الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
بعد أن نتفق على ( مصادر التشريع ) ونقوم بحصرها في الكتاب والسنة فقط ، نبدأ مرحلة أخرى من مراحل الدراسة وهي محاول فهم نصوص الوحي فهما صحيحاً .
صحيح أن أغلب العبادات قد طبقها النبي صلى الله عليه وسلم ونُقِلَت إلينا طريقته ، لكن بعض النصوص قد يفهم منها البعض ما لم يفهمه الآخر بصرف النظر كون هذا الفهم صحيحاً أو خاطئاً.
وحتى لا أطيل في مقدمة أريد ضرب بعض الأمثال من مناقشات حية :
أولاً : الإثبات ، يعني اثبات شئ من نص
روى البخاري في الصحيح قال :
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، قَالَ عَنْ شُعْبَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنِ الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ.
وَقَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { مَآرِبُ } : حَاجَةٌ. قَالَ طَاوُسٌ : { أُولِي الْإِرْبَةِ } : الْأَحْمَقُ، لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ.
استنبط البعض من هذا الحديث جواز الإنزال ( المني ) للصائم طالما لم يجامع ، وأن هذا لا يفسد صومه !
دعنا ننظر إلى المنطوق ثم نذهب بعدها إلى المفهوم نناقشه .
هل تجد في المنطوق دليل على جواز الإنزال للصائم ؟
هل تجد في المنطوق قرينة على جواز الإنزال للصائم ؟
هل تجد في المنطوق إشارة على جواز الإنزال للصائم ؟
الإجابة المجمعة هي : لا .
إن لم تكن تعرف الفرق بين الدليل والقرينة والإشارة أقرأ هذا الموضوع .
إذن المنطوق ليس فيه جواز الإنزال ولا حتى دلالة عليه من أي نوع .
إذن هذا الحكم خرج بالفهم ، كيف حصل هذا ؟
حصل من خلل منطقي ، هذا الخلل هو التلازم بين المداعبة والإنزال ، وهو ليس بلازم ، بل مجرد محتمل ، فليست كل ملاعبة تفضى إلى إنزال لا للرجل ولا للمرأة .
إذا حصل ووصلنا للإنزال فسيأتي السائل ليسأل هل أفطر أم لا ؟
فإن قلتُ له : لا لم تفطر ، فسألني عن الدليل ماذا أقول ؟
هل أقول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل ويباشر وهو صائم ؟
فإن كان السائل حصيفاً فسيقول لى : أنه لم يسأل عن حكم التقبيل والمباشرة للصائم ، بل عن من ( لم يملك إربه ) فتمادى فأنزل !!
وهل يوجد فرق ؟ ، ننتقل إلى المفهوم :
نعم يوجد فرق ، تعالى نفهم معنى ألفاظ الحديث :
إربه : حاجته ( حاجته التى يريد قضاءها يعني الإنزال )
كان النبي صلى الله عليه وسلم أملك الناس لإربه ، قال تعالى ( أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال ) يعنى هؤلاء الذين لا رغبة ولا حاجة فيهم للنساء ،
فالذي في المنطوق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك إربه في هذا الموضع ، فإن كان جائزاً له أن ينزل فلماذا يملك أربه هنا ؟ لماذا لا يكمل حتى الإنزال ؟
طيب الآخرين من الرجال المتزوجين في زمن الوحي آلاف الصحابة كلهم يملكون إربهم أم أكملوا الملاعبة حتى الإنزال ؟؟ وهؤلاء بالآلاف وليسوا بالأفراد أو العشرات ، لم يثبت شئ كهذا في زمن النبوة أبداً .
حتى القرآن يقول : ( أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم ) ، ليلة الصيام ؟
فالمنطوق كما ترى ليس فيه ما قيل ، والمفهوم أقل تقدير مع التساهل والتسامح هو المنازعة فيما فُهِم .
فكيف تبنى أحكامٌ كهذه على ظنون كتلك ؟
ثانياً : النفي ، يعنى نفي شئ باستخدام نص
روى البخاري في الصحيح قال :
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ، فَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ : إِنَّ مِثْلَكَ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ ؛ فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلَادِكَ. فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ : إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ؟ فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ : مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ ؛ فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ ؛ يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ : إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ ؛ فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ. قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ : قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي ؛ فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ “. وَهُمَا الْحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” عَلَى رِسْلِكَ ؛ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي “. قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ ؟ قَالَ : ” نَعَمْ “. فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
أراد البعض أن يستخدم هذا الحديث لينفى عمر عائشة حين تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم وأن عمرها لم يكن تسع سنوات ، فطعن على حديث عروة ، ثم صدر بهذا الحديث المذكور كمعارض يعارض حديث عروة ويثبت عدم صحته ، ويؤكد أن عمر عائشة كان قرابة خمسة عشرة سنة حين تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذا قرأت نص الحديث لا تجد ذكراً لسن عائشة أبدا لا تصريحاً ولا تلميحاً !
فمن أين فهم هذا الإنسان أن عمر عائشة كان كبيراً ؟
من قولها : لم أعقل أبواي إلا وهم يدينان الدين ثم باقى الحديث !
والحاصل أن عائشة لم تعى بعد فترة الطفولة الأولى إلا ووجدت أبواها على الدين والنبي صلى الله عليه وسلم يزورهم في بيتهم .
اما قولها فلما ابتلي…. فيجوز انها سمعته من أبيها أو أمها أو من أسماء ،
وهل روت عائشة أشياء لم تحضرها عن طريق غيرها ؟
الإجابة نعم ، هذا كمثال :
«صحيح البخاري» (1/ 79):
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: «فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ.»
فعائشة يقيناَ لم تكن حضرت فرض الصلاة ، لكنه روته إما عن أبيها أو أمها أو أسماء ، وهذا واضح .
إذن روايتها في هذا الحديث لا يعنى أنها ( حضرت ) هذه الوقائع بنفسها ، ويجعل الاحتجاج به على نفي سن عائشة وقت زواجها مجرد احتمال ضعيف .
اذن الحديث لا يصلح كدليل نفي ، لكن الدارس ( نتيجة لظروف وعوامل ) فهم منه ما فهم وهو ليس فيه ابتداء .
الخلاصة : يجب التمييز بين النص المقروء وبين المفهوم من النص .
رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ [آل عمران: 8]