصحُّ، ومن نَسَبَه إلى رسولِ اللهِ ، فقد كذبَ عليه.

أولًا: قال البخاريُّ: الحارثُ بنُ عَمرٍو، ابنُ أخي المُغيرةِ بنِ شُعبةَ، الثَّقَفيُّ، عن أصحابِ مُعاذٍ، عن مُعاذٍ، روى عنه أبو عَونٍ، ولا يَصحُّ، ولا يُعرفُ إلا بهذا، مُرسلٌ. التاريخُ الكبيرُ (٢/٢٤٤٩).

ثانيًا: أورده العُقيليُّ في الضعفاءِ ١/٢١٥ (٢٦٢)، ونقلَ قولَ البخاريِّ السابقَ.

ثالثًا: قال الترمذيُّ، بعد أن أخرجه: هذا حديثٌ لا نعرفُه إلا من هذا الوجهِ، وليس إسنادُه عندي بمتصلٍ، وأبو عَونٍ الثقفيُّ اسمُه محمدُ بنُ عُبيدِ اللهِ. سننُ الترمذيِّ (١٣٢٧ و١٣٢٨).

رابعًا: قال ابنُ حَزمٍ: وحديثُ مُعاذٍ، الذي فيه: أجتهدُ رأيي ولا آلو، لا يصحُّ، لأنه لم يروِه أحدٌ إلا الحارثُ بنُ عمرو، وهو مجهولٌ، لا ندري مَنْ هو، عن رجالٍ من أهلِ حِمْصَ لم يُسمِّهم، عن مُعاذٍ. ((المُحلَّى)) ١/٦٢.

وقال ابنُ حَزمٍ: وأمَّا حديثُ مُعاذٍ، فيما رُوِيَ من قولِه: أجتهدُ رأيي، وحديثُ عبدِ اللهِ بنِ عمرو، في قولِه: أجتهدُ بحضرتِكَ يا رسولَ اللهِ، فحديثانِ ساقطانِ، أمَّا حديثُ مُعاذٍ، فإنَّما رُوِيَ عن رجالٍ من أهلِ حِمْصَ، لم يُسمَّوْا، وحديثُ عبدِ اللهِ منقطعٌ أيضًا، لا يتصلُّ. ((الإحكامُ في أصولِ الأحكامِ)) ٥/١٢١.

خامسًا: أخرجه ابنُ حَجَرٍ في كتابِه ((تلخيصُ الحبيرِ)) ٤/١٨٢، ثم قال: أخرجه أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ، وابنُ عديٍّ، والطبرانيُّ، والبيهقيُّ، من حديثِ الحارثِ بنِ عمرو، عن ناسٍ من أصحابِ مُعاذٍ، عن مُعاذٍ.

قال الترمذيُّ: لا نعرفُه إلا من هذا الوجهِ، وليس إسنادُه بمتصلٍ.

وقال البخاريُّ، في ((تاريخِه)): الحارثُ بنُ عمرو، عن أصحابِ مُعاذٍ، وعنه أبو عَونٍ، لا يصحُّ، ولا يُعرفُ إلا بهذا.

وقال الدارقطنيُّ، في ((العللِ)): رواه شُعبةُ، عن أبي عَونٍ، هكذا، وأرسله ابنُ مهديٍّ، وجماعاتٌ، عنه، والمرسلُ أصحُّ.

قال أبو داودَ، يعني الطيالسيَّ، أكثرُ ما كان يُحدِّثُنا شُعبةُ، عن أصحابِ مُعاذٍ، أنَّ رسولَ اللهِ ، وقال مرةً: عن مُعاذٍ.

وقال ابنُ حَزمٍ: لا يصحُّ، لأنَّ الحارثَ مجهولٌ، وشيوخَه لا يُعرفون، قال: وادَّعى بعضُهم فيه التواترَ، وهذا كذبٌ، بل هو ضدُّ التواترِ، لأنَّه ما رواه إلا أبو عَونٍ، عن الحارثِ، فكيف يكونُ متواترًا.

وقال عبدُ الحقِّ: لا يُسندُ، ولا يوجدُ من وجهٍ صحيحٍ.

وقال ابنُ الجوزيِّ، في ((العللِ المتناهيةِ)): لا يصحُّ، وإن كان الفقهاءُ كلُّهم يذكرونه في كُتبِهم، ويعتمدون عليه.

وقال ابنُ طاهرٍ، في تصنيفٍ له مُفردٍ، في الكلامِ على هذا الحديثِ: اعلمْ أنّي فحصتُ عن هذا الحديثِ في المسانيدِ الكبارِ والصغارِ، وسألتُ عنه مَنْ لقيتُه من أهلِ العلمِ بالنقلِ، فلم أجدْ إلا طريقينِ، أحدُهما طريقُ شُعبةَ، والأخرى عن محمدِ بنِ جابرٍ، عن أشعثَ بنِ أبي الشَّعثاءِ، عن رجلٍ من ثقيفٍ، عن مُعاذٍ، وكلاهما لا يصحُّ، قال: وأقبحُ ما رأيتُ فيه، قولُ إمامِ الحرمينِ، في كتابِ ((أصولِ الفقهِ)): والعمدةُ في هذا البابِ على حديثِ مُعاذٍ، قال: وهذه زلَّةٌ منه، ولو كان عالمًا بالنقلِ، لما ارتكبَ هذه الجهالةَ.

قال ابنُ حَجَرٍ: كلامُ إمامِ الحرمينِ أشدُّ ممَّا نقله عنه، فإنَّه قال: والحديثُ مُدوَّنٌ في الصحاحِ، مُتَّفقٌ على صحتِه، لا يتطرقُ إليه التأويلُ. انتهى كلامُ ابنِ حَجَرٍ، نقلًا عن تلخيصِ الحبيرِ، مع الاختصارِ.

قلنا: وكلامُ ما يُسمَّى بإمامِ الحرمينِ هذا باطلٌ، فالحديثُ لم يُدوَّنْ في الصحاحِ، ومُتَّفقٌ على ضعفِه، ويتطرقُ إليه الضلالُ المُبينُ، وكلامُه مردودٌ عليه، وإن كان إمامًا لمساجدِ الدنيا.

أقول : تدليسُ ابنِ القيِّمِ في هذا الحديثِ :

قال ابنُ القيِّمِ في أعلامِ المُوقِّعينَ عن ربِّ العالمينَ: وقد أقرَّ النبيُّ مُعاذًا على اجتهادِ رأيِه فيما لم يجدْ فيه نصًّا عن اللهِ ورسولِه، فقال شُعبةُ: حدَّثني أبو عَونٍ عن الحارثِ بنِ عمرو عن أُناسٍ من أصحابِ مُعاذٍ أنَّ رسولَ اللهِ لمَّا بعثَه إلى اليمنِ قال: ….

فهذا حديثٌ وإن كان رُواتُه غيرَ مُسمَّين فهم أصحابُ مُعاذٍ، ذلك لأنَّه يدلُّ على شُهرةِ الحديثِ وأنَّ الذي حدَّثَ به الحارثُ بنُ عمرو عن جماعةٍ من أصحابِ مُعاذٍ لا واحدٍ منهم، وهذا أبلغُ في الشُّهرةِ من أن يكونَ عن واحدٍ منهم لو سُمِّيَ، كيف وشُهرةُ أصحابِ مُعاذٍ والفضلُ والصدقُ بالمحلِّ الذي لا يخفى ولا يُعرفُ في أصحابِه مُتَّهمٌ ولا كذَّابٌ ولا مجروحٌ بل أصحابُه من أفاضلِ المسلمينَ وخيارِهم لا يشكُّ أهلُ العلمِ بالنقلِ في ذلك كيف وشُعبةُ حاملُ لواءِ هذا الحديثِ، وقد قال بعضُ أئمَّةِ الحديثِ إذا رأيتَ شُعبةَ في إسنادِ حديثٍ فاشدُدْ يديكَ به، قال أبو بكرٍ الخطيبُ: وقد قيل إنَّ عُبادةَ بنَ نُسيٍّ رواه عن عبدِ الرحمنِ بنِ غُنمٍ عن مُعاذٍ وهذا إسنادٌ مُتَّصلٌ ورجالُه معروفون بالثقةِ على أنَّ أهلَ العلمِ قد نقلوه واحتجُّوا به فوقفنا بذلك على صحتِه عندهم.

مِنَ المُلاحَظِ أنَّ ابنَ القيِّمِ يُحاوِلُ تَصحيحَ حديثِ مُعاذٍ بِشتَّى الطُّرقِ، مُتَجاهِلًا ضَعفَهُ الشَّديدَ باتِّفاقِ كِبارِ عُلماءِ الحديثِ. وَمِن أبرَزِ مَظاهِرِ تَدليسِهِ:

 * الاعتمادُ على الشُّهرةِ المزعومةِ: يَقولُ ابنُ القيِّمِ إنَّ الحديثَ شَهيرٌ؛ بِناءً على أنَّ رُواتَهُ غَيرُ مُسمَّينَ، وَهُم أصحابُ مُعاذٍ. وَهذا استِدلالٌ باطِلٌ؛ فَكَثرةُ الطُّرقِ الضَّعيفةِ لا تُقوِّي الحديثَ، بَل تُؤكِّدُ وُجودَ خَللٍ فيهِ. وَعَدَمُ تَسميةِ الرُّواةِ يُعتَبَرُ جَهالةً بِهِم، وَهِيَ مِن أسبابِ الضَّعفِ.

 * تَزكيةُ أصحابِ مُعاذٍ بِشكلٍ مُطلَقٍ: يَصِفُ ابنُ القيِّمِ أصحابَ مُعاذٍ بِأوصافِ الفَضلِ وَالصِّدقِ بِشكلٍ عامٍّ، وَيَدَّعي أنَّهُ لا يُوجَدُ فيهِم مُتَّهمٌ وَلا كذَّابٌ وَلا مجروحٌ. وَهذا تَعْمِيمٌ مُخِلٌّ؛ إذ لا يَستَلزِمُ صِدقُ بَعضِهِم صِدقَ كُلِّهِم، وَخاصَّةً مَعَ وُجودِ الجَهالةِ بِأعيانِهِم.

 * الاستِدلالُ بِقولِ بَعضِ الأئمَّةِ في شُعبةَ: يَستَشِهدُ ابنُ القيِّمِ بِقولِ بَعضِ الأئمَّةِ “إذا رأيتَ شُعبةَ في إسنادِ حديثٍ فاشدُدْ يديكَ به”. وَهذا استِدلالٌ غَيرُ دَقيقٍ؛ فَمَدحُ شُعبةَ لا يَعني تَصحيحَ كُلِّ ما يَرويهِ، وَخاصَّةً إذا خالَفَ رِوايتُهُ رِواياتِ الثِّقاتِ الأثباتِ. كَما أنَّ هذا القَولَ لَيسَ على إطلاقِهِ، بَل هو مُقَيَّدٌ بِشُروطٍ مُعَيَّنةٍ.

 * نِسبةُ التَّصحيحِ إلى أهلِ العِلمِ بِشكلٍ مُبْهَمٍ: يَقولُ ابنُ القيِّمِ “على أنَّ أهلَ العلمِ قد نقلوه واحتجُّوا به فوقفنا بذلك على صحتِه عندهم”. وَهذا إبهامٌ مُخِلٌّ؛ فَلَم يُحَدِّدْ ابنُ القيِّمِ مَن هُم “أهلُ العلمِ” الذينَ نَقلوا الحديثَ وَاحتجُّوا به، وَهَل هُم مِن عُلماءِ الحديثِ المُتَخَصِّصينَ في الجَرحِ وَالتَّعديلِ أم غَيرُهُم؟ وَهذا يُضعِفُ استِدلالَهُ.

تَجاهُلُ أقوالِ كِبارِ النُّقادِ: يَتَجاهَلُ ابنُ القيِّمِ أقوالَ كِبارِ نُقادِ الحديثِ الذينَ ضَعَّفوا الحديثَ، مِثلَ البُخاريِّ وَالتِّرمِذيِّ وَابنِ حَزمٍ وَالدَّارَقُطنيِّ وَغَيرِهِم. وَهذا يُعَدُّ تَجاهُلًا لِلأدلَّةِ المُخالِفةِ وَانتقاءً لِما يُوافِقُ رَأيَهُ.

الخُلاصةُ: بِالإضافةِ إلى ما ذُكِرَ، مِنَ المُهِمِّ التَّنَبُّهُ إلى أنَّ ابنَ القيِّمِ كانَ يَميلُ إلى تَوسيعِ دائرةِ الاجتهادِ بِالرَّأيِ، وَقَد يَكونُ هذا الهَوى دافِعًا لَهُ لِتَصحيحِ هذا الحديثِ. وَمَعَ هذا، لا يَنفي هذا وُجودَ آراءٍ أُخرى تُحاوِلُ تَصحيحَ الحديثِ بِطُرقٍ أُخرى، وَلَكِنَّ الرأيَ الرَّاجِحَ عِندَ مُعظَمِ عُلماءِ الحديثِ هُوَ ضَعفُ الحديثِ وَعَدَمُ صلاحِيَتِهِ لِلاستِدلالِ بِهِ.

بِناءً على ما سَبَقَ، يَظهَرُ أنَّ ابنَ القيِّمِ قَدِ ارتَكَبَ تَدليسًا في تَصحيحِ حديثِ مُعاذٍ؛ مِن خِلالِ الاعتمادِ على الشُّهرةِ المزعومةِ وَتَزكيةِ الرُّواةِ بِشكلٍ مُطلَقٍ وَالاستِدلالِ بِأقوالٍ غَيرِ دَقيقةٍ وَتَجاهُلِ أقوالِ كِبارِ النُّقادِ. وَهذا يُؤكِّدُ ضَعفَ الحديثِ وَعَدَمَ صلاحِيَتِهِ لِلاستِدلالِ بهِ في أصولِ الشَّريعةِ.

تدليسُ أئمةِ الفقهِ والأصولِ في حديثِ مُعاذٍ

يُلاحَظُ أنَّ بعضَ أئمةِ الفقهِ والأصولِ قد وَقَعوا في نوعٍ من التَّساهُلِ أو التَّدليسِ في التعاملِ مع حديثِ مُعاذٍ، حيثُ رَوَّجوا لِصِحَّتِهِ وشُهرتِهِ بِطريقةٍ تُخالِفُ ما عليهِ عُلماءُ الحديثِ المُتَخصِّصينَ في الجَرحِ والتَّعديلِ. وَمِن أبرَزِ أمثلةِ ذلكَ:

 * قولُ إمامِ الحرمينِ: ذَكَرَ في كتابِهِ “البرهانُ في أصولِ الفقهِ” أنَّ “العمدةَ في هذا البابِ على حديثِ مُعاذٍ، والحديثُ صحيحٌ مُدوَّنٌ في الصحاحِ مُتَّفقٌ على صحتِهِ لا يتطرقُ إليه التأويلُ”. وَهذا القولُ فيهِ مُغالاةٌ واضحةٌ، فالحديثُ لَم يُدوَّنْ في الصحاحِ المُتَّفقِ عليها (كصحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ)، وَلَم يَتَّفقْ عُلماءُ الحديثِ على صحتِهِ، بَلِ اتَّفقوا على ضَعفِهِ كما تَقَدَّمَ. وَوَصفُهُ بأنَّه “لا يتطرقُ إليه التأويلُ” فيهِ تَضييقٌ لِمساحاتِ النِّقاشِ العِلميِّ وَمُصادرةٌ لآراءِ المُخالِفينَ.

 * قولُ الغزاليِّ: ذَكَرَ أنَّ “هذا حديثٌ تلقته الأمةُ بالقبولِ، ولم يَظهرْ أحدٌ فيه طعنًا ولا إنكارًا، وما كان كذلك لا يَقدحُ فيه كونُه مُرسلًا، بل لا يجبُ البحثُ عن إسنادِهِ”. وَهذا الكلامُ فيهِ نَظرٌ؛ فَتلقِّي الأمةِ للحديثِ لا يَستَلزِمُ صحتَهُ بالضَّرورةِ، خُصوصًا مَعَ مُخالفةِ ذلكَ لِقواعدِ عِلمِ الحديثِ. كَما أنَّ عَدَمَ ظهورِ الطَّعنِ والإنكارِ في وَقتٍ مُعيَّنٍ لا يَنفي وُجودَهُ فيما بَعدَ ذلكَ، وَقَد ثَبَتَ أنَّ كِبارَ عُلماءِ الحديثِ قد طَعنوا في الحديثِ وَضَعَّفوهُ. أمَّا قولُهُ “لا يجبُ البحثُ عن إسنادِهِ” فهوَ مُخالفٌ لِمَنهجِ النَّقدِ الحديثيِّ الذي يَعتمدُ على دِراسةِ الأسانيدِ وَتَوثيقِ الرُّواةِ.

 * قولُ صاحبِ كشفِ الأسرارِ: ذَكَرَ أنَّ “مُثبتي القياسِ مُتمسِّكونَ به أبدًا في إثباتِ القياسِ، ونُفاتَهُ كانوا يَشتَغلونَ بتأويلِهِ، فكان ذلك اتفاقًا منهم على قبولِهِ”. وَهذا القولُ فيهِ تَعْمِيمٌ غَيرُ دَقيقٍ؛ فَلَيسَ كُلُّ مُثبتي القياسِ يَعتمدونَ على هذا الحديثِ وَحدَهُ، وَلَيسَ كُلُّ نُفاتِهِ يَقتَصِرونَ على تأويلِهِ. كَما أنَّ مُجَرَّدَ وُجودِ نِقاشٍ حَولَ الحديثِ لا يَستَلزِمُ الاتِّفاقَ على قبولِهِ، بَل قَد يَكونُ النِّقاشُ دَليلًا على عَدَمِ الاتِّفاقِ.

يَجِبُ التَّنبيهُ إلى أنَّ هذهِ الأقوالَ قَد صَدَرَت مِن أئمةٍ كِبارٍ لهم قَدرُهُم وَعِلمُهُم، وَلَكِنَّ ذلكَ لا يَمنعُ مُناقشةَ آرائِهم وَتَقويمَها في ضَوءِ المَنهجِ العِلميِّ الصَّحيحِ. وَيَجِبُ التَّأكيدُ على أنَّ الرأيَ الرَّاجِحَ عِندَ مُعظَمِ عُلماءِ الحديثِ هُوَ ضَعفُ حديثِ مُعاذٍ وَعَدَمُ صلاحِيَتِهِ لِلاستِدلالِ بِهِ في أصولِ الشَّريعةِ.

فهذه نماذجُ من تدليساتِ مَن يُسمُّونَهم بأهلِ العلمِ حولَ حديثِ مُعاذٍ، فقط لنُصرةِ الدِّينِ البشريِّ المُختَرَعِ المذاهبِ والآراءِ وليشتركَ البشرُ مع اللهِ سبحانه في تشريعِ الشِّرعةِ للناسِ.

فمن الناسُ بعدَ هؤلاءِ؟!!

فيا أولي الألبابِ من الأَولى أن يتكلَّمَ في هذهِ الأصولِ إن جازَ لأحدٍ أن يتكلَّمَ فيها؟

أهلُ الحديثِ والعلمِ بهِ، أهلُ المعرفةِ بما ثبتَ عن نبيِّهم ، ورثةُ علومِ الرسولِ الكريمِ عليهِ السلامُ، أهلُ العلمِ بالأدلَّةِ، أم أهلُ الكلامِ والفلسفةِ والمنطقِ الذي اختلطَ بالمذهبيةِ العفنةِ؟؟

أهلُ الإتقانِ ومعرفةِ العللِ، أم الذين لا يعرفون الفرقَ بين الصحيحينِ وبين كتبِ قدماءِ المصريينَ.

واللهِ إنَّ اسمَ إمامِ الحرمينِ لينخلعُ القلبُ لهُ رهبةً، ومع ذلكَ لا يعلمُ شيئًا عن الحديثِ الذي يستدلُّ بهِ في مسألةٍ أصوليةٍ يتفرَّعُ عليها المئاتُ من الفروعِ، بل لا يتردَّدُ ولا يقولُ مثلًا: وأظنُّهُ في الصحيحِ، بل يجزمُ بمنتهى الثقةِ والتأكُّدِ أنَّ الحديثَ مُدوَّنٌ في الصحاحِ ومتَّفقٌ على صحتِهِ!!

هل رأيتم أعجبَ من هذا؟؟

وإذا وعى قلبُكَ هذا فلا تتعجَّبْ إذا سمعتَ الغزاليَّ الشهيرَ بحُجَّةِ الإسلامِ يقولُ: أنَّ هذا الحديثَ متواترٌ، وتلقَّتْهُ الأمةُ بالقبولِ، ولا يجبُ البحثُ عن إسنادِهِ، ولم يطعنْ فيهِ أو يُنكرْهُ أحدٌ!!

حديثٌ يدورُ على صحابيٍّ واحدٍ هو معاذُ بنُ جبلٍ رضيَ اللهُ عنهُ يصفُهُ بالتواترِ، ثم يقولُ إنَّ الأمةَ تلقَّتْهُ بالقبولِ وكأنَّ كلَّ هؤلاءِ الأعلامِ ليسوا من الأمةِ!!، ولم يطعنْ فيهِ أحدٌ أو يُنكرْهُ طبعًا كما رأيتم، ولذا لا يجبُ البحثُ عن سندِهِ!!

وأمَّا صاحبُ كشفِ الأسرارِ فمبلغُ علمِهِ أنَّ نُفاةَ القياسِ اشتغلوا بتأويلِ هذا الحديثِ لأنَّهم بالطبعِ لا يجدون منهُ مهربًا كما نرى!!، فيحاولون جاهدينِ أن يجدوا لهُ تأويلًا مقبولًا!!

ومن المؤكَّدِ أنَّهُ لم تبلغهُ هذهِ الأقوالُ من جبالِ الأمةِ ورجالِها!!

{  رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ  } [آل عمران:8]

شاهد المقطع المصور

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *