جريمة المذاهب في حق الإسلام
كتاب : خطيئة المذاهب
للدكتور : محمد طلبة زايد رحمه الله
ملاحظة : الدكتور رحمه الله لم يكن متخصصاً في علم الحديث ، ولهذا ربما يجد القارئ بعض الأحاديث غير الصحيحة .
خطيئة المذاهب : جريمة المذاهب في حق الإسلام
الباب الاول
الدين الخالص
ليس كل الدين خالصاً للّٰه بل أكثر المؤمنين باللّه هم في الحقيقة مشركون وهم لا يشعرون قال تعالي: ( ومايؤمن أكثرهم باللّٰه إلا وهم مشركون) والسبب في ذلك هو أنهم يباشرون أعمالاً هي عند اللّٰه شرك وهم لا يفقهون وفيما يلي تلك الأعمال المبطله للإِخلاص إذ الشرك نقيض الإِخلاص.
*ألوان من الشرك:*
1. من قال لا إله إلا اٌللّٰه محمد رسول اللّٰه ثم توسل بالموتى والأضرحة لقضاء حاجته فهو مشرك قطعاً رغم نطقه بالشهادتين قال تعالى : (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين) وقال تعالى ( أيُشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون ولا يستطيعون نصراً ولا أنفسهم ينصرون)
2. من صلّى وصام وحج البيت ثم اتبع في ذلك وفي غير ذلك شرائع من عند الله وشرائع من عند غير الله، شرائع ليست في كتاب الله ولا فى سنة رسوله، شرائع من عند البشر الوضاعين وهو يعلمها، فهو مشرك قطعاً رغم صلاته وصيامه وحجه لأنه جعل للّٰه شركاء يشرعون له كما يشرع الله له، قال تعالى: ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله، ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم، وإن الظالمين لهم عذاب أليم)
3. من أطاع الله في بعض ما أنزل من الأحكام وأطاع الفقهاء والعلماء والرؤساء فيما ابتدعوا من أحكام ليست في كتاب الله أو هي مخالفة لما أنزل الله، فقد عبد الله فيما أطاعه من أحكامه التى أنزلها، وعبد الآخرين فيما أطاعه من أحكامهم التى افتراها، فأشرك عبادة ربه بعبادة خلقه فهو مشرك قطعاً رغم عبادته وطاعته، والله تعالى لا يقبل أبدًا مَن يشرك بعبادته أحداً، قال تعالى 🙁 فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً)
4. من أطاع حزبه أو مذهبه أو فرقته أو ضيعته أو شيخه فى تحريم ماأحل الله أو في تحليل ما حرّم اللّه فقد عبد هؤلاء فأخذهم أربابا من دون اللّه فهو مشرك قطعاً رغم ظاهر عبادته لرب العالمين لأن طاعة الناس فيما يُحلون ويُحرمون على خلاف أمر اللّه هى عبادة لهم كما بين ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكما سنفصله فى باب ( عبادة اﻷحبار ) إن شاء الله وعبادة غير الله هي شرك باللّه لا خفاء فيه كذلك فعل اﻷقدمون عبدوا الله وعبدوا معه اﻷحبار ، عبدوا الله وعبدوا معه المسيح ابن مريم فلعنهم الله بقوله ( قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وماأمروا إلا ليعبدوا الها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )
5. من فارق الكتاب والسنة واتخذ لنفسه مذهباً يعكف عليه وﻻ يأتمر إلا بأوامره وﻻ يدين إﻻ بدينه وﻻ يتبع غير تعاليمه رغم مخالفته لما في الكتاب والسنة فقد انخلع عن الكتاب والسنة واتبع مذهبه الذي ارتضاه وانسلخ من آيات الله واتبع هواه وظلم نفسه بالتحول من الكمال إلى الضلال فضرب الله له أسوأ أمثال قال تعالي: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى اﻷرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون}.
هؤلاء الذين تركوا الكتاب والسنه وانحازوا إلى المذاهب هؤلاء شركهم أبشع من شرك غيرهم ﻷنهم ليسوا فقط عبدوا مع الله غيره بل هم قد فضلوا معبوداتهم على الله جل وعلا ذلك بأن تلك المذاهب تحرم ما أحل الله وتحل ماحرم الله فيطيعون المذاهب ويخالفون أمر الله فهؤﻻء مشركون أقبح الشرك بتفضيلهم عبادة المذاهب على عبادة الله وهؤلاء المتمذهبون الذين فرقوا دينهم شيعا سماهم الله مشركين قال تعالي(منيبين إليه واتقوه واقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون).
*يفعلون الشرك وينكرونه*
ليس إنكار الشرك دليلًا على عدم الشرك فقد كان مشركوا العرب ينفون الشرك رغم تمرغهم في حمأته ظهرآ لبطن كانوا يعبدون اﻷوثان وكانوا يستقسمون باﻷزلام يذبحون لها القرابين على النصب وكانوا يصلون لها وعندها صلاتهم المنكره مكاء وتصدية ثم يزعمون أنهم غير مشركين ويقولون في تلبيتهم (لبيك اللهم لبيك لبيك لاشريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وماملك) كانوا يفعلون الشرك ينكرون الشرك يمارسون الشرك بالأفعال وينكرونه بالأقوال.
وكذلك كل المشركين في كل زمان ومكان وكذلك كل العابدين لغير الله في كل زمان ومكان الجميع يستنكرون من الشرك الذى يزاولونه ومن عبادة غير الله التي يفترونها ولذلك فهم يسمونها بغير أسمائها تعمية على أنفسهم وتمويها على غيرهم يسمون الشرك بالله تقرباً إلى الله ويسمون عبادة غير الله توسلا وتبركا ، وهذا هو دأب العصاة والطغاة في كل حين هذه هي مغالطة المجرمين كما يسمى الزناة فواحشهم ترفيها وكما يسمى المقامرون ميسرهم يانصيبا وكما يسمى المغتصبون أموال الناس جرائمهم تأميماً وكما يسمون الرقص العاري حفلات إبتهاج وكما يسمون حصيلة الرجس والخنا بالتبرعات الخيرية وكما يسمون الخمر التقليدى شراب الكينا الحديدي وضروباً أخرى كثيرة من أمثال ذلك الإفك والزور .
وقديما سمى فرعون إفساده فى الأرض رشاداً وسمى الهدى الذي أنزل الله فساداً ولقد حكى القرآن الكريم تلك التسمية الكاذبة الخاطئة تلك التعمية الفاجرة والمفتريات الخاسرة بقوله تعالى: ﴿وما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} وبقوله تعالى: {وقال فرعون ذروني اقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد} سمى فرعون إجرامه رشاداً وسمى النور الذي أنزل الله على موسى فساداً فما برأت تلك الأكاذيب مجرماً، ولا زكت عند الله ظالماً.
ومن البديهي والطبيعى أن هذه الأسماء المنمقة والنعوت الكاذبة الملفقة وتلك الإدعاءات الباطلة والإتهامات الفاشلة لا ترد الباطل حقاً ولا تقلب الكذب صدقاً ولئن اغتر بها الطغاة المتجبرون وصفق لها الأذناب الناعقون فإنها لن تغنى عنهم من الله شيئاً {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. لقد حكى الله تعالى انكار المشركين عندما يُسألون عن شركهم يوم القيامة فإنهم يحلفون بالله ما كانوا مشركين قال تعالى:{ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ماكنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}.
ومن العجائب الرهيبة التي كشفها الله تعالى في فطرة هؤلاء المشركين بصائر للناس وقطعا للأمل في هداية من خُلق شقيا وكان للشيطان ولياً ، من تلك العجائب المذهلة أن خطيئة الشرك التي يخفيها المشركون بالحلف الكذب لا تنفك عنهم ابداً مهما انكروا ولا تفارقهم ابداً مهما رأوا من نكال ومهما شيبتهم الأهوال، لا يزايلهم الشرك ابداً حتى ولو ردوا إلى الدنيا بعد معاينة جهنم فقد أخبرنا الله تعالى أنهم لو ردوا إلى الدنيا بعد عرضهم على النار لكى يعبدوا الله غير مشركين لعادوا إلى الشرك مرة أخرى قال تعالى :{ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولانكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}.
وكذا المبطلون الظالمون إذا ووجهوا بما فعلوا يُسارعون في الإنكار والحلف يحلفون للناس في الدنيا ثم يحلفون لله يوم القيامة قال تعالى: {ويوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
وليس الإيمان مجرد دعوى باللسان قال تعالى: ﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} وليس الإيمان الذى يقبله الله تعالى هو الخليط الفاسد من الشرك والإيمان الذي سجله القرآن الكريم في قوله تعالى:{وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون} إنما الإيمان الذى يقبله الله تعالى هو الإيمان الذي كان من الشرك مطهراً ، هو إسلام الوجه لله محرراً، هو الدين الخالص قال تعالى:{قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين.}
يأبى الله عز وجل قبول أي إيمان فيه شائبة من شرك مهما عللها المشركون بأية علة أو برروها بأى قصد أو نية قال تعالى:{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار}.
*(حقيقة الدين الخالص)*
والدين الخالص هو ما أنزله الله فى كتابه، وما فصله نبيه بقوله وفعله ولاشيء غير ذلك البته، كل قول أو فعل في الدين ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله كائنا من كان قائله إنما هو شرك واعتداء، أو إفك وافتراء، إنما هو ضلالات عمياء، أو هو عبادة العلماء والفقهاء.
ليست هذه النعوت من عندنا إنما هي من كلام الله وكلام رسوله فاستمع إن شئت الى البيان الحاسم من كلام رب العالمين ومن قول رسوله الأمين.
1. من شرع للناس أية شرعة فى الدين ليست في كتاب الله ولا في سنة رسوله وإنما هي من عند نفسه فقد أقام نفسه شريكاً لله في التشريع للعباد ، الله تعالى يشرع للعباد ، وهو أيضا يشرع للعباد قال الله تعالى في هؤلاء:{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم} سمى الله الوضاعين الذين يضعون الشرائع للناس سماهم شركاء، وأتباعه هم مشركون، وما هذا بالدين الخالص الذي يرضاه الله بل هو دين الشرك والأثم العظيم.
2. من حرم برأي نفسه ما أحل الله أو أحل ما حرم الله فإنما هو مفتر على الله الكذب قال تعالى في هؤلاء {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم} فالله سمى التحليل والتحريم على خلاف أمر الله سمى ذلك افتراء الكذب على الله هؤلاء لا يفلحون وما هذا بالدين الخالص.
3. من أطاع رئيسه أو شيخه أو مذهبه في أمر مخالف لأمر الله ورسوله أو في شرعة من شرائع الدين لم يأذن بها الله سمى الله مثل هذا أنه عابد لرئيسه أو شيخه أو مذهبه من دون الله كما عبد الأقدمون أحبارهم ورهبانهم من دون الله قال تعالى في هؤلاء {قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} وعبادة غير الله شرك وما هذا بالدين الخالص.
4. من عمل في الدين شيئاً لم يكن يعمله رسول الله ولم يكن على عهد رسول الله الله فعمله بدعة مرفوضة وضلالة مردودة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ] وقال [ من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو ردّ ] وليست البدع ولا الضلالات من الدين الخالص.
5. من اشترط شرطاً في الدين ليس في كتاب الله فشرطه باطل قال عليه الصلاة والسلام [من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط ] والشرط الباطل في الدين هو أن تقول غير الحق على الله، وما هذا بالدين الخالص.
فمن إجترح شيئاً من تلك الموبقات الخمس فهو كما وصفه الله ورسوله إما ظالم مشرك أو مفتر على الله الكذب أو ضال مبتدع أو عابد للناس من دون الله قد ضيع دينه افراطاً أو تفريطاً وما ذلك بالدين الخالص.
الباب الثاني
( عباد الله المخلصون )
*أ – تعريف المخلصون*
عباد الله المخلصون هم الذين يعبدون الله مخلصين له الدين هم الذين يتبعون الدين الخالص الذي شرحناه في الباب السابق وجماع وصفهم وخلاصة القول فيهم هو أنهم الذين يعتصمون بالكتاب والسنة ولا يتبعون في دينهم أية شريعة ليست فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله وبالتالي لا ينتمون إلى أي مذهب أو فرقة أو حزب أو شيعة غير حزب الله المعتصمين بالله (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)
الأن هؤلاء جميعا لهم شرائعهم المفتراة على الله ورسوله المبتدعة بآرائهم وأهوائهم ، فاتباعهم معناه إنعدام الإخلاص في دين الله، معناه اجتراح الظلم والشرك والشقاق البعيد والوقوع في الهلاك الذي حذر منه الله ورسوله كما سنفصل ذلك تفصيلًا في الأبواب التالية إن شاء الله . ولكن عدم الانتماء إلى الفرق والشيع والمذاهب والأحزاب المختلفة ، وإن كان يفيد النجاة من عبادة الأحبار والرؤساء ويفيد السلامة من الشرائع المبتدعة والأحكام المصطنعة ويفيد البراءة من تفريق الدين شيعا وتقطيع الأمة زُبَراً إلا أنه لا يكفى لتأمين المرء المسلم من الزيغ والزلل في دينه، لا يكفى ذلك وحده لكي يحفظ الله عليه نعمة الإخلاص في الدين ويثبته على الهدى المستقيم لأن الخطايا التي وقعت فيها كل المذاهب والأحزاب إنما كانت بسبب الاختلاف في الكتاب ، فإذا ذهبت الأحزاب ، وبقى الاختلاف في الكتاب ، عادت فجيعة المذاهب سيرتها الأولى وانطلقت الدوامة في حلقة مفرغة عوداً على بدء فالإحتراز من الاختلاف في الكتاب هو الضمان الأول للإخلاص في الدين فيتعين على الناجين من مصيبة المذاهب أن يحترزوا أولًا وقبل كل شيىء من الإختلاف في الكتاب، حتى يسلم لهم إخلاص الدين ، ويتم لهم الاستمساك بالعروة الوثقى، والإعتصام بالله، والإهتداء إلى الصراط المستقيم.
الفرق والشيع والمذاهب والأحزاب قامت على الإختلاف في الكتاب وزادته سعيراً ، والمختلفون في الكتاب هالكون لا محالة هكذا قال الله وقال رسوله، والمُغَيِّرون في الدين يُساقون حتما الى النار، والمبدلون نعمة الله كفرًا أحلوا قومهم دار البوار، روى البخاري في صحيحه أحاديث كثيرة عن عديد من الصحابة عما سيقع للذين غيروا وبدلوا بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم ومثلها في صحيح مسلم قد بلغت حد التواتر المستفيض ، نذكر منها حديثين أحدهما عن أبي سعيد الخدرى والآخر عن أبي هريرة:
1 – عن أبي سعيد الخدري قال [ قال رسول الله ﷺ إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً.][ ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم فأقول إنهم منى فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سُحقاً سُحقاً لمن غير بعدى ].
٢ – عن أبي هريرة عن النبي الله صلي الله عليه وسلم أنه قال [ بينا أنا نائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم فقلت أين؟ قال الى النار والله، قلتُ وماشأنهم؟ قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ثم اذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلم قُلتُ أين؟ قال الى النار والله قلت ما شأنهم؟ قال إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النَّعم ]فعلى المسلمين الذين نجاهم الله من مصيبة المذاهب أن يتحصنوا من الخطر الأكبر الذي يتهددهم خطر الاختلاف في الكتاب وإن أعظم ما يقيهم هذا الخطر هو الاعتصام المطلق بالكتاب والسنة وعليهم أن يحذروا كل الحذر من الحكم في دين الله بالرأي ، لا ينبغي لأحد كائنا من كان أن يحكم في دین الله برأي نفسه ، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يقبل في الدين أى حكم بالرأي دون النص، أيا كان مصدر هذا الرأى كل ابن آدم خطاء ، والرأي في الدين كله أخطاء ، فمن اتبعه أوقعه في البلاء والشقاء لأنه خلاف الكتاب والسنة، وكل أمر من أمور الدين خالف الكتاب، فأنما هو في تباب قد فصلنا ذلك تفصيلاً في باب ( خطيئة الاختلاف).
*ب – طائفة ظاهرة*
لا يتراجع الفساد بل هو دائماً في إزدياد سنة الله التي قد خلت فى العباد ، كذلك أخبرنا الصادق المصدوق ﷺ بقوله [لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم ] وبقوله ﷺ [ بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ] وبقوله ﷺ [ لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ]
ومع إزدياد الفساد يتناقص الرشاد وتتفاحش أعداد الفجار ويتضاءل عدد الأبرار حتى لا يبقى في الناس إلا حثالة البشر، كل عتل جواظ مستكبر أولئك أهل النار قال ﷺ [ يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله باله ] ومع تناقص المتقين الصالحين وتزايد الغاوين المفسدين يُرفع العلم ويظهر الجهل ( علم الدين والمعاد لاعلم الدنيا والمعاش ) قال [ إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويثبت الجهل ويُشرب الخمر ويظهر الزنا]
إن هذا التدهور المتلاحق هو صفة عامة الزمان وهو صفة السواد الأكبر من الناس، ولكن ذلك لا ينفى ظهور فترات إصلاح تتخلل هذا التدهور الجارف كما أخبر بذلك النبي فقد روى البخاري في صحيحه عن حذيفة ابن اليمان قال [ كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال نعم .. قلتُ وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال نعم وفيه دخن؟ قلت وما دَخَنُه ؟ قال قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا، قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك] فهذا تدهور في الفساد، وتدهور في فترات الإصلاح التي تتخلله، فكل فساد يأتى يكون هو أبشع من الذى سبقه، وكل إصلاح يأتي هو أضعف من الذى سبقه ، ففترة الإصلاح التي جاء بها النبي كانت هي الذروة في الكمال البشري ، ثم فترة الإصلاح التي بعده فيها دخن، مصلحون يخلطون هدي الكتاب والسنة بهدي أنفسهم، فترى في أعمالهم معروفا كما ترى فيها منكراً، ثم بعد ذلك يعلو في الأرض أهل الشر دعاة على أبواب جهنم، وعند غلبة ذلك الشر الطاغي قد تجد وقد لا تجد جماعة من المسلمين لهم إمام إن وجدتها فالزمها، وإن لم تجدها فاعتزل جميع الفرق لأنهم دعاة على أبواب جهنم، وليس فيهم جماعة مسلمون ولا إمام مسلم اعتزلهم جميعا حتى يدركك الموت وأنت على ذلك مادامت لا توجد جماعة من المسلمين لهم إمام تتبعهم. أما إذا هداك الله إلى طائفة مؤمنة ظاهرة على الحق فقد وجب اللحاق بها وإتباعها وإجتناب جميع الفرق الأخرى الذين هم دعاة على أبواب جهنم، ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة أنه لاتزال طائفة منها ظاهرة على الحق إلى يوم القيامة فمن عرفها وجب عليه لزومها كما أمر النبي ﷺ، فهذه الطائفة التي تدعو الى الله بالحق وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هي الفائزة قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} وقال تعالى :{وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} وقيام تلك الطائفة الظاهرة على الحق إلى يوم القيامة قد تواترت به أصح الأحاديث تواترا مستفيضا عن عديد من الصحابة في البخاري ومسلم وعند أبي داود والترمذى وابن ماجة وأحمد ابن حنبل والدارمي نذكر فيما يلى بعض تلك الأحاديث التي في البخاري و مسلم :
1. عن المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ قال [ لا يزال ناس من أمتى ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ]
2. عن المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ قال [ لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ]
3. عن المغيرة بن شعبة عن النبيﷺ قال [ لا يزال قوم من أمتى ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله ]
4. عن المغيرة بن شعبة سمعت رسول الله ﷺ يقول [لن يزال قوم من أمتى ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ]
5. عن معاوية بن ابي سفيان قال سمعت النبي ﷺ يقول [لا يزال من أمتى أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك].
6. عن معاوية بن أبي سفيان قال سمعت النبي ﷺ يقول [من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما انا قاسم و الله يعطي ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتى أمر الله]
7. عن معاوية بن أبي سفيان سمعت النبي ﷺ يقول [لا يزال من أمتى أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من كذبهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك].
8. عن معاوية بن أبي سفيان سمعت النبي ﷺ يقول [من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة]
9. عن معاوية بن أبي سفيان سمعت النبي ﷺ يقول [لاتزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس]
10. عن ثوبان قال قال رسول الله ﷺ [ لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ]
11. عن جابر بن سمره عن النبي ﷺ قال [ لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة]
12. عن عقبة بن عامر سمعت رسول الله ﷺ يقول [لاتزال عصابة من أمتى يُقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ]
13. إن عبد الله بن عمرو بن العاص صدق على حديث عقبه لما سمعه منه ثم قال [ أجل ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفساً في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة ]
14. عن سعد بن أبي وقاص قال قال رسول الله ﷺ [ لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة ]
15. عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله ﷺ يقول [لاتزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ]
16. عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله ﷺ يقول [ لاتزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ]
وأما الأحاديث الواردة في غير الصحيحين فإنا نكتفى بالإشارة إلى مواضعها وهي هذه الطائفة الظاهرة التي تقطع الأحاديث المتواترة بأنها لا تزال قائمة إلى يوم القيامة، لا يخلو منها زمان، هؤلاء العباد المخلصون الذين يجاهدون في سبيل الله، وينافحون عن الحق قد وصفتهم الأحاديث بأنهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك، ووصفتهم بأنهم ظاهرون على الحق فلا يخفى أمرهم على أحد، نعم الصحب هؤلاء، هم خير ما يتمنى المؤمن من قرناء، فمن كان يطمع أن يكون عند الله من السعداء فليلحق بهذا الرهط من الخلصاء حيثما وجدهم ليكون معهم في الفردوس الأعلى قال تعالى:{ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} وقال تعالى: {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} فاستجيبوا لربكم أيها المؤمنون وكونوا مع الصادقين مع هذه الطائفة الظاهرة على الحق، وكونوا مع الصادقين مع هذه الطائفة الظاهرة على الحق.
*ج ـ اختيار القرين*
وعلى المسلمين أن يتعرفوا على عباد الله المخلصين على الطائفة الظاهرة على الحق ليكونوا مثلهم أعواناً على الحق استجابة لدعوة الله عز وجل، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}
فعلى المسلمين أن يتشبهوا بهم في الاستجابة لأمر الله ورسوله لكي يُحييهم الله في الدنيا والآخرة قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون}
وعلى هؤلاء المخلصين أن يتعرف بعضهم على بعض لما في ذلك من الأهمية القصوى في تطبيق الدين الخالص وقيام الأمة الأسلامية الصالحة فانّما كل فرد منهم لبنة ولا يقوم البناء إلا بترابط اللبنات.
ومن العلامات البارزة المميزة لعباد الله المخلصين:
• انهم لا يتخذون من دون الله أولياء ، انما وليهم الله وهو يتولى الصالحين قال تعالى: { أم إتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شيىء قدير}.
• وأنهم لا يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ، لانهم يوقنون أن أعظم العباد سلطانا أو مالا أو علما لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا قال الله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}
• وأنهم لا يتخذون الأحبار أربابا من دون الله، لا يطيعون في الدين أى عالم أو فقيه مهما علا قدره أو ظهر فضله وتحدثت به الركبان، بل يلزمونه الدليل على أي شيء يقوله في الدين، الدليل من كلام الله أو كلام رسوله فقط ، لا من أصول صانعى الأصول، ولا من زخرف القول ودق الطبول ولا من خبر كاذب أو حديث معلول.
• وأنهم لا يقرون منكراً ولا يداهنون جباراً ولا يتابعون ظالماً ولا يُحابون خاطئاً ولا يخافون في الله لومة لائم ، ويصدقون فيما يقولون ويهدون بالحق وبه يعدلون.
• وأنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه لا تكبلهم التقاليد ولا يعميهم التعصب العنيد، ولا يحجبهم الفهم البليد، بل تتسع قلوبهم للقول السديد وتنشرح صدورهم للنور الجديد، لا يفتي أحدهم بالظن وهما، ولا يدعى أنه أحاط بكل شيىء علما، بل يُخبت إلى الله ويقول رب زدني علماً.
قد جمع الله لهم رؤوس الفضائل في سورة الفرقان في اثنتي عشرة آية في آخر السورة من ٦٣ – ٧٤ كلهن نور وحبور ، فليرجع إليهن وليس قرين الخير فقط عونا على الخيرات ومرشداً للصالحات ، بل هو فوق ذلك بركة سابغة على من يجالسه قال تعالى للملائكة الذين رفعوا إليه ذكر أهل الذكر إني أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم فهذا غفر الله له لمجرد أنه جالس المخلصين وقال ﷺ [ مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يُحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة] فمصاحبة المخلصين دائما مأمولة الخير مأمونة الشر .
الباب الثالث
( عبادة الأحبار )
تعريف الأحبار
الأحبار هم علماء الأديان في كل زمان ومكان، كالربانيين والحاخامات فى بني اسرائيل والبابوات والكرادلة والقساوسة في النصارى ، والأئمة والفقهاء فى المسلمين ، وما شاكل ذلك في أهل الملل والأديان المختلفة
ونحن عندما نتكلم عن عبادة الأحبار لانخص ربانيين من قساوسة ، من فقهاء ، من كهان أو رهبان أو سدنة أوثان أو غير ذلك من رؤساء الأديان في أي ملة ومكان ، وإنما نعنى كل من كان له في الدين على الناس سلطان يشرع لهم من الدين مالم يأذن به الله ، ويحلل ويحرم بمحض رأيه على خلاف أمر الله فيُسمع له ويُطاع ، ويُحكم بما يُفتى أو يقضى، ولذلك فنحن رغبة منا في الإختصار ، وتجنبًا لكثير من التكرار سنشير إلى أي واحد من علماء أو رؤساء الأديان في أي أمة أو زمان ومكان بلفظ: الأحبار.
فعلماء الدين عند اليهود والنصارى أحبار، وعلماء الدين من المسلمين أحبار، والمجوس من عبدة النار أحبار، والصابئين عبدة النجوم أحبار ، والسيخ والبوذيين أحبار ، وللوثنيين أحبار ولعبدة الأبقار أحبار عند أممهم، ولهؤلاء الأحبار على اختلاف تسميتهم سلطان كبير على العوام وعلى كثير من الخواص، يتهافت الناس عليهم لاستفتائهم في شئون دينهم، ويتمسحون بهم رجاء استجابة الدعوات، والتماس البركات للأحياء منهم والأموات، وهذا شرك عريض لاريب فيه، وأكثر الأحبار يستغلون هذه المكانة المرموقة، للاستعلاء في الأرض ، ولإبتغاء العزة عند الحكام، ولإبتزاز أموال العوام قال تعالى: {يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}، ومن أجل ابتغاء العزة عند الحكام ، ومن اجل حماية أنفسهم من بطش الحكام، ومن أجل الاستكثار من ابتزاز العوام تراهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى، مسايرة لأهواء هؤلاء وهؤلاء ومحاذرة من إغضاب هؤلاء وهؤلاء، قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة وباعوا رضوان الله والجنة، من أجل دنيا فانية ومتاع قليل، قال تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون الا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} وقال تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون}.
ومن الأساليب المعروفة لدى جميع الأحبار قديما وحديثاً لتنفيذ خططهم، ونيل مآربهم إحاطة أنفسهم بهالة من القدسية والسحرية فتراهم ترمقهم العيون بأجلال مخبول ، وتقديس وثني جهول، وتراهم يغمغمون بالمبهم من الكلام، زيادة في التلبيس والإيهام قال تعالى: {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وماهو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وماهو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون}
وتراهم يدلسون الأخبار ويزيفون الأحكام ويرفعونها زوراً إلى الملك العلام، ليروجوا الأباطيل والأوهام، وينشروا الضلالات في حلكة الظلام، تلبيساً على من يغتر بهم ويصدقهم قال تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وَوَيْلٌ لهم مما يكسبون}
وتراهم إذا أحرجهم ذكي بشيء من السؤال الذي لا يملكون له ردا شافيا، وتفسيرًا مقنعًا تحصنوا بالأحاجي والألغاز ، وأسكنوه بدعوى تحريم السؤال في مثل هذا المقال وتراهم يخفون من الشرائع ما أنزل الله، ويفترون من الشرائع مالم يأذن به الله، يفترون ما تسوله لهم أنفسهم، ويزينه لهم الشيطان تمكيناً لسلطانهم وتحقيقاً لمآربهم
هؤلاء هم شرار الأحبار، هؤلاء هم أكلة النار، قال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار}
…*((سبب العبادة))*
وما أوقع عامة المسلمين في هذا الضلال، وساقهم إلى عبادة الأحبار إلا اعتقادهم الخاطىء أن الأحبار معصومون من الخطأ، وما أهلك المسلمين شيء مثلما أهلكهم تقديس الأئمة تقديساً وثنياً يمنعهم حتى من مجرد طلب الدليل على ما يشرعون ويحكمون وهذا عين الضلال إذ لا عصمة لأحد ولا حجة في الدين في قول أحد كائنا من كان دون رسول الله ﷺ
إن ما يقوله في الدين أى حبر من الأحبار غير مردود إلى الله والرسول هو كله خطأ وذلك من وجهين:
أولا: اذا كان ما قاله الحبر مطابقا لما أنزل الله وما بلغ الرسول، فهذا إذاً هو قول الله وتبليغ الرسول، وليس هو قول الحبر، انما الحبر ناقل أو مترجم وليس هو صانع الحكم أو الشرعة، وإنه لمن الكذب والتدليس أن يُنسب قول الله أو الرسول إلى أحد من الناس، فلا ينبغى أن يقال قال الفقيه أو المذهب كذا ولكن قال الله كذا أو قال رسول الله كذا وكذا
ثانياً: اذا كان ماقاله الحبر مخالفا لما أنزل الله وبلغ الرسل فهذا ليس خطأ فحسب بل هو شرك وظلم وافتراء الكذب على الله وعلى الرسول وابتداع مالم يأذن به الله وكفى به اثماً مبيناً
ففي الحالتين يكون قول الحبر خطأ اذا نسبه إلى نفسه أما اذا نسبه إلى الله والرسول فهو قول الله والرسول لاقول الحبر .
لا ينبغي لحبر أو مذهب أن يقول حكمنا في مسألة كذا هو كذا، بل يجب أن يُقال حكم الله فيها هو كذا، مع إيراد النصوص الدالة على صحة ذلك من كلام الله أو كلام رسوله فقط، لا من مصنفات الفقهاء الطافحة بالأخطاء لا ينبغى لأى انسان كائناً من كان أن يشرع من الدين برأيه شيئاً ولا يحرم ولا يحلل برأيه شيئاً، ولا يبتدع ولا يشترط برأيه شيئاً، كل ما يجب على الأحبار إنما هو البيان تعليماً وتفهيماً، لا تشريعاً بالرأى ولا تحليلاً ولا تحريماً ولا تعسفاً بالتأويل، ولا تحكماً في مراد الله ومراد رسوله بغير دليل، إنما عليهم شرح متن النصوص، والحذر كل الحذر من دس آرائهم وأهوائهم فى الشرائع ومن التقول على الله ورسوله، ومن اقتحام حمى التأويل، فقد قال عز وجل: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}
لقد كان يكفى عبدة الأحبار دليلاً على ما هم فيه من البوار أن ينظروا إلى اختلافات أحبارهم وتناقضاتهم التي طفحت بها الأسفار لكى يتبينوا أنهم على شفا جرف من النار، ذلك بأن الشرائع التي من عند الله لا اختلاف فيها البته، وانما الاختلاف هو في كل ما كان من عند غير الله قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}. فإذا قد رأوا رأى العين ذلك التناقض الفاحش في شرائع المذاهب والفقهاء فقد أيقنوا كل اليقين أن تلك التخاليط الفاسدة يستحيل أن تكون من عند الله، فما لنا ولهذا الركام الخبيث، ونور الهدى من كتاب الله وسنة رسوله بين أيدينا.
لقد ضربنا طائفة من الأمثال للإختلافات المذاهب والفقهاء في البابين الخامس والسادس من هذا الكتاب، وماتلك الأمثال إلا قطرة من بحر، وفى تلال مصنفات الفقهاء مزيد المستزيد وحسبك من شر سماعه {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}
*لاعصمة للأحبار*
إذا بعدت واستحالت العصمة من الأخطاء في الدين علي الأبرار الأتقياء من المؤمنين، فهى على غيرهم أشد بعداً واستحالة.
إن من أحمق الحماقات اعتقاد الغوغاء من العوام وغيرهم أن ما يسمونهم (أسيادنا العلما) معصومون من الخطأ في الدين، وأن كل ما يقولونه في الدين هو حق وصواب، قال الأحمقون هؤلاء أحبار المسلمين وأئمتهم والأئمة أطهار غير مدينين ! ! انظر كيف يُزكون أنفسهم وكفى به إثما مبينا بل هو اعتقاد فاشل، هذا عين الباطل، إن الله تعالى قد اخبرنا في القرآن الكريم عكس ذلك تماما، قال تعالى يصف عموم الأحبار {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} فهل للمبطلين الصادين عن سبيل الله من عصمة أيها الجاهلون ؟ ! صدق الله العظيم وكذب الخراصون وقال تعالى في أحبار اليهود {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين} وقال تعالى في أخبار النصارى {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون}.
وقال الملائكة للنبى فى أحبار المسلمين حين ينتزعون عن الحوض ويقول النبى ﷺ يارب أصحابي ، فيقال له إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فيقول ﷺ [ سُحقاً سُحقاً لمن غير بعدى ] فأى عصمة تجعلونها لهؤلاء ؟ !
وخلاصة ما تقدم هو أن أهم الأسباب التي حملت العوام على عبادة الأحبار وتقديس الأئمة هو :
1. الاعتقاد الضال في عصمتهم من الخطأ ولا عصمة في الدين لأحد كائناً من كان دون رسول الله ﷺ.
2. الجهل الكلى باختلافاتهم في الكتاب وتناقضاتهم في الشرائع والأحكام.
3. الغفلة التامة عن الوصف الفريد لشرائع الله عز وجل المنزلة في كتابه أو المنزلة على رسوله وحياً وهو أنها شرائع منزهة عين أي اختلاف أو تناقض.
4. الذهول المهلك عن شدة تحريم أي شرع في الدين إلا لله وحده عز وجل وعن شدة تحريم إفتراء الكذب على الله بتحليل أو تحريم برأى الناس، هذا الذهول الذي أزلف العوام الى قبول شرائع المذاهب المصطنعة.
*إنكار المجرم لا يبرئه*
ليس أحد من الذين يعبدون المذاهب أو الأحبار يعترف بأنه لهم عابد، بل يزعمون أنهم يعظمونهم فقط، وأنهم إنما يطيعونهم فيما يشرعون لهم من الدين وفيما يحلون لهم ويُحرمون، لأنهم يُصدقونهم فيما يقولون، ذلك قولهم بأفواهم، وقد كذبوا، كذّهم الله ورسوله قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} فهم بكلام الله عابدون للأحبار وكذبهم رسوله حيث بيّن أن طاعة الأحبار فيما يشرعون برأى أنفسهم هي عبادة لهم قال ﷺ: [فتلك عبادتهم] فهم ببيان رسول الله ﷺ عابدون للأحبار صدق الله ورسوله وكذب الجاحدون، وهلك المتنطعون.
كذلك الذين عبدوا الأولياء انكروا هذه العبادة فكذبهم الله زعموا أنهم إنما يتقربون بهم الى الله فكشف الله ضلالتهم وكذب مقالتهم قال تعالى:{والذين اتخذوا من دون الله أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ان الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ان الله لا يهدى من هو كاذب كفار}.
وكذلك المشركون الذين يعبدون الأوثان سيحلفون لله يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين قال تعالى:{ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤهم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ماكنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}
وكذلك الذين يوادون أعداء الله يحلفون للمسلمين ما فعلوا، ويوم القيامة يحلفون لله كذلك {يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون}
وكذلك كل مجرم حين يسأل عن ذنبه يلوذ بالانكار فما أخفى الانكار خطيئتهم، ولا أبطلت الأيمان عقوبتهم.
فعباد المذاهب والأحبار ينكرون تلك العبادة وما الإنكار بمزحزحهم من العذاب، إلا أن يتداركوا أنفسهم بالمتاب، من قبل أن يواريهم التراب.
فيا عبدة المذاهب والأحبار انسلخوا من تلك العبادة، ولا تتخذوا من الضلال وسادة، قد وصلنا لكم القول لعلكم تذكرون، وأعْذَرْنَا إلى الله مما تصنعون، جُفت الأقلام، وطويت الصحف.
*صراط حوله سبل*
قد وضع الله صراطاً مستقيما سويا قويماً لاعوج له يهدي الى الجنة ، وأقام رُسُلَه على هذا الصراط، يدعون الناس إليه، وحول الصراط سبل ملتوية، تهدي إلى النار ، قام الشياطين على رؤوسها، يدعون الناس اليها من أجابهم اليها قذفوه فيها.
روى ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه [خط خطاً ثم قال هذا سبيل الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه ثم تلا هذه الآية وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ] والرسول ﷺ واتباعه المؤمنون يدعون إلى الصراط المستقيم على بصيرة من ربهم قال تعالى: {قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}.
الله تبارك وتعالى أمر باتباع سبيل واحد هو صراطه المستقيم ونهى عن اتباع السبل الأخرى التي تفرقت عن سبيله، فالرسول وصالح المؤمنين يدعون إلى هذا الصراط المستقيم، والفِرَقُ والشيع والمذاهب والأحزاب الذين اختلفوا في الكتاب، وتفرقوا عن الصواب، يدعون الى سبل متفرقة، كل منهم معجب بخطته، ويدعو الى طريقته قال تعالى فيهم {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين}.
خير الأمور الوسط، لاغلو فيها ولا شطط، والمؤمنون هم أوسط الناس وهم خير الناس قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}
فالمعتصمون بالكتاب والسنة وحدهما هم أصحاب الصراط المستقيم، لما اعتصموا بالله هداهم صراطه المستقيم {ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم} أما المعتصمون بشرائع الوضاعين، وتفانين المصنفين، المعتصمون بالشرنبلاليه والخانية والوهبانية والمجتبى وزيلعي و قهستانی وجوهرة ونهر وبحر ومحيط، وأسفار من جنس ذلك، هم في متاهة الضياع والتفريط يستنبطون منها الأحكام ويردون اليها الشرائع، فهؤلاء في غمرة ساهون، وفي غيهم يعمهون، هؤلاء قد دلجوا فى ظلام حالك، وتفرقت بهم المسالك ولا يهلك على الله إلا هالك.
*تخاصم أهل النار*
أجل يوم القيامة لا أنساب ولا أحزاب ولا أصحاب، قد تقطعت بهم الأسباب من كانت حجته دفاعاً عن خطيئته مظاهرة الأنساب أو مؤازرة الأصحاب أو متابعة الأحزاب فحجته سراب، وهو في تباب .
قال تعالى في الأنساب {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} وقال تعالى في الأحزاب {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين} وقال تعالى في الأصحاب {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}.
فالاعتداد بالمذاهب والأحزاب، والاغترار بالأنساب والأصحاب كل ذلك يتلاشى يوم الحساب ويستحيل حسرة وندامة، وعباد الأحبار يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم ببعض، ويسألون الله مضاعفة العذاب لبعضهم البعض ويتهم كل فريق الآخر أنه هو السبب فى الضلال والنكال، يندمون على مافات وتذهب أنفسهم حسرات، يوم لا رجعة ولا إفلات.
قال تعالى: {فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون} وقال تعالى {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وماهم بخارجين من النار}
وقال تعالى {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا أتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً}.
وقال تعالى {مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار ومالكم من ناصرين}
وقال تعالى {حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}
فهذه صور شتى من تخاصم أهل النار، وأمثال ذلك في القرآن العظيم كثير، يقطع عن التابعين والمتبوعين جميع العلل، ولا يدع لعباد المذاهب أدنى أمل.
فيا عباد المذاهب والأحبار، قد حذركم الله دار البوار وأسمعكم تخاصم أهل النار، فأنقذوا أنفسكم قبل أن ينقلب الحوار الى جوار {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين، ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين}
يا عباد المذاهب والأحبار، أحباركم اليوم أعداؤكم غداً. يا عباد المذاهب والأحبار لا يشرعن لكم حبر من الأحبار، الشرع كله لله الواحد القهار.
*الدرك الأسفل*
إن من أعجب ضحايا الضلال، أنك تجد الرجل الرشيد المتدين مكبا على وجهه في عماية المذهب، يسمع ويطيع لكل ما يلقى إليه، من حكم فاسد، وقول ضال مخالف للكتاب والسنة، لا يكلف نفسه حتى مؤونة السؤال عن الدليل نصا من محكم التنزيل او حديثا صحيحاً من قول الرسول بل استسلم للتضليل ورضى أن يكون إمعَةً من التابعين، ووليا للمذهب في زمرة العابدين هذا هو الضلال المبين يسمع أمثلة اختلافاتهم في الكتاب ويسمع قول الله {إن الذين اختلفوا في الكتاب لفى شقاق بعيد}، وتتلى عليه آيات الوعيد الشديد فيغمض عينيه، ويُصم أذنيه، ويظل عاكفاً على الخلاف الشديد والشقاق البعيد ! ! ! ما كنت أتصور أن يستحيل الرجل الرشيد إلى خصم لنفسه عنيد ليس في الضلالات أحط من تلك الدركات، قال تعالى: {من أضل ممن هو في شقاق بعيد} وليس في تنطع العقول أسفل من هذا الدرك قال ﷺ [ هلك المتنطعون ] قالها ثلاثا.
الباب الرابع
( لا عصمة لأحد دون رسول الله )
(اثبات عصمة الرسول)
رسول الله لا كسائر الرسل من قبله ، هو وحده المعصوم من الخطأ في كل ما يبلغ عن ربه
قال تعالى (( والنجم اذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى)) أقسم رب العرش العظيم لينفى عن رسوله الضلال والغي والنطق عن الهوى ، نفى عنه كل ذلك وأثبت أن كل ما يقوله في الدين ، هو بوحي من رب العالمين ، وبذلك نفى كل خطأ أو ضلال وأثبت له الحق والهدى والصواب والرشد ، وتلك هي الذروة في العصمة والنهاية في الكمال
وقال تعالى ((ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من احد عنه حاجزين ))اثبت الله تعالى استحالة أن يقول رسوله عليه مالم يقل وإلا يفعل به كذا وكذا ، وليس اقطع من هذا البيان الآلهي في عصمة رسول الدين أدنى خطأ ، في شرائع الدين ، وأن كل ما يقوله في الدين هو الحق المطلق الذى لا يشوبه أدنى خطأ وقال تعالى (( وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين )) أثبت الله تعالى الهدى في طاعة الرسول ، ولو كان فيما يقوله في الدين أدني الخطأ لما كان في طاعته هدى ، لأن اتباع الخطأ ليس بهدى ،وقال تعالي (( ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً )) جعل الله تعالى طاعة رسوله من طاعته ، ومن يطع الله فهو معصوم من الخطأ قطعاً في الأمر الذي أطاع فيه وقال تعالى ﴿ وَما آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذوهُ وَما نَهاكُم عَنهُ فَانتَهوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ﴾ [الحشر: ٧]
ومن المستحيل أن يأمر الله عز وجل باتباع الخطأ ، فهذا قاطع في عصمته من أي خطأ فثبتت بذلك العصمة الكاملة لرسول الله في كل ما يبلغ عن ربه
– نفى العصمة عن غير الرسول :
قال تعالى ﴿وَلَيسَ عَلَيكُم جُناحٌ فيما أَخطَأتُم بِهِ وَلكِن ما تَعَمَّدَت قُلوبُكُم وَكانَ اللَّهُ غَفورًا رَحيمًا﴾ [الأحزاب: ٥]
فيما أخطأتم به ولكن تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما
فهذا إثبات للخطأ كصفة لازمة لبنى آدم رفع الله الجناح عنها برحمته ومغفرته وقال تعالى ((ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )) فهذا اثبات للخطأ والنسيان كصفات فطرية في الانسان لقننا الله تعالى صيغة الاستغفار والاسترحام منها لكى يغفر لنا ويرحمنا .
فثبت من كل ذلك إنعدام العصمة من الخطأ عن غير رسول الله .
حتمية الاعتصام بالكتاب والسنة وحدهما :
فاذا كانت العصمة في أمور الدين قد ثبتت ثبوتاً قاطعاً لرسول الله وحده دون سواه ، واذا كان انعدام العصمة من الخطأ قد ثبت ثبوتا قاطعا لكل إنسان آخر دون رسول الله ، فقد أصبح فرضا لازماً وحتما واجباً على كل مسلم ينشد الهدى ، ويلتمس الرشاد ألا يتبع في دينه إلا ماجاء على لسان النبي الكريم المبلغ عن ربه ، سواء كان ذلك من القرآن الكريم الذي نزله الله على قلبه ، أو كان من الأحاديث المتيقنة الصحة ، لأن رسول الله لا يتحدث بها من عند نفسه ، ولكن بوحي يوحى اليه من ربه فهذا هو الاعتصام الحق بالله ، هذا هو الطريق الوحيد للهدى الذي لا يخالطه ضلال لأن القرآن منزل من عند الله ، والحديث بوحي من الله ، فالكل من عند الله ، وبذا يكون الاعتصام بالكتاب والسنة وحدهما هو عين الاعتصام بالله الذي أراده الله تعالى بقوله (( ومن يعتصم بالله فقد هُدِى الى صراط مستقيم )) وكذلك أصبح لزاما وحتماً محتوماً على كل مسلم يريد أن يسلم من الباطل وينجو من الضلال ألا يتبع في دينه قول أو فعل أي إنسان آخر غير رسول الله … كائناً من كان ذلك الأنسان ، ولو طارت بذكره الآفاق ، ولو تمدح الناس بعلمه بالعشى والأشراق ، فانما هو بشر يعتريه الوهم والسهو والخطأ والنسيان ، ولا ينبغي في شرائع الدين وهم ولا خطأ ولانسيان ، الدين هو الحق ، والخطأ هو الضلال قال تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأني تصرفون .
– مراتب الكمال :
الفضل درجات ، أعلاها في البشر هي للأنبياء والرسل عليهم السلام ومن دونها درجات الصديقين والشهداء والصالحين ، وكلها في الذروة من السمو ، ومما لاشك فيه أن أفضل الناس بعد الأنبياء هم أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار
وقال رسول الله [ خير القرون قرني ثم الذي يلى ثم الذى يلى ] ومع ذلك لم تمنعهم تلك المكانة العالية من الخطأ في الدين عندما يتكلمون برأى أنفسهم دون النصوص ، ومن البديهى أنه لا يحل اتباع الشرائع الخاطئة ، كائنا من كان قائلها حتى ولو كانوا من الصحابة رضوان الله عليهم
ربما توهم الجهال قليلو العلم بالدين من العوام أو الخواص ، استحالة خطأ الصحابة في الدين ، وهذا جهل مطبق يفضى بالضرورة إلى ضلال بعيد إذ أنه يؤدى إلى اتباع الأخطاء في الدين ، استنادا إلى صدورها من الصحابة الأكرمين .
فلکی نزيل هذه الغشاوة عن أعين الكثيرين ، سنسوق فيما يلى طائفة من أخطاء الصحابة رضوان الله عليهم في بعض شرائع الدين وليس بضائرهم صدور بعض تلك الأخطاء عنهم لأنهم بشر غير معصومين ، ليس الخطأ بنائل شيئاً من مكانتهم العالية ، ولاهو بموجب عليهم ذنباً أو إثماً ، إذ قد سبقت لهم الحسنى من رب العالمين
قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذينَ سَبَقَت لَهُم مِنَّا الحُسنى أُولئِكَ عَنها مُبعَدونَلا يَسمَعونَ حَسيسَها وَهُم في مَا اشتَهَت أَنفُسُهُم خالِدونَلا يَحزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ المَلائِكَةُ هذا يَومُكُمُ الَّذي كُنتُم توعَدونَ﴾ [الأنبياء: ١٠١-١٠٣]
وهؤلاء ذنوبهم السابقة واللاحقة مغفورة لأنهم بدريون ، ولقد قال رسول الله [ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم أو فقد وجبت لكم الجنة ] ثم إن رضوان الله تعالى قد تنزل عليهم يوم بيعة الرضوان فلا يغادرهم أبدا ..
قال تعالى ((لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريبا ))
ولكن ليس معنى ذلك أنهم لا يخطئون ، ولا أن الخطأ في شرائع الدين يعمل به إذا قاله الصحابي، فلا يذهبن منتطع جاهل إلى تقرير العصمة في الدين لغير الأنبياء، أو إلى جواز العمل في الدين بالأخطاء، لمجرد صدورها من العظماء.
والأخطاء التي نسوقها في البابين ٥،٦ ليست للتشهير بأي حال من الأحوال، بل ولا ينبغي أن يُفهم منها أدنى نقص في محبة وإجلال أصحاب رسول الله ﷺ، لكن المقصد الأسمى من سوق تلك الأخطاء إنما هو ترسيخ هاتين القاعدتين المبدئيتين في صرح الفقه الإسلامي، وتمكين ذلك الحق الشامخ في نفوس المسلمين، وهما:
أولاً: لا حجة في الدين في قول أو فعل أحد كائناً من كان دون رسول الله ﷺ.
ثانيًا: المصدران الوحيدان لجميع شرائع الإسلام هما الكتاب والسنة وحدهما دون سواهما./
وإنما سقنا الحديث عن مراتب الكمال لكي نؤكد مرة أخرى أنه لا عصمة من الخطأ في الدين لأحد غير الرسل، حتى ولو بلغ ذروة الكمال، فالذين يزعمون العصمة للمذاهب والأحزاب إنما يحثون على رؤوسهم التراب، لا هم بلغوا العتاب، ولا هم سلموا من العذاب.
الباب الخامس
( طائفة من الأخطاء )
((هذه نماذج رمزية لأخطاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم ليست للاحاطة أو الاحصاء إنما هي كلمة من خطاب))
((والأخطاء التي نسوقها في البابين ٥،٦ ليست للتشهير بأي حال من الأحوال، بل ولا ينبغي أن يُفهم منها أدنى نقص في محبة وإجلال أصحاب رسول الله ﷺ، لكن المقصد الأسمى من سوق تلك الأخطاء إنما هو ترسيخ هاتين القاعدتين المبدئيتين في صرح الفقه الإسلامي، وتمكين ذلك الحق الشامخ في نفوس المسلمين، وهما:
أولاً: لا حجة في الدين في قول أو فعل أحد كائناً من كان دون رسول الله ﷺ.
ثانيًا: المصدران الوحيدان لجميع شرائع الإسلام هما الكتاب والسنة وحدهما دون سواهما.)) راجع الباب الرابع مراتب الكمال
1 – أخطأ عمر وعثمان في النهي عن التمتع بالعمرة مع الحج .
رغم أن الله تعالى قد فرضها في القرآن الكريم ، ورغم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بها أمراً جازماً لازماً إلى يوم القيامة ، وقد عارضهما في ذلك من الصحابة كل من على ابن أبي طالب وابن عباس وأبي موسى الأشعرى و عمران ابن حصين وجابر ابن عبد الله ، فهذا نهى باطل و خاطىء لاشك فيه لا يعمل به ولا يحتج به
قال تعالى :
((وأتموا الحج والعمرة الله ))
وروى البخاري في صحيحه عن جابر إبن عبد الله قال : أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البُدْن معه وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم أحِلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالاً حتى اذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج ! فقال إفعلوا ما أمرتكم ولولا أنى سقت الهدىَ لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل منى حرام حتى يبلغ الهدى محله ففعلوا ..
وروى مسلم في صحيحه عن جابر ابن عبد الله ( قال رسول الله ﷺ قد علمتم أني أتقاكم الله وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون ولو استقبلتُ من أمرى ما استدبرت لم أسق الهَدىَ فحِلوا فحللنا
وسمعنا وأطعنا )
وروى مسلم عن سراقة ابن مالك ابن جعشم في حديث جابر ابن عبد الله الطويل عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من الهجرة ( …. حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال : لو أنى استقبلتُ من أمرى ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة ابن مالك ابن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد فشبك رسول الله أصابعه واحدةً في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين » لا بل لأبد أبد )
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال : ( أمرنا النبي أن نحل قال أحلوا وأصيبوا النساء فقلنا لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نُفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مَذَاكِبُرُنَا المنى يقول جابر بيده يُحركها فقام النبي ﷺ فقال قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هديى لحللت كما تحلون ولو استقبلتُ من أمرى ما استدبرت لم أسق الهدى فحلّوا فحللنا وسمعنا وأطعنا )
فهذه أوامر حاسمة جازمة من القرآن الكريم ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب العمرة مع الحج لأبد أبد واستمع بعد ذلك إلى
النهى الخاطيء عن جمع العمرة مع الحج .
روى مسلم في صحيحه أن أبا موسى الأشعرى كان يفتى بالمتعة فقال رجل رويدك ببعض فتياك فأنك لا تدرى ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد حتى لقيه بعد فسأله فقال عمر ( قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج )
وروى مسلم عن مطرف قال .. قال لي عمران إبن حصين إني لأحدثك الحديث اليوم فينفعك الله به بعد اليوم واعلم أن رسول الله قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتى مضى لوجهه ارتأى
رجل برأيه ماشاء يعنى عمر )
وروى مسلم عن عمران إبن حصين قال : ( نزلت آية المتعة فى كتاب الله “(يعنى متعة الحج)” ، وأمرنا بها رسول الله لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله حتى مات قال رجل بَعْدُ برأيه ماشاء )
وروى مسلم عن سعيد ابن المسيب قال ( احتج على وعثمان بعسفان فكان عثمان يَنْهَى عن المتعة في العمرة فقال على ماتريد إلى أمر فعله رسول الله تَنْهَى عنه فقال عثمان دعنا منك فقال إني لا أستطيع أن أدعك فلما أن رأى عليٌ ذلك أهل بهما جميعا )
وروى البخاري في صحيحه عن مروان ابن الحكم قال : ( شهدت عثمان وعلياً رضي الله عنهما وعثمان ينهي عن المتعة وأن يجمع بينها فلما رأى علىّ أهل بهما لبيك بعمرة وحج قال ماكنت لأدع سنة النبي لقول أحد )
وروى البخاري في صحيحه عن نصر ابن عمران قال : ( تمتعت فنهاني ناس فسألت ابن عباس فأمرني فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي حج مبرور وعمرة متقبلة )
فها هنا نهى عمر وعثمان عن التمتع بالعمرة إلى الحج بمحض رأيهما على خلاف القرآن الكريم وخلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحاسم الجازم في صلى الله الصحيحين من رواية الصحابة الذين ذكرنا وخالفهما على ابن أبى طالب وابن عباس وأبو موسى الأشعرى وعمران إبن حصين وجابر ابن عبد الله وآخرون فاعتذار عمر عن مخالفة أمر الله وأمر رسوله بأنه كره أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج هذا عذر غير جائز لأنه ما كان ينبغى له أن يكره شيئاً أحله الله وأمر به رسوله قال ( واصيبوا النساء ) وقد سبقه إلى هذا العذر غير المقبول نفر من الصحابة قالوا : ( نأتى عرفة تقطر مذاكيرنا المني )ولئن ظن المعتذرون أن الأمساك عن الحلال عفة ف رسول الله صلى الله عليه وسلم أعف وأطهر من الناس جميعا ولقد زجرهم النبي عن هذا العذر غير اللائق بأصدق رد قال : ( قد علمتم أني أتقاكم الله وأصدقكم وأبركم ففعلوا وسمعوا وأطاعوا ) فهذا ولئن نهى خاطىء بكل تأكيد لا يعمل به ولا يحتج به .
-2- أخطأ على إبن أبي طالب وإبن عمر في النهي عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث .
إذ لم تبلغهما الاباحة بعد النهي فهذا نهى خاطيء دون شك لا يعمل به ولا يحتج به بل الحكم هو الاباحة .
روى مسلم في صحيحه عن أبي عبيد مولى أزهر أنه شهد العيد مع عمر ابن الخطاب قال ثم صليت مع على ابن ابى طالب قال فصلى لنا قبل الخطبة ثم
خطب الناس فقال : ( إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا )
وروى مسلم عن ابن عمر عن النبي أنه قال : ( لا يأكل أحدٌ من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام قال سالم فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث )
وروى البخاري في صحيحه ( خطب على ابن أبي طالب الناس فقال إن رسول الله له نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث )
فهذا أمير المؤمنين على إبن أبي طالب وعبد الله إبن عمر رضي الله عنهم بعد قرابة ثلاثين عاماً من وفاة النبي صلي الله عليه وسلم ينهون الناس عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث إذ قد بلغهم النهي ولم تبلغهم الإباحة كما في الأحاديث التالية .
-روى البخاري في صحيحه عن سلمه ابن الأكوع قال .. قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من ضحى منكم فلا يُصبحن بعد ثالثة وبقي في بيته منه شيئاً فلما كانوا العام المقبل .. قالوا يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي قال كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذاك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها ) ‘
وروى في صحيحه عن عبد الرحمن عن إبن عابس عن أبيه ( قلت لعائشة أنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤكل لحوم الأضاحى فوق ثلاث ؟ قالت ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه فأراد أن يطعم الغنى الفقير وإن كنا لنرفع الكراع ونأكله بعد خمسة عشرة )
وروى مسلم في صحيحه عن عَمْرَةَ فقال سمعت عائشة تقول ( دَفَّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله فقال له ادخروا ثلاثاً صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله ادخروا ثلاثاً ثم تصدقوا ما بقى فلما كان بعد ذلك قالوا يارسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك فقال رسول الله الله وماذاك ؟ ! قالوا نهيتنا أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث فقال إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا )
–
فنهى على إبن أبي طالب وإبن عمر رضي الله عنهم عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث هو نهى خاطيء بكل تأكيد إذ لم تبلغهما الاباحة بعد النهى فلا يعمل بالنهي ولا يحتج به
٣- وأخطأ إبن عباس في الحكم أن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هو أبعد الأجلين .
أى أربعة أشهر وعشرا أو وضع حملها أيهما أبعد وذلك حكم برأيه مخالف للنص في القرآن الكريم ورده إلى الصواب كل من أم سلمة أم المؤمنين وأبو هريرة وعبد الله ابن مسعود والصواب هو أن أجلها ( أى إنقضاء عدتها ) هو أن تضع حملها قرب ذلك أو بعُد كما نبين ذلك فى النصوص القطعية الثبوت التالية :
روى البخاري في صحيحه قال أخبرني أبو سلمة قال : ( جاء رجل إلى إبن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال أفتني في أمرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس آخر الأجلين قلت
” وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ” ،
قال أبو هريرة أنا مع ابن أخى يعنى أبا سلمة فارسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها فقلت قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلي الله عليه وسلم كان أبو السنابل فيمن خطبها ) .
و روى في صحيحه عن محمد إبن سيرين قال لقيت أبا عطية مالك ابن عامر فسألته فذهب يحدثني حديث سبيعة فقال هل سمعت عن عبد الله فيها شيئاً وقال كنا عند عبد الله فقال أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة ؟
فنزلت سورة النساء القصري بعد الطولى (( وأولات الأحمال أجهلهن أن يضعن حملهن ) )
فهذه الفتوى من ابن عباس هي حكم خاطيء بكل تأكيد لا يعمل بها ولا يُحتج بها الحكم للنص دون الرأى
٤ – وأخطأ أبو هريرة في النهي عن صوم رمضان لمن أدركه الفجر جُنُبا
وهذا حكم بالرأى خاطىء فرده إلى الصواب كل من أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة كما يتبين من الأحاديث التالية .
روى مسلم عن أبي بكر ابن عبد الرحمن قال سمعت أبا هريرة يقول ) من أدركه الفجر جنباً فلا يصم ) .
وروى مسلم عن عائشة قالت ( كان رسول الله يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم )
– وروى مسلم عن أم سلمة قالت ( كان رسول الله يُصبح جنباً من جماع لا من حلم ثم لا يفطر ولا يقضى )
فنهى أبى هريرة عن الصوم لمن أدركه الفجر جنباً هو حكم بالرأى خاطىء لمعارضته النصوص القطعية الثبوت فلا يُعمل به ولا يحتج به
٥- وأخطأ أبو ذر في حكمه أن متعة الحج ومتعة النساء لا تصلح إلا للصحابة فقط وذلك لمعارضته للنصوص القطعية الثبوت في القرآن وفي السنة أما متعة الحج ( أى متعة العمرة مع الحج ) فقد أوجبها القرآن الكريم والأحاديث ( فى الصحيحين وغيرهما ) على جميع الحجاج إلى يوم القيامة فهي ليست صالحة الجميع الناس فحسب بل هي واجبة وجوباً قال له ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة لأبد أبد )
وأما متعة النساء فهي محرمة على جميع الناس ( الصحابة وغير الصحابة ) إلى يوم القيامة لا كما توهم أبو ذر رضى الله عنه بقوله ( لا تصلح إلا لنا خاصة ) فقول أبي ذر عن متعة النساء ( إنها لا تصلح إلا لنا خاصة ) هو خطأ شديد قد أحل حراماً شديد لتحريم وهو لا يشعر وقوله عن متعة الحج هي لنا خاصة هو تخصيص خاطىء على خلاف النصوص بل هي واجبةعلى كل حاج كما أسلفنا فقوله لا يحتج به ولا يعمل به .
روى مسلم عن أبي ذر قال ( لا تصلح المتعتان إلا لنا
خاصة يعنى متعة النساء ومتعة الحج ) .
روى البخاري في صحيحه عن محمد ابن الحنفية أن علياً رضى الله عنه قال لابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر )
وروى مسلم عن سبرة ابن معبد الجهني قال إنه كان مع رسول الله ﷺ فقال أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيئاً فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً )
فحكم أبي ذر في متعة النساء ومتعة الحج هو حكم خاطيء لا يحتج به ولا يعمل به.
٦ – وأخطأ إبن مسعود في حكمه بجعل المأمومين عن
يمين الامام ويساره .
وذلك لمخالفة النصوص القطعية الثبوت التي تقضى بجعلهما خلف الامام كما سيأتي .
روى مسلم عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله ابن مسعود قال ( فقوموا فصلوا فجعل أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله )
– وروى البخاري في صحيحه عن أنس ابن مالك قال (صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمى – أم سليم خلفنا )
ففعل ابن مسعود بجعل المأمومين عن يمين الإمام وشماله هو فعل خاطيء لا يحتج به ولا يعمل به .
– أخطأ أنس ابن مالك في قوله إن رسول الله ﷺ طرح خاتما من فضة .
هذا وهم خاطىء منه توهم أن أن النبي الله قد حرم خواتيم الفضة على الرجال وهذا خطأ بل الصواب في القصه هو أنه طرح خاتما له من ذهب كان اتخذه فطرح الناس خواتيم الذهب ثم الأحاديث متواترة في تحريم لبس الذهب على الرجال لا لبس الفضة فهذا حكم خاطىء لا يحتج به ولا يعمل به .
روى البخاري في صحيحه عن أنس ابن مالك ( أنه رأى في يد رسول الله الله خاتما من ورق يوما واحداً ثم إن الناس اصطنعوا خواتيم من ورق ولبسوها فطرح رسول الله الله خاتمه فطرح الناس خواتيمهم ) ٢
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر ( أن رسول الله الله اتخذ خاتما من ذهب وجعل فصه مما يلى كفه فاتخذه الناس فرمی به واتخذ خاتما من ورق أو فضة )
–
وروى البخاري في صحيحه عن أنس ابن مالك قال (صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأمى – أم سليم خلفنا )
ففعل ابن مسعود بجعل المأمومين عن يمين الإمام وشماله هو فعل خاطيء لا يحتج به ولا يعمل به .
– أخطأ أنس ابن مالك في قوله إن رسول الله ﷺ طرح خاتما من فضة .
هذا وهم خاطىء منه توهم أن أن النبي الله قد حرم خواتيم الفضة على الرجال وهذا خطأ بل الصواب في القصه هو أنه طرح خاتما له من ذهب كان اتخذه فطرح الناس خواتيم الذهب ثم الأحاديث متواترة في تحريم لبس الذهب على الرجال لا لبس الفضة فهذا حكم خاطىء لا يحتج به ولا يعمل به .
روى البخاري في صحيحه عن أنس ابن مالك ( أنه رأى في يد رسول الله الله خاتما من ورق يوما واحداً ثم إن الناس اصطنعوا خواتيم من ورق ولبسوها فطرح رسول الله الله خاتمه فطرح الناس خواتيمهم ) ٢
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر ( أن رسول الله الله اتخذ خاتما من ذهب وجعل فصه مما يلى كفه فاتخذه الناس فرمی به واتخذ خاتما من ورق أو فضة )
-وروى مسلم عن ابن عمر ( أن رسول الله ﷺ اصطنع خاتما من ذهب فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه فصنع الناس ثم إنه جلس على المنبر فنزعه فقال إنى كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصّه من داخل فرمى به ثم قال والله لا ألبسه أبداً فنبذ الناس خواتيمهم ) ‘
فالفتوى بتحريم خواتيم الفضة على الرجال هي فتوى باطلة مبنية على وهم خاطىء فلا يعمل بها ولا يحتج بها
* *
هذه نماذج رمزية لأخطاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم ليست للاحاطة أو الاحصاء إنما هي كلمة من خطاب ، وصفحة من كتاب ، ذكرى الأولى الألباب ، الذين تغنيهم الاشارة عن الاطناب ، إنما أردنا أن نثبت أنه لاعصمة لأحد من الأخطاء دون الرسل والأنبياء فيما يبلغون عن ربهم عز وجل وإنه من أجل ذلك يصير من الحماقة والضلال أخذ أى شرعة من شرائع الأديان عن غير الرسل والأنبياء.
فالصحابة وهم أفضل الناس بعد الرسل والأنبياء ليس قولهم ولا فعلهم حجة في الدين لأنهم يخطئون
كما يخطىء غيرهم كما أثبتنا آنفا والدين لا يؤخذ من أى مصدر يحتمل الخطأ ، كل حكم أو شرع يحتمل الخطأ إنما هو ظنين ، والدين هو عين اليقين ، فلا
حجة في قول أو فعل أحد كائناً من كان دون رسول
الله صلى الله عليه وسلم
أما من دون الصحابة من التابعين وسائر الأئمة وفقهاء المسلمين فهؤلاء أخطاؤهم في الدين فاشية فشوا ذريعاً لاتكاد تمر مسألة من مسائل الدين إلا ولهم فيها تناقضات وإختلافات تصل إلى حد تحليل الحرام أو تحريم الحلال أو شرع مالم يأذن به الله أو ابتداع مالم يفعله رسول الله ، ونحن نسرد فيما يلى أمثلة من تلك التناقضات والاختلافات التي لا حصر لها لكى يستيقن كل ذى عقل وبصيرة استحالة أخذ
الدين من أقوال المذاهب والفقهاء برأى أنفسهم دون
النصوص القطعية الثبوت من الكتاب والسنة .
جميع أقوال الناس في الدين بالرأي كائنا من كان قائلها انما هي ضلال وخبال ومهلكة يتحتم نبذها ، لا مصدر للشرع الإسلامي غير كلام الله وكلام رسوله فقط وكل ماعدا ذلك فهو غثاء يذهب جفاء ، إنما الأئمة والفقهاء معلمون فقط وليسوا مشرعين بأى حال من الأحوال أنجعلهم لله أنداداً ؟ ! !
أنتخذهم أرباباً من دون الله ؟ ! ! .
(الباب السادس)
(اختلافات المذاهب والفقهاء )
لقد سبق الخبر بوقوع الإختلافات في الكتاب وتغيير شرائع الدين ورفع العلم وظهور الجهل ( علم الدين والجهل بالدين ) وانقراض الصالحين وسيادة الأرذلين كل ذلك قد وقع رأيناه ورآه الذين من قبلنا غير أن الشر في إزدياد مستمر لايأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه، أمر الدين في أفولٍ وتدهور وأمر الدنيا في ظهور وتطور والناس فرحون بعلوم وهم الدنيا وما تضفيه عليهم من ترف ومتاع وإباحية وهم معرضون عن علوم الدين ينعتونها بالتخلف والجمود والرجعية
كذلك فعل الذين من قبلهم قال تعالى :(( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم
ماكانوا به يستهزئون ))
و اختلافات المذاهب والفقهاء قديمة جداً بدأت بعد قرنين من وفاة نبي الله ومازالت تتزايد وتطمس معالم الدين الحق حتى إختفت الشرائع المنزلة أو كادت ولم يبق من الدين إلا بعض الرسوم البالية والصور المزيفة البالية ولم يقتصر الشر على اختلافات المذاهب والفقهاء بل قد تجاسر على شرائع الدين الوضاعون من غير الفقهاء بل عتا الشر فوق ذلك حتى لعبت بشرائع الدين النساء لا جرم أنه قد طم في الأرض البلاء .
لا يستطيع الباحث أن يُحصى إختلافات الفقهاء في شرائع الدين لكثرتها ولذلك فإن كل ما نذكره هنا لا يعدو أن يكون قطرة من لُجة نُظهر بها الحق ونُقيمُ الحجة وفي دواويننا مزيد
لمستزيد وفيما يلى أمثلة من تلك الاختلافات .
١-ألفاظ الطلاق……….. راجع ديوان الطلاق باب ( صيغة الطلاق )
ا – لفظ ( أنت على حرام ( من قال لأمرأته ذلك ماحكم المذاهب والفقهاء ؟ ! قال مالك : هذا طلاق ثلاث وامرأته محرمة عليه حتى تنكح زوجاً غيره وقال أحمد ابن حنبل : هذا ظهار عليه كفارة ظهار
وقال ابن حزم : هذا لاشيىء وإمرأته حلاله كما كانت
وقال الشافعي وأبو حنيفة : هو ونيته إن كان نوى بها طلاقاً فهو طلاق وإن كان نوى يمينا فهو يمين وإن كان لم ينو شيئا فهو لغو ولاشيىء عليه فانظر إلى الخلاف الهائل بين تحريم فاصل وتحليل كامل وبين ظهار بكفارته أو يمين بكفارته وبين تفويض الأمر لنيته ! ! !
الصواب هنا الحكم الرابع ) هو نيته )
لمطابقته النص الثابت [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرىء مانوى ] فالأحكام الثلاثة الأولى باطلة يتحتم نبذها هي أحكام بالرأى
مخالفة للنص .
فياعباد المذاهب ان كان في تلك الأحكام المتناقضة حكم صائب فالباقي كلهم حتما باطل فكيف تتبعون في دينكم
الباطل ؟ لمجرد أن مذهبكم قضى بذلك الباطل إن هذا لمن أغرب الغرائب أهدى الله ورسوله أحب إليكم أم شقاق المذاهب ؟ ! لاجرم أن المختلفين فى الكتاب لفى عذاب واصب .
ب – لفظ انت منی بائن ما حكم من قال ذلك لأمرأته ؟
قال الأوزاعي : هذا طلاق ثلاث وامرأته عليه حرام حتى تنكح زوجا غيره
وقال مالك : هو طلاق ثلاث في المدخول بها وتطليقه واحدة في غير المدخول بها
وقال اسحاق : هو طلقة واحدة
وقال النخعي : هو طلقة واحدة بائنة
وقال ابن حزم : هو لاطلاق
وقال الشافعي وأبو حنيفة : هو نيته
ج – لفظ أنتِ البتَّه .
قال الزهري : هو طلاق ثلاث
وقال مالك : هو طلاق ثلاث للمدخول بها وطلقة واحدة لغير المدخول بها
وقال ابن حزم : هو لاطلاق
وقال أبو حنيفة : هو نيته
……
هناك بضعة وعشرون لفظاً من ألفاظ الطلاق تشاكست فيها المذاهب والأئمة على هذا النحو فاكتفينا بالأمثلة التي أوردنا والأسماء التي ذكرنا كله شغب واحد.
۲ عدة المطلقه
قال مالك والشافعي : اذا دخلت في الحيضة الثالثة بانت من زوجها
وقال أبو حنيفة : له الرجعة عليها اذا اغتسلت من الحيضة الثالثة وبقى من أعضائها التي لم تغسل أكثر من قدر الدرهم البغلي فأن اغتسلت بماء شرب منه الحمار فلا رجعة له عليها ! ! !
سور الحمار مليئ بالأسرار ! ! !
وقال الشافعي وأبو حنيفة : عدتها أقراؤها ما كانت،
تقاربت أو تباعدت ولو كانت عشر سنين ! ! !
وقال أحمد ومالك : المطلقة المرتفعة الحيض عدتها سنة ! ! !
في الضيعة الدين من الحكم فيه بآراء الناس وأهوائهم
على خلاف النصوص ويا لضيعة المسلمين في هذا
الشقاق البعيد
٣ – القذف ( أى رمى المحصنات بالزنا )
أ – رمى الكافرة والأمة والصغيرة والمجنونه والمكرهة
قال مالك : لاحد في رمي الكافرة ويجب الحد في رمى الصغيرة أو المجنونة أو المكرهة
وقال الشافعي : لا حد في رمي الكافرة ولاحد في رمى
الصغيرة أو المجنونة أو المكرهة
وقال أبو حنيفة : لاحد في رمي الكافرة ولا في رمى الصغيرة أو المجنونة أو المكرهة أو الأمه
وقال ابن حزم : يجب الحد في كل ذلك
ب – القذف باللواط
قال ابن حزم وأبو حنيفة : لاحد في القذف باللواط.
وقال مالك والشافعي وأحمد : يجب الحد في القذف باللواط.
السرقة.
أ – السرقة من الغنيمة أو من بيت المال.
قال أبو حنيفة والشافعى لاقطع علي السارق من الغنيمة أو من بيت المال.
قال مالك وابن حزم : تُقطع يد السارق من الغنيمة أو من بيت المال
ب – سرقة المواشى فى المراعي والفواكه على الأشجار ، والزرع في الحرث .
قال مالك والشافعي : لا قطع في شيء من ذلك .
قال ابن حزم يقطع السارق في كل ذلك .
ج -السرقة من المسجد أو الحمام .
قال أبو حنيفة : لاقطع على السارق من المسجد أو
الحمام.
قال أحمد ابن حنبل : عليه القطع إن كان له حافظ.
قال ابن حزم : عليه القطع مطلقاً.
د – سرقة اللحم والثريد وما يسرع اليه الفساد والفواكه الرطبه والملح والبقول والتوابل وسرقة الطيور كالدجاج والأوز والبط وغيرها وسرقة الصيد.
المملوك للغير .
أبو حنيفة : لا قطع على سارق أي شيء من ذلك.
مالك والشافعي : فيها القطع ان كانت في حرز .
ابن حزم : فيها القطع مطلقا.
هـ – سرقة العبد والحر
أبو حنيفة وأحمد : سارق العبد الصغير يقطع ، وسارق الحر الصغير أو الكبير لا يقطع.
مالك وابن حزم : سارق العبد الصغير وسارق الحر
الصغير يقطع.
٥- الزنا.
أ- نفى الزاني البكر وجلده.
أبو حنيفة : إلغاء النفى بالكلية .
مالك : النفى على الرجل الحر ، لا على النساء ولا
على العبيد .
ابن حزم : النفى واجب على الزاني البكر رجلا كان أو امرأة حراً كان أو عبداً .
ب- الزاني يدعى الزوجية أو الملكية .
الشافعي وأبو حنيفة : الرجل يوجد مع المرأة يقول هي امرأتي لاحد عليه .
مالك : الرجل يوجد مع المرأة يقول هي امرأتي البيئة أو الحد .
ابن حزم : الرجل يوجد مع المرأة يقول هي امرأتي ، ان كانا غريبين أو غير معروفين فلا حد .
ج – وطء المحرمات بعقد . أبو حنيفة : من تزوج أُمُّه وهو يعلم أنها أُمُّه ، أو تزوج ابنته وهو يعلم انها ابنته أو تزوج نساء وهن تحت أزواجهن عمداً دون طلاق ولا فسخ فلا حد عليه ، ومن وطيء أَمَة أبيه أو أَمَة أبنه فلا حد عليه والبائع يطأ الأمة التي باعها لا حد عليه ، ووطء الأمة بين شريكين لاحد عليه.
احمد ابن حنبل من وطىء امرأة ابيه بعقد نكاح يقتل
محصنا كان أو غير محصن .
الشافعي : من وطيء امرأة ابيه بعقد نكاح عليه حد الزنا .
مالك : وطء المحرمات بملك اليمين ( الأم والبنت والأخت ( عليه حد الزنا ، وباقي المحرمات لاحد عليه
ولكن يعاقب .
ابن حزم : عليه حد الزنا إن كان عالما بالتحريم ، عالما بالسبب المحرم إلا امرأة أبيه فتضرب عنقه بمجرد العقد عليها حتى ولو لم يدخل بها أبوه .
د – وطء المستأجرة للخدمة .
أبو حنيفة : المستأجرة للخدمة لاحد في وطئها .
أبو يوسف وأبو ثور وابن حزم ومالك والشافعي : هو زنا كله فيه الحد
ابن الماجشون : سنين كثيرة لاحد على المخدوم إذا وطئها
٦ – القتل العمد .
الحنفية : من أخذ حجرا من قنطار فضرب به متعمداً رأس مسلم ، ثم لم يزل يضربه به حتى شدخ رأسه كله فأنه لا قود فيه وليس قتل عمد ، وكذلك لو تعمد ضرب رأسه بعمود غليظ حتى كسره كله ويسيل دماغه ويموت ، ولا فرق . المالكية : من ضرب بيده فخد مسلم فمات المضروب
إثر الضربة ففيه القود ويُقتل الضارب .
الشافعي : القتل العمد هو الضرب بما يُمات من مثله
وفيه القود .
مالك : القود ممن قتل بحجر أو عصا .
أبو حنيفة : لاقود إلا فيما قتل بحديدة تقطع أو بليطة قصب أو حرقه بالنار حتى يموت ، ولو خنقه حتى يموت فلا قَودني ذلك إلا أن يخنق الناس مراراً فَيُقاد منه ، فلو شدخ رأسه عمداً بحجر عظيم حتى يموت أو أغرقه في ماء بعيد القعر في نهر أو بحر أو بئر أو بركة حتي مات أو ضربه بخشبة ضخمة أبداً حتى مات ، أو فتح فمه كرها ورمى في حلقة رسماً قاتلا فمات فلا قود عليه في شيىء من ذلك ، وانما فيه الدية كدية العمد على العاقله وفي ماله الكفارة كالقتل الخطأ – قال فلو هدم عليه هدما فمات عمداً لذلك فلا شئ عليه ، إلا أن تقوم بينة أنه كان حياً حين الهدم ، ففيه حينئذ الدية والكفارة .
– الجنايات المهدرة .
أ – فقأ عين المطلع
المالكية : فقأ عين المطلع في بيتك فيها القصاص.
الجمهور : لاشيء فيها هذا مأذون فيه.
ب – جناية الدابة .
الحنفية والحنابلة : لا يضمن ما أصابت الدابة برجلها وذنبها وكانت بسبب ليلاً أو نهاراً ويضمن لما أصابن بيدها وفمها ، وقالوا الراكب والقائد لا يضمن والسائق يضمن .
الشافعية ومالك : الضمان لازم مادام مع البهيمة إنسان ، سائقا أو قائدا أو راكبا ليلا أو نهارا سواء أتلفت برجلها أو يدها أو فمها ، وسواء بسبب منه أو لا .
الظاهرية : لاضمان فيما أتلفت البهيمة سواء كانت مفردة أو معها سائق أو راكب أو قائد ليلا أو نهاراً لكن يضمن ما كان فعلها بسبب ممن هي معه مثل الزجر أو الطعن أو اللّي .
مالك والشافعي : الضمان فيما أفسدت المواشى ليلا لا نهاراً.
أبو حنيفة : لاضمان فيما أفسدت المواشي ليلا أو نهاراً .
ج – جناية الصبي
أبو حنيفة : جناية الصبي على عاقلة الصبى. الشافعي : هو في ماله بكل حال .
اصابات الجماد
الشافعي : الأصابة من جدار مائل أو شيء في الجدار ( خشبة أو ميزاب) الضمان في كل ذلك ، ولاضمان في الجدار المائل .
أبو حنيفة : إذا سقط ميزاب من حائط على انسان فقتله ، إن أصابة ما كان خارجا من الحائط ضمن ، وان إصابه ما كان في الحائط لم يضمن ، وإن جهل ما أصابه ضمن.
الباب السابع
(خطيئة الاختلاف )
ــ كبرى الخطيئات .
الإختلاف في الكتاب هو كبرى الخطيئات كلها هو أعظم من القتل والربا والزنا واكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وغير ذلك من الكبائر هو فتنة المسلمين في دينهم قال تعالى : ((والفتنة اكبر من القتل ))
وقال تعالى : ((والفتنة أشد من القتل))
الاختلاف في الكتاب هو دون ريب كبرى جميع الخطيئات ، يجمع أكبر الكبائر وطائفة أخرى من الكبائر، الاختلاف في الكتاب يجمع الشرك بالله الذي هو أكبر الكبائر ، ومعه كبائر أخرى كالكفر والظلم والفسق والبغى وغيرها ، فلاشيىء يدانيه في تحطيم شرائع الدين وإهلاك
المسلمين ، من أجل ذلك نعت الله الاختلاف في الكتاب بالشقاق البعيد وتوعد عليه بالعذاب الشديد ، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم المختلفين في الكتاب من الهلاك بسبب إختلافهم قال [ إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب ]
وقال [ لا تختلفوا فان من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ]
[وقال سُحقاً سُحقا لمن غير بعدى ]
وفي الحقيقة لا يمكن تصور أهوال الاختلاف في الكتاب تصوراً كاملا محيطاً لأن ويلاته أبعد من كل تصور فمهما رأى الرائي من تلك الويلات التي بين يديه ومهما امتدت بصيرته إلى ما هو مقبل عليه فلن يحيط بجميعها علما ولن يحصيها عدَّا إذ أن ماجهله من حاضرها هو اكبر مما يعلم ، وماخفى عليه من غائبها هو أشد وأعظم ، والشرور مع الأيام تتفاقم ، والويلات تزيد وتتراكم والفتن تموج كموج البحر والاختلاف لا يلد إلا إختلافاً والمختلفون يتكاثرون ولا تلد الحية إلا الحية قال نوح في الكافرين(( إِنَّكَ إِن تَذَرْهُم يُضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فَاجِراً كَفَاراً ))
ــ أشقى الطائفتين .
ليس بدعاً أن يلقى الدعاة الى الحق بأخلاص الدين لله ، والإعتصام بالكتاب والسنة ، ونبذ الفرق والشيع والمذاهب ، والتبرؤ من عبادة الأحبار ، ليس بدعاً أن يلقى هؤلاء الدعاة العنت والصدود من عُبّاد المذاهب فتلك سنة الله التي لا تتبدل
في كل صراع بين الحق والباطل .
إن أول ما يلقى الدعاة إلى الحق فى كل زمان ومكان هو السخرية منهم من اهل الباطل والعدوان عليهم من أهل الطغْيان ، وإستكبار المبطلين اغترارا بكثرتهم وازدراء الملحقين استخفافاً بقلتهم قال قوم نوح (( مانراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين )) وقال فرعون لأتباع موسى (( إن هؤلاء لشرذمةٌ قليلونَ وإنهم لنا لغائظون وانا لجميع حاذرون ))
وقال أصحاب القرية للمرسلين (( لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذابٌ أليم ))
المختلفون في الكتاب يقولون للمعتصمين بالكتاب أنتم مختلفون علينا ، أنتم أقلية قد خالفتم الأغلبية ، أنتم خارجون عن الجماعة ، أنتم متطرفون منحرفون ! ! !
وليس هذا البهتان بدعاً من الأمم السابقة إذ الكافرون والمشركون في كل زمان ومكان هم الأكثرون المكذبون يرمون الرسل واتباع الرسل وهم الأقلون بالبهتان والعدوان قال المشركون لزعيمهم فرعون يُحرضونه على البطش(( أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك )) وقال فرعون لموسى وأتباعه(( اني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)) رمى المفسدون المصلحين بالفساد ، وتنادوا عليهم بالشر والأذى ، فما عاب المصلحين هذا البهتان بالشر ، ولا زحزحهم قيد شعرة عن الأيمان .
كل محق لابد أن يخالف المبطل فهما دائما مختلفان لكن لا يستويان ، المبطل شقى في النيران ، والمحق سعيد في الجنة والرضوان ، ولو وافق المحقون المبطلين لكثرتهم أو سطوتهم لكانوا منافقين مداهنين ، وما كانوا مهتدين ، فلتبطش الكثرة الباغية بطغواها ولتصبر القلة الهادية لدعواها ثم إلى ربك منتهاها والعاقبة للمتقين .
إن مخالفة الباطل فضيلة ومخالفة الحق رذيلة لا يضر المخالفين المهتدين أنهم أقلية بل هم كذلك دائما ، ولا ينفع المخالفين الضالين أنهم اكثرية بل هم كذلك دائما السابقون
• أصحاب الدرجات عند الله هم الأقلية قال تعالى : ((ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ))والهالكون أصحاب الدركات في الآخرة هم الأكثرية قال تعالى(( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ))وقال تعالى : ((وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)) فمن هم أخسر الفريقين ؟ ومن هم أشقى الطائفتين ؟ يا أولى الألباب.
ــ صدود المختلفين .
سيقول المختلفون فى الكتاب أصحاب المذاهب عباد الأحبار لعباد الله المخلصين كل ما يخطر على البال من صنوف الأذى وسوء المقال بالضبط كما قال الأولون لأتباع الرسل قد زين الشيطان للأقدمين كما زين للأحدثين طغواهم قد أوحى لأولاهم مثلما أوحى لأخراهم أوحى لهم جدلا
– ومكراً ، وأملى لهم بطرا وأشراً قال تعالى : (( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون))
المختلفون في الكتاب أصحاب المذاهب والأحزاب لاحجة لهم من كتاب الله ولاسنة رسوله لاحجة لهم في تبرير مذهبيتهم والاصرار على طريقتهم إلا موافقة فعل السواد الأكبر من المسلمين ، وتقليد آبائهم الأولين ، واتباع أقوال مشايخهم ومذاهبهم ، وانهم كلهم من رسول الله ملتمس وشبهات أخرى سنفصلها في باب ( شبهات المتمذهبين ) وهذه كلها حجج داحضة وأقوال فاسدة لا يرد بها على الحجج الراشدة والبراهين الحاشدة من كلام الله وكلام رسوله فأين الثرى من الثريا ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم . وأصحاب دعوة الحق لا يطلبون من المختلفين المعاندين إلا الاستماع الى قول الله وقول رسوله في “الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون” وفى الذين “اتخذوا احبارهم أرباباً من دون الله ” وفي “الذين اختلفوا في الكتاب من بعد ما جاءهم البينات بغياً بينهم “، وفي الذين “شرعوا من الدين مالم يأذن به الله” وفى الذين يفترون على الله الكذب بتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله : وفي الذين “كتموا ما أنزل الله من البينات والهدى ليشتروا به ثمناً قليلاً “، وفى الذين “ردّوا أيديهم في أفواههم وجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً “.
دعاة الحق لا يطلبون إلى أحد من المسلمين إلا الاستماع الى كلام الله وكلام رسوله ثم بعد ذلك ينظر أحدهم هل يحمله إيمانه على إيثار كلام الله وكلام رسوله على كلام البشر الواهمين المخدوعين أم يحمله التعصب الأعمى على عكس ذلك ؟ ! ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ليس الدعاة موكلين بهداية أحد قال تعالى : ((وما أنت عليهم بوكيل)) ولكن هو البلاغ فقد يتنبه الغافل فأن كره فقد برىء ومن انكر فقد سلم قال صلى الله عليه وسلم [ من كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم لكن من رضى وتابع ]
فلا ينبغى لدعاة الحق أن يثنيهم ذلك الصدود أو يُحزنهم هذا الجحود ، فقد أوصى الله رسوله كما أوصى الرسل من قبله ألا يحزنوا لذلك قال تعالى :(( ولا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر إنهم لن يضروا الله شيئاً يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ولهم عذاب عظيم )) بل يجب عليهم أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا كما أمر الله (( يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون )) ثم بعد ذلك يتوكلون على الله هو وليُّهُم وناصِرهُم قال تعالى :(( فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ))
-ـ مداخل الاختلاف
لقد نظرنا في أقوال المختلفين في الكتاب قديماً وحديثاً فوجدنا لهم مدخلاً واحداً لا ثاني له ، يدخلون منه الى كل تلك الاختلافات المتعددة والمتناقضة لاسبيل إلى أى منها إلا من هذا الباب، هذا المدخل الأوحد الذي الذي لا مدخل غيره ، هو : الحكم في الدين بالرأى دون النص …
ـ الحكم في الدين بالرأى دون النص ..
لأن أي حكم في الدين ليس في أي الكتاب ، ولافي أحاديث الرسول المفصل لأى الكتاب ، فأنما هو رأى أحد من الناس ورأى أي إنسان في أية شرعة في الدين هو حتما اختلاف في الكتاب ، لأن كل ماليس في الكتاب هو بالضرورة اختلاف في الكتاب ، والكتاب كامل شامل لانقص فيه لا يحتاج تكميلاً من أحد قال تعالى : ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا)) وقال تعالى : ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) والكتاب هو الحق المطلق لا يحتاج تصويباً من أحد.
قال تعالى : ((وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )) وتفصيل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما في الكتاب شامل مبين لاقصور فيه ولا غموض ولا نسيان لا يحتاج إلى تكميل او تفصيل من أحد قال تعالى : ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزّل إليهم ولعلهم يتفكرون ))
وقال تعالى :(( وكل شيء فصّلناهُ تفصيلاً ))
وقال تعالى : ((ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ))
فتفصيل رسول الله للكتاب يستحيل أن يأتي أحد بأفضل منه أو بما يماثله هو أبلغ وأصدق وأفصح مفصل للكتاب وما الأئمة والفقهاء الا معلمون فقط لا شأن لهم
بالتفصيل ولا بالتأويل .
فكل من كف رأيه عن الحكم في الدين فهو مبرأ من الاختلاف في الكتاب ، وقوله في الدين دائماً صواب ، لأنه لا يقول برأيه شيئاً ولا يقول ابداً إلا ما في الكتاب ، فعلّة العلل
عند جميع المختلفين في الكتاب هي الحكم في الدين بالرأى ، والرأى فى الدين دائماً خطأ وباطل لأنه خلاف النصوص ، ولو كان مطابقا لنصوص لكان هو أحد النصوص ولم يكن رأى أحدٍ بأى حال ولا يخرج رأى أحد من الناس في أى مسألة من مسائل الدين عن أن يكون أحد الأمور الآتية :
۱ـ شرع مالم يأذن به الله : وهذا شرك وظلم بالنص الصريح
٢- تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله : وهذا هو إفتراء الكذب على الله بنص القرآن
٣- إستحداث شيء من الدين لم يكن على عهد رسول الله : فهذا حدث مرفوض .
٤- عمل شيء فى الدين لم يعمله رسول الله : فهذا
عمل مردود .
٥ـ اشتراط شرط ليس في كتاب الله : فهذا شرط باطل ، وليس له ولو كان مائة شرط .
تلك هي المزالق الخمس
التي ينزلق إليها أي رأي في الدين ، وهي كلها باطلة وحرام ومقترهو أية ضلالة من تلك الضلالات إنما يبررونها بأنها اجتهاد مباح حلال وماهى كذلك .
ما علمت قط لأحد من العلماء أو الفقهاء قولاً في الاجتهاد قد ألم فيه بشيء من الصواب بل كلهم جميعاً تعلقوا بالسراب وتقطعت بهم الأسباب ولكن الله عز وجل قد مَنَّ على عبده في ذلك بالحكمة وفصل الخطاب وسأفصل ذلك تفصيلاً شافياً بإذن الله فى أول ديوان وبالله التوفيق وهو المستعان.
سبحان علام الغيوب جل جلاله لسنا نزكى على الله أحداً فقد نهانا الله عز وجل عن ذلك قال تعالى : (( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ))
وقال تعالى : (( ألم ترالى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبيناً ))
ولكن كثيراً ممن اختلفوا في الكتاب نحسبهم، والله حسيبهم، في الذروة من الايمان من أجل سابقتهم وجهادهم وفضلهم وما سبق لهم من الحسنى من ربهم فهذا يقطع بأن اختلافهم في الكتاب إنما كان نتيجة اعتقادهم جواز الحكم في دين الله برأى أنفسهم إجتهاداً فصنعوا ما صنعوا وهم
يحسبونه حلالاً مباحاً وغفلوا عن النصوص الحاسمة التي تبطل ذلك وتحرمه ومن المحال عقلاً أن يفعل أمثال هؤلاء ما فعلوا عدواناً وظلما ، غفر الله لنا ولهم وأدخلنا وإياهم في رحمته وهو أرحم الراحمين.
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب ليس مجالا لشرح مسألة الاجتهاد ، وبيان ما يحل منه وما يحرم إلا أن من القواعد التي تهيمن على قضية الاجتهاد ، وتوجهها وجهتها الصحيحة ، ما سبق الأشارة إليه فى أسباب منع الحكم في الدين بالرأي من كمال الدين وتمام التفصيل ، وأن الله عز وجل لا يضل ولا ينسى مما يبطل أى اجتهاد بدعوى تكميل نقص ، أو تفصيل لسنن
، أو استدراك نسيان أو سهو أو ماشابه ذلك مما لا مجال له فى الشرائع السماوية كلها ، ما كان للعباد أن يتطاولوا على ربهم بالتكميل ، ولا على رسله بالتفصيل .
وهناك النصوص الساطعة كالشمس أنه لا اجتهاد إلا في المسائل التي تأذن نصوصها بالاجتهاد فيها ، لا كما يتوهم الغافلون أن الإجتهاد إنما هو فيما ليس فيه نص وأنه لا اجتهاد مع النص ، بل لا اجتهاد إلا مع النص ، النص الذي يأذن بالاجتهاد فى مسألة بعينها ، وأى اجتهاد لم يأذن به نص في موضوعه ، فهو اجتهاد باطل بطلاناً مطلقاً ، وهو داخل بالضرورة في أحد المزالق الخمسة التي ذكرناها آنفاً.
فجميع المختلفين فى الكتاب – أي كتاب من الكتب التي أنزلها الله – كلهم جميعاً بلا استثناء قد دلفوا إلى اختلافاتهم من هذا …
الباب الأوحد (باب الحكم في دين الله بالرأى دون النص )
ثم إنهم بعد دخولهم الباب ، وإطلاقهم العنان للرأى في شرائع الدين ألفوا أنفسهم في ساحة الضلال ، يتخبطون ذات اليمين وذات الشمال ، ويقعون في الأخطاء ويتعثرون في الخبال ، تَتَقَاذَفُهم الآراء ، وتعصف بهم الأهواء ، ثم أفضت بهم تلك المفازة الوعرة ، الى ثلاثه مسالك ، هي جماع المهالك وهي :
۱ ـ سبيل اتباع الهوى
قال تعالى(( ولا تتبع الهوى فيُضلَّك عن سبيل الله إن الذين يضَلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)) فسبب الاختلاف في الكتاب هنا هو محض استحسان المخالف لرأى نفسه الذي هو على خلاف النصوص ، فهو متبع لهوى نفسه ، وحكمه في هذه الحالة هو حكم في الدين بالرأى اتباعاً للهوى.
۲ – سبيل اتباع الظن .
قال تعالى(( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحقِ شيئاً ))
فسبب الاختلاف في الكتاب هنا هو سوء فهم النص
أو تأويله لما ليس في النص ، فيظن المختلف أن المراد بالنص هو كذا أو كذا على خلاف الحق ، فيحكم بالظن الخاطىء فهذا حكم في الدين بالرأى اتباع للظن.
٣- سبيل اتباع الضلال
قال تعالى :(( فريقا هَدى وفريقا حق عليهم الضلالة أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون)) وقال تعالى : ((فماذا بعد الحق الا الضلال فأنى تصرفون))
فمن فقد الهدى لم يجد إلا الضلال ، فسبب الاختلاف في الكتاب هنا هو إتباع غير الحق ، من خبر مكذوب ، أو قول غير معصوم أو بدعة مبتكرة أو نظرية فاسدة ، فيحكم فى الدين برأيه اتباعا لهذا الضلال .
والمختلف في الكتاب في آية واحدة من هذه السبل الثلاثة يفعلها على وجهين :
الوجه الأول : يفعلها فى معارضة نص قائم فتقع معارضته على ثلاثة صور :
أ – صورة تبديل شرع الله ، بطريق الهوى ، أو الظن ، أو الضلال.
ب ـ صورة تحليل ما حرّم الله ، بطريق الهوى ، أو الظن ، أو الضلال .
ج – صورة تحريم ما أحل الله ، بطريق الهوى ، أو الظن ، أو الضلال .
فهذه تسعة طرق للاختلاف فى الكتاب في معارضة النص القائم
الوجه الثانى : هو مخالفة الكتاب دون معارضة نص قائم ، وتقع على ثلاثة صور :
أ – شرع مالم يأذن به الله ، بطريق الهوى ، أو الظن ، أو الضلال.
۱ ـ سبيل اتباع الهوى
قال تعالى(( ولا تتبع الهوى فيُضلَّك عن سبيل الله إن الذين يضَلّون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب)) فسبب الاختلاف في الكتاب هنا هو محض استحسان المخالف لرأى نفسه الذي هو على خلاف النصوص ، فهو متبع لهوى نفسه ، وحكمه في هذه الحالة هو حكم في الدين بالرأى اتباعاً للهوى.
۲ – سبيل اتباع الظن .
قال تعالى(( إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحقِ شيئاً ))
فسبب الاختلاف في الكتاب هنا هو سوء فهم النص
أو تأويله لما ليس في النص ، فيظن المختلف أن المراد بالنص هو كذا أو كذا على خلاف الحق ، فيحكم بالظن الخاطىء فهذا حكم في الدين بالرأى اتباع للظن.
– اشتراط ماليس في كتاب الله ، بطريق الهوى ، أو الظن ، أو الضلال.
ج – إبتداع مالم يكن على عهد رسول الله له بطريق الهوى ، أو الظن ، أو الضلال.
فهذه تسعة طرق من الإختلاف في الكتاب في غير معارضة لنص قائم فيجتمع من ذلك ثمانية عشر طريقا للاختلاف فى الكتاب ، لكل طريق منها امثلة متباينة عند الله أن
المختلفين من علماء وفقهاء وغيرهم ، نرجو بأذن الله
أن نفصلها للناس تفصيلا والله المستعان .
(الباب الثامن)
( شبهات المتمذهبين )
عندما تدعو المختلفين في الكتاب الضالين في الفرق والشيع والمذاهب والأحزاب إلى نبذ الخلافات وترك المذاهب والأحزاب وإلى الإعتصام بالسنة والكتاب وعندما تواجههم بحقيقة الخطايا التي هم بها متلبسون وعليها عاكفون وعندما تدلى لهم بالبراهين القاطعة من كلام الله وكلام رسوله على شدة تحريم التفرق في الدين تجدهم أصنافا ثلاثة
(المستجيبون والرافضون والمترددون .)
أما المستجيبون فهم الذين أحيا الله قلوبهم فهم يسمعون قال تعالى : ( إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ) وقال تعالى : ( أوَمن كان ميتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس كمن مَثَلُهُ في الظلماتِ ليس بخارجٍ منها كذلك زُيّنَ للكافرينَ ما كانوا يعملون ) .
وأما الرافضونَ فهم في الظلمات قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يسمعون.
وأما المترددون فهم في صراعٍ دائم بين الهُدى والضلال لا تسمع منهم قبولاً صريحاً ولا رفضاً قبيحاً هم على مفترق الطرق لاندرى ما الله فاعل بهم .
المستجيبون هم المؤمنون أهل الإِخلاص والصدق هم الذين كانوا من قبل في غفلة عن هذا الحق فما أن تبين لهم حتى بادروا إليه فاعتنقوه وتيمموا التوحيد والإخلاص فالتزموه بعدما نزعوا رداء الشرك والمذهبية الذي كانوا قد تشربوه هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه فلهم البشرى من الله قال تعالى : ﴿الَّذينَ يَستَمِعونَ القَولَ فَيَتَّبِعونَ أَحسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُم أُولُو الأَلبابِ﴾ [الزمر: ١٨]
أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون.
وأما الرافضون فهم الذين أصروا على ما هم فيه من تفريق الدين شيعاً ومذاهب وعلى عبادة الأخبار عاكفون يجعلونها مصادر للتشريع وأصروا على كل ما سنورده ونفنِّدُه من ويلات الإختلاف في الكتاب ، المبينة في الباب الثالث في هذا الكتاب سواء منهم من أصم أذنيه وأغمض عينيه وأبي الاستماع الى الحجج والبراهين ، ومن منهم استمع ولكن بوجه كالح وكُرهٍ طافح وجادل بالباطل ليدحض به الحق ، هؤلاء هم الذين قال الله تعالى
فيهم : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ) هؤلاء لما ذُكّروا بآيات ربهم خروا عليها صُماًّ وعمياناً ، ولما سيقت لهم البراهين ودُعُوا إلى إتباع نهج السابقين من الصحابة الأكرمين الذين لم يكونوا متمذهبين مازادهم إلا نفوراً هؤلاء الرافضون المعاندون لا شأن لنا بهم إن حسابهم إلا على ربهم وما على الداعي بعد إذ أفرغ جهده في نصحهم إلا أن يقطع مراءهم متمثلاً قول نوح عليه السلام لقومه (ولا ينفعكم نصحى إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه
ترجعون )
وأما المترددون فهم الذين لم يصرحوا بإستجابة ولا برفض ، هؤلاء لم ينطقوا صواباً ، ولم يكذبوا كِذَّاباً بل ظلوا في ريبهم يترددون ، لا يعزمون حثيث طاعة ، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء مازالت تَحيك في صدورهم الشبهات فتحبسهم في عَماية المذهب ، وتزين لهم جواز الاختلاف في الكتاب وتسيغ لهم عبادة الأحبار فنحن بإذن الله وعونه وتوفيقه نُفنّد هذه الشبهات ونبدد تلك الظلمات بأنوار التنزيل وبراهين التفصيل ( لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً ) وحتى يعلم كل إنسان طريقه الذي اختاره ﴿ لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَميعٌ عَليمٌ﴾ [الأنفال: ٤٢]
ومن أهم تلك الشبهات
مایلی :
۱ – شبهة الأقدمية.
يميل أكثر الناس في عقائدهم وعباداتهم إلى تصديق كل ما هو قديم وتكذيب كل ماهو جديد دون النظر في-أدلة الإثبات سواء في القديم أو الجديد لكنهم يعتقدون بإصرار وعناد أن كل مانشأوا عليه وألِفوه هو الحق والصواب وهو الطريقة المثلى ولذلك فهم يقاومون بشدة كل تغيير فيه سواء بالتعديل والتبديل أو بالنقص والزيادة وخصوصاً إذا كان التغيير يراد به إبطال هذا الفعل المألوف أو إلغاؤه بالكلية بعد إثبات أنه فعلٌ حرام ، مخالف لشرائع الإسلام.
من هذا التمسك الشديد بكل قديم والمبالغة في تعظيمه والتزامه وشدة النفور من مخالفته والتزحزح عنه هو ما يعرف بتقديس التقاليد وأشد ما يكون ذلك التقديس في كل ما يتصل بالدين من مراسم وطقوس وعبادات وغيرها وهذا هو خُلُق الأكثرين لا يسلم منه إلا الأفذاذ من الرجال أولى الأيدي والأبصار الذين أخلصهم اللّٰه بخالصة ذكرى الدّار أولئك الذين لا يمنعهم تقادم التقاليد من إفساح الصدر والفكر لكل هدى جديد ، والتأمل فيما يقدمه من أدلة وأسانيد ، والتقبل لكل ما تيقنت صحته من شرائع الحق التي كانوا عنها غافلين ، هؤلاء لا تحجبهم شبهة الأقدمية ، عن رؤية الحقائق الجلية ، التي كانت من قبل خفية أو مطوية.
وفي معرض الدفاع عن كل مفهوم قديم والتصدى لكل تصحيح جديد ترى المتمذهبين المعارضين لدعوة الحق يتذرعون بدفوع واهية وردود بالية لا هي تثبت شرعية الفعل القديم الذي يزاولونه ، ولا هي تنفى فرضية التصحيح الجديد الذي يعارضونه (الدين الخالص)
، ولقد ذكر القرآن الكريم أصنافاً من تلك الدفوع الخاطئة قال تعالى : ( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) فهؤلاء المعارضون لدعوة الحق ما كان جوابهم إلا الإصرار على التمسك بالقديم والتعصب بفعل آبائهم الأقدمين وقد علموا أن آباءهم ليسوا معصومين بل هم من البشر الخطائين ألا لا عصمة للخطائين ولا بشرى للمجرمين
وقال تعالى : ( وإذا قيل لهم إتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون )
فهذه الآية الكريمة تندد بكل الذين يتبعون الباطل والضلال إقتداء بالآباء ، حتى ولو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ، ثم تشبههم الآية بالعجماوات التي تردد ما يلقى إليها من أصوات ، دون أن تفهم شيئاً من تلك الكلمات ، إلا حركات وسكنات ، كفعل الببغاوات ، ثم تنعتهم الآية بأقبح الصفات (صم بكم عمى فهم لا يعقلون ) فهنيئاً لمقلدى الآباء ، في كل ضلالة عمياء ، قنطاراً من
الجهل والغباء ! ! !
– وقال تعالى في المقلدين للأقدمين (( إنهم آلفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يُهرعون ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين ) نعت الله الأقدمين والمقلدين بالضلال، جَمَع التابعين والمتبوعين في حظيرة الجهال ، بالضلال ، وحكى ماحاق بهم من النّكال ، إلا عباد الله المخلصين . برأهم الله من الضلال ونجاهم
من النّكال.
وفي القرآن الكريم أمثلة كثيرة لضلال الآخرين تقليدا لفعل الأولين …. فشبهة الأقدمية التي أهلكت الأقدمين هي هي التي أضلت المتمذهبين ، يتبعون نهجهم ويحسبون أنهم مهتدون .
إن تقادم العهد على الباطل لا يزكيه ، بينما نصوص الحق تبطله وتنفيه ، ومن أراد الحق نظر في الدليل ، ولم يغرره تلبّسُ الباطل بالدهر الطويل ليس الهدى في اتباع الأقدمين ، بل الهدى كل الهدى فى نصوص الدين ، المنّزلة من رب العالمين ، يقول المتمذهبون المتعصبون ، في صدد عنيد ، وفهم مظلم بليد ءَأنت وحدك الذي علمت هذا من دون الناس أجمعين ؟ ! ولم يتفتحوا ولو على معنى واحد ، ولم يتفكروا ولو في دليل واحد من عشرات النصوص والبراهين التي حشرناها عليهم قُبُلا ، بل خرّوا عليها صمًّا وعمياناً كذلك قالت الأمم من قبلهم لكل من أراد بهم الأصلاح ، وجاءهم من عند الله بما فيه النجاة والفلاح قالوا ﴿أَأُلقِيَ الذِّكرُ عَلَيهِ مِن بَينِنا بَل هُوَ كَذّابٌ أَشِرٌ﴾ [القمر: ٢٥]
وقالوا ﴿ما سَمِعنا بِهذا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إِن هذا إِلَّا اختِلاقٌ﴾ [ص: ٧]
وقالوا ﴿ما سَمِعنا بِهذا في آبائِنَا الأَوَّلينَ﴾ [المؤمنون: ٢٤]
لو استمعوا إلى النصح السديد حتى ولو لم يسمعه آباؤهم من قبل مع أنه والله قد بلغ جميع الأمم ألا يتفرقوا في الدين ولا يتخذوا من دون الله الأنداد والأولياء وألا يتخذ بعضهم بعضاً أربابا من دون الله ، الكل سمعوا والكل جحدوا ، وماذا يضرهم أن يأتيهم النصح على لسان هذا العبد أو ذاك ؟ ! وماذا يعنيهم وما شأنهم في تقسيم فضل الله على العباد ؟ ! ((أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في
الحياة الدنيا ))
فسقطت بذلك شُبهة الأقدمية ، وخاب من
تشّبث بالمذهبية.
٢ – شبهة الأغلبية.
هذه ضلالة قوية ، وقليل من الناس من يدرى حقيقة أمر الأغلبية أكثر الناس يحسبون الحق دائما في جانب الأغلبية ، وتلك هي الضلالة الأبدية ولقد تأصلت هذه الضلالة في نفوسهم وأشربتها قلوبهم حتى أصبحت عقيدة راسخة عند جميع الشعوب من قديم الزمان وقلما وُجدت ضلالة أخرى لها مثل هذا الرسوخ في نفوس الناس وعقولهم ، ولكن لا الرسوخ ولا القِدَمُ ينقصان من بطلانها مثقال ذرة لأن الله قد أبطلها ، وأحق نقيضها فيما أنزل لعباده من النور والبرهان المبين(( ليُحق الحق ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون )) من أجل ذلك يلقى المصلحون أشد العنت وأعظم الصدود
من قومهم عندما يعالجون الضلالات القديمة والفساد
العريق ، لأنهم يكافحون وهم أقلية ، فساد الشعوب وهم أكثرية ، والناس ينحازون دائما الى جانب الأكثرية .
إن ترجيح حكم الأغلبية هو قول باطل يجرى على كل لسان هو حكم غبي جاهل ، فساد الشعوب وهم لسان هو حكم غبى جاهل ، هو رأى غَوِىّ عن نور الله غافل ، هو فتنة زينها الشيطان للأوائل ، ثم غطّ فيها القرون ليخلط الحابل بالنابل.
ان ترجيح رأى الأغلبية الذي هو ضلال قديم والذي أهلك الأولين والآخرين ، قد أنزل الله تعالى نقضه وبطلانه في القرآن العظيم ، وبين فساده وسوء عاقبته النبي الكريم ، فقد استفاضت الآيات والأحاديث المؤكدة بطلان هذا الاعتقاد الخاطيء ، وفيما يلى بعض تلك الأنوار الكاشفة والحجج الناسفة لضلالة ترجيح حكم الأغلبية :
قال تعالى ((وإن تُطع أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون)) جعل الله الضلال دائما في جانب الأكثرية … الأكثرون يضلون ولا يهدون ، ويظنون ولا يتيقنون ، ويخرصون ولا يصدقون لاأحسب مؤمنا صادق الايمان يقرأ هذه الآية ، بوعّى جامع وقلب سامع ألا سقيط عنده ترجيح رأى الأغلبية وثبت في يقينه عكس مفهومه القديم لحكم الأغلبية وتحول من فوره عن طريق الضلال والفسق الى صراط الهدى والحق تَحَوَّلَ إلى شرائع الدين الحق ، كلما أعضله أمر يبحث فيه عن الحق والعدل والبر والهدى انما يَسْتَمِدُّهُ من أنوار الحق، الله تعالى يقول الأكثرية دائما هم الضالون ، وأهل الحق دائما هم الأقلون ، وأنتم تقولون الأغلبية هم المحقون ((ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل )))
– وقال تعالى(( ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين )) يعنى أن الضلال دائماً هو سمة الأغلبية ، فكما ضللتم أيها المخاطبون وأنتم الأغلبية فقد ضل قبلكم أكثر الأولين ، لاجرم فالضالون دائما هم الأكثرون.
– وقال تعالى ((وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )) الأكثرية من الناس غير مؤمنين ، والأقلية هم المؤمنون ، هل تريدون أصرح وأفصح من هذا البيان إن كنتم للحق تنشدون ؟ !
٤- وقال تعالى(( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)) أكثرية المؤمنين مشركون ، فما بالكم بغير المؤمنين ؟ ! ألا ان الغالبية لفى ضلال مبين ، أسمعوا كلام رب العالمين كل مغرور بالأغلبية مفتون ، وافتحوا هذا النور
المبين على الذين هم في الظلام يتخبطون.
٥- وقال تعالى(( وما وجدنا لأكثرهم مِنْ عَهْدٍ ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين))
الأكثرية لاعهد لهم ، الأكثرية هم الفاسقون ، فكيف تجعلون الحكم في دينكم للفاسقين الذين لا عهد لهم ؟ ! بل الحق دائما عند الأقلية الراشدة اللهم سمعنا. وأطعنا ، وبنور الكتاب اهتدينا ، فلك الحمد ما قرأنا فوعينا و ما خشينا فاتقينا ((الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ))
٦ – وقال تعالى ((وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ))
كرر الله تعالى الآية أربعة عشر مرة فى سورة الشعراء ، فهل بعد ذلك من تأكيد أن أكثر الناس في كل زمان ومكان ما كانوا مؤمنين ؟ ! بل الأكثرية فى جميع الأمم ، غير مؤمنين، الأكثرية دائما ليسوا على الحق ، الأكثرية دائما يتبعون الهوى ، ويضلون عن سبيل الله ، فانتبهوا أيها الغافلون وارشدوا أيها الغاوون ، الحق عند الأقلين لا الأكثرين ، كذلك قال رب العالمين .
٧- وقال تعالى في السابقين(( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ))
٨- وقال تعالى في أصحاب اليمين ((ثلة من الأولين وثلة من الآخرين))
فالمفلحون من البشر في كل زمان هم دائما أقلية ، السابقون في الزمان الأول ثلة وفي الزمان الآخر قلة ، وأصحاب اليمين هم في الزمان الأول والزمان الآخر ثلة فجميع الصالحين من كل درجة هم دائما في كل زمان قليلون ، أما الأكثرون في كل زمان هم دائما الضالون المضلون ، هل أيقنتم الآن أيها المسلمون في أي جانب يكون الحق ، وفى أى جانب يكون الضلال ؟!
الحق دائماً -في جانب الأقلية والضلال دائما في جانب الأكثرية .
٩- واسمعوا إلى تلك الأحاديث القدسية والنبوية التي تمدكم بمزيد من التّفصيل أن الأكثرية دائما فى تضليل .
قال صلى الله عليه وسلم (( يقول الله تعالى يا آدم .. فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك . فيقول أخرج بَعثَ النار .. قال وما بعث النار ؟ قال من كل ألف تسعمائة تسعة وتسعين . فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )). فانظر إلى أكثرية البشر أين مثواها ؟! الصالحون واحد في الألف . قال صلى الله عليه وسلم [ الناس كابل مائة لاتكاد تجد فيها راحلة ] تفحص مائة من الناس فلا تكاد تجد منهم صالحا واحدا !!! افحص مائة ثم مائة ثم مائة حتى إذا أتممت ألفاً
وجدت صالحا واحداً فثبت من كل ما تقدم أن الضلال في الدين ، هو في جانب الأكثرية دائماً فسقطت بذلك شبهة الأغلبية كدليل على صحة ما يعتقده أو يحكم به أكثر الناس بل العكس هو الصحيح دائما .
هذه الْمَامَةٌ ، سريعة بقضية الأغلبية ، ولها تفصيل وإسهاب ، نأتى به في غير هذا الكتاب ، إن شاء الله.
٣- شبهة كلهم من رسول الله ملتمس
هكذا يقول حَمَلَةُ المزامير ، الذين يزفّون في ركاب المشاهير هكذا يقول أتباع المذاهب ، العابدون للأحبار
-المروجون لضلالة تفريق الدين شيعاً وأحزاباً ، الذين يحادون الله ورسوله وهم لا يشعرون هكذا يموّهون بزخرف الكلام ، على الجهال من الخواص والعوام ، الذين لا علم لهم بشرائع الإسلام يبررون الشقاق البعيد الذي تمّرغ فيه المختلفون في الكتاب وتمعكت فيه الفرق والشيع والمذاهب والأحزاب يبررون هذا الضلال المبين ، بأنه كله مقتبس من الرسول الأمين ” يقولون ( كلهم من رسول الله ملتمس ) !! يلصقون إفك الأفاكين وغَيّ الغاوين زوراً وبهتاناً بسيِّد المرسلين ((كَبُرت كَلِمةً تخرُجُ مِن أفواهِهِم إن يقولون إلا كَذِباً ))
يقول الله تعالى ((ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وان الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاقٍ بعيد )) فكيف يكون الشقاق البعيدُ مُلتمساً من رسول الله إن كنتم تعقلون ؟! لكنهم يُزيّفون إفكهم للناس بالتدليس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُسكتوا السائلين ، وليموِّهوا على الجاهلين.
كيف يكون الاختلاف فى الكتاب مُلتمساً من رسول الله ؟! كيف يكون الشقاق البعيد مأخوذاً من رسول الله هذا بهتان رهيب !!! كلام الله وكلام رسوله مُنَزَّه عن كل اختلاف قال تعالى ((ولو كان من عِند غيرِ اللهِ لوجدوا فيه إختلافاً كثيرا)) . فالاختلاف في الشرائع دليل حاسم على أنها من عند غير الله ، من عند البشر الوضاعين ..
المذاهب كلها مختلفة في الكتاب اختلافا شديدا فتلك
مصنفاتهم طافحة بالتناقضات والاختلافات ، كما بينا آنفاً في الباب السادس وضربنا لذلك بعض الأمثال ، ومما لاشك فيه أن أي مختلف في الكتاب هو في هذا الاختلاف غير ملتمس من رسول الله حاش لله ليس أحد منهم في ذلك من رسول الله ملتمس ، بل كل مفتر عليه هو في معصية الله مُنغمس ، وهو في ظلمة الباطل والضلال محتبس.
لو كان أى واحد من هؤلاء من رسول الله ملتمسا لكان کلام جميع المذاهب في أية قضية كلاماً واحدا وحكما واحدا لا اختلاف فيه لأن كلام الله وكلام رسوله واحد لا اختلاف فيه ، واذا لما كان هناك أي مبّرر لبقاء تلك المذاهب ، كما هو العقل والشرع والواجب.
لو كانوا ملتمسين من الكتاب والسنة لجاءت أحكامهم مطابقة للكتاب والسنة ، لأن الملتمس من الشيء يأتي بمثله لا بنقيضه ، ملتمس قطاف النّحل يأتي بالعسل المفيد ، لا بالقيح والصديد ، فمُلتمس الهدى من الكتاب والسنة يأتي بالحكم الرشيد ، لا بالشقاق البعيد .
بل الحق الذى لامرية فيه هو أن مبتكرات المذاهب التي في مصنفاتهم إنما التمسوها من آرائهم وأهوائهم ، وابتدعوها بظنونهم وتخرّصاتهم لا من رسول الله فليراجع الباب السادس للتأكد من ذلك ، ولآ جزم بأنهم التمسوها من أدمِغَتهم وأمخاخهم ، لا من الكتاب والسنة ، وللقطع بأن الله برىء من المختلفين ورسوله ، كل الكتاب والسنة سديد رشيد ، وكل المختلفين في شقاق بعيد قال تعالى ((من أضل ممن هو في شقاق بعيد ))
قثبت بذلك أن شبهة ( كلهم من رسول الله ملتمس ) هي شبهة زائفة رخيصة وحجة داحضة خسيسة هى محض إفتراء على الله ورسوله فمن زمّر لنا بمثل هذا الكلام سقناه إلى مرابض الأنعام، ليتمرغ في الدَّحَض والرغام دينه شعوذة وأوهام لا حظ له في حقائق الأسلام.
٤ـ شبهة إختلافهم رحمه
ما كان ينبغى أن تكون هذه شبهة ترد المتطلعين إلى الحق ، أو تَحبس العاكفين على الباطل ، لأن الإختلاف خطيئة ومعصية فكيف يكون رحمة ؟! الاختلاف في الكتاب كما نعته الله تعالى هو شقاق بعيد قال تعالى(( ذلك بِأن الله نَزَّلَ الكِتابَ بالحقِ وإن الذين إختلفوا في الكتابِ لَفي شقاقٍ بعيد ))والشقاق البعيد أعظم نقمة !! فكيف تكون النقمة رحمة ؟! كيف يكون إختلافهم رحمة ؟!!
ما كان ينبغى أن تكون هذه شبهة تتَطلّب رداً إذ بطلانها واضح ونتن ريحها فائح فضلاً عن ضلالة الأصل وهو مجرد الإختلاف لكن على الرغم من قبح المقالة ، وغباوة الضلالة ، فأن هذه الشبهة لا تزال مزمورة معروفة ، يرددها الهتافة المطبلون للشيع والمذاهب وأكثرهم ينكرونها أو لا يعقلونها إنما هي مُشاغبة فى طلب الرزق أو مكابرة لتعمية الحق كالذين قال الله فيهم ((وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلِبون ))
(الدين الخالص)
الإختلاف فى الكتاب شقاق والمختلفون هلكى هكذا قال الله وقال رسوله ، فقولت الشقاق رحمة ليس إلا تنطع سقيم أو تغرير لئيم ، إذ أنّ هذه الشبهة الضالة ( إختلافهم رحمة ) ، قد تنطوى على مقصد خبيث أو فهم خثيث أو كلاهما معاً .
أما المقصد الخبيث فهو عندما يكون المقصود من الرحمة المترتبة على الاختلاف في الكتاب ، حصول مهرب للمجرمين ، أو فكاك للغارمين ، للتفلت من العقاب ، أو التنصّل من المغرم ، بترك المجرم المذهب الذي يدينه إلى المذهب الذى يبرّئه ، أو بتنصل المعتدى من المذهب الذي يُغرّمه إلى المذهب الذى لا يغرّمه حيث قد وجدوا في تلك المذاهب ، سعة فى التلاعب من إدانه مذهب بّرأه مذهب آخر ومن أغرمه مذهب أعفاه مذهب آخر ، فما أسعد المجرمين بهذا الدين المطاط ، وما أحرصهم على دوام الشقاق والأغلاط ، ويكون الاختلاف في الكتاب عند هؤلاء باباً من أبواب الحيلة ، ويكون التقلب في المذاهب لديهم سبباً أو وسيلة .
إذا كان هذا هو المقصود من ضلالة ( إختلافهم رحمة ) . فبئست الحيلة ، وتعست الوسيلة ، المحتال على شرائع الله فاجر كفار ، ومن يبدل نعمة الله كفراً أحلّهُ دار البوار.
واما الفهم الخثيث فهو تصور أن يجيز الله تعالى التناقض في الأحكام والاختلاف في الشرائع ، من شاء قضى بالإدانة
ومن شاء قضى بالبراءة ، من شاء أغرم المعتدى ومن شاء أفلته ، لا أعلمُ فى الحماقة والتنطع أسقط من هذا الفهم ، أولئك كالأنعام بل هم أضل وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبداً .
لو أبيح الاختلاف في الأحكام ، سقطت جميع شرائع الاسلام وانقلبت لعبة للمجرمين ، وسخرية بهذا الدين ، فلا تغنى الشرائع فتيلا ولا تجد الحدود إلى العصاة سبيلا ، ثم لا تزيد المذاهب أمر الله ورسوله إلا هدماً وتعطيلا ، بل الله ينصر دينه ويأخذ المختلفين أخذاً وبيلا .
فسقطت بذلك هذه الشبهة الداحضة ، واداركت مع غيرها في الحافرة.
ه – شبهة سكوت الأحبار
هذه هي أيضا شبهة قوية ، تُلقى ظلالاً من الشك والريبة على عقول العوام والخواص على السواء.
إذا كلمتهم عن خطيئة المذاهب وتفريق الدين شيعا والإختلاف فى الكتاب ، بُهتوا ودهشوا ، وفجأهم من الأمر مالم يكونوا يحتسبون ، ثم كان من أهم ما يحتجون به ، قولهم فما بال علماء الدين يسكتون على ذلك ولا يعترضون عليه ؟! أليس السكوت دليلا على الرضاعنه والموافقة عليه ؟! ولو كانت المذاهب حراماً ماسكتوا عنها ولا أقروها !!! .
فسكوت الأحبار قام عند المتمذهبين دليلا على شرعية المذاهب وهذا استدلال في غاية الحماقة لأنه استدلال على الشيء بنفسه !! الأحبار هم أصحاب المذاهب فكيف يُستدل على شرعية المذاهب بفعل أصحاب المذاهب ؟!! إذاً فالربا عمل مشروع حلال لأن المرابين لا يعترضون عليه ولا يستنكرونه .
هذه الحماقة نشأت من أخطاء مبنية على أخطاء وضلال متراكب فوق ضلال ((ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يدّه لم يَكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ))
لا الساكتون على هدى ولا المسكوت عنه حلال ولا السكوت دليل الشرعية هل فى تلك الظلمات من نور ؟! فأنى يبصرون ؟! .
إنما يَصلح إعتبار السكوت إقراراً أو عدم إنكار إذا صدر عن الرسل المعصومين فيما يبلغون عن رَبِّهِمْ لأنهم لا ينطقون عن الهوى ولا يقولون على الله إلا الحق ولا يخافون في الله لومة لائم أما الأحبار فشأنهم غير ذلك بالمرة سواء الصالح منهم وغير الصالح.
أعلموا أيها الناس أن أحبار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها قد تربوا على مائدة المذاهب حتى أشربتها قلوبهم فهم يؤمنون بها ولا يرون مافيها من ضلال ووبال هم تعلّموها وهم يُعلمونها على مدى الأجيال فإذا أنت حدثتهم عن خطيئتها وشدة تحريمها ووبال أمرها على الإسلام والمسلمين
وسقت لهم أقوى البراهين وحشرت عليهم نصوص الآيات والأحاديث (( ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون))
ثم تفرقوا عنك طوائف شتى كل حزب بما لديهم فرحون فمنهم :-
1- طائفة يعرضون عن الاستماع ، لا يحاولون الاقناع أو الاقتناع : يغمضون أعينهم ويلوون الرؤوس ويثنون الصدور وقد قال الله تعالى في أمثالهم ((ونُطبِع على قلوبهم فهم لا يسمعون)) لارد عندهم على الآيات البينات والأحاديث التي هي في الذروة من قوة الأثبات ، فهم لا يحيرون جواباً ولاينطقون صواباً هؤلاء يدينون بالمذهبية قد أحاطت خطيئتها.
ب- طائفة قد انكشف لهم الحق فعرفوه ولكنهم جحدوه أنفةً وحمية ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً )) هذه الطائفة والتي قبلها سكوتهم عن الإنكار سببه
الإصرار على الباطل بعدما تبيّن الحق.
ج – طائفة هم على علم بخطيئة المذاهب يعرفون صدق البراهين على ذلك في القرآن والحديث ولكنهم يكتمون ذلك ولا يبينونه للناس حرصا على ماهم فيه من متاع الدنيا يخشون مواجهة الناس بما يكرهون هؤلاء هم أكَلَةُ النار قال تعالى(( إن الذين يكتُمُونَ ما أنزل الله من الكتاب ويشترون بهِ ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونِهِم إلا النار ولا يكلمُهُمُ الله يوم القيامة ولا يُزكيهِم ولهم عذابُُ أليم ))
((أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار))
فسكوت هؤلاء عن الإنكار هو سكوت حرص وطمع.
د – طائفة مؤمنون بوجوب وحدة الأمة كما أمر الله ويعلمون بشاعة الاثم في تفريق الدين شيعاً ومذاهب قلوبهم منكرة لهذا الاثم ولكنهم لا ينكرون بالسنتهم مخافة فتنة الناس فهؤلاء سكوتهم سكوت تُقاةِ ومداراة.
هـ طائفة مترددون بين المناهج المذهبية التي درسوا وبين البراهين القطعية التي سمعوا زجرا عن المذهبية ، إذا نظروا في مناهجهم قالوا أمعقول هذا إن كل الذي درسنا خطأ وضلال ؟! وإذا نظروا فى كلام الله ورسوله قالوا أمعقول هذا أن الأئمة والفقهاء قد غفلوا عن هذا النور الباهر والحق
الغامر ؟!!
فهم في ريْبّهم يترددون لا يتخذون إلى الله مآبا ولا يكذبوا بالحق كِذَّابا….
فسكوت هؤلاء عن الإنكار هو سكوت حيرة وانتظار .. فسقطت بذلك شبهة سكوت الأحبار الذين تبينت مواقفهم المختلفة من خطيئة المذاهب.
٦ – شبهة إقرار الحكام
هذه شبهة ضعيفة ، لا يتعلق بها إلا العوام ، وغير أولى النهى من الأنام ، الذين يتساءلون فى سذاجة البلهاء إذا كانت طريقة المذاهب هى من الوبال كما تصفون ، فلماذا أقرَّها الحكام فى جميع بلاد الاسلام ؟! فإنا نرى جميع المسلمين في المشارق والمغارب يتبعون طريقة المذاهب ، فكأن ولاء المتسائلين يحسبون أن حكام المسلمين ، على شيء من العلم بالدين، ولذلك استغربوا أن يكون العالم بالدين ، حاكما على نقيض الدين .
لم يشعر هؤلاء السذج البلهاء ، أن أكثر حكام المسلمين علمهم بالدين هباء ، وأن من علم منهم من دينه شيئاً فقد اتخذه وراءه ظهريا واستقبل الكافرين الظاهرين في الأرض يردد أقوالهم ، ويمجّد أفعالهم ، ويقتفى آثارهم حذو النعل بالنعل ، وصدق رسول الله ﷺ [ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا حجر ضب لسلكتموه قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟ ] .
أكثر حكام المسلمين تكاد تكون جميع أفعالهم ضد الدين ، فليس بمستغرب منهم إقرار خطيئة المذاهب أو غيرها من الضلال المبين ، بل المستغرب حقا هو أن يتحرى أى واحد منهم تطبيق شرائع الدين
فسقطت هذه الشبهة كسابقاتها ، كلما انحسرت تلك الحجب الزائفة ، بَدَتْ خطيئة المذاهب بوجهها الكالح كأبشع محنة حلّت بشرائع الأسلام فغيرتها ، وبجماعة المسلمين فمزقتها .
– شبهة سنن الخلفاء
زعم المتمذهبون أن رسول الله ﷺ قال [ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ ) ثم قالوا فالخلفاء لهم سنن مختلفة ورسول الله أمرنا باتباعها ، فهذا اختلاف في الرأي مقبول قد أقره الرسول ، إذاً فلا جناح على أحد في اتباع المذاهب المختلفة !!! .
هؤلاء قد أساؤا المقالة ، وكذبوا على صاحب الرسالة لا الاختلاف في الدين مقبول ، ولا هذا الحديث يصح عن الرسول.
أما الاختلاف في الدين فهو أبشع جرم يمكن أن يرتكبه المؤمنون بأى دين وهو المنكر الذي حذر الله ورسوله منه أبلغ تحذير وهو هلاك الأمم كلها من لدن آدم إلى قيام الساعة ، وصفه الله بالشقاق البعيد وتوّعد عليه بأشد الوعيد ، فمن الخبال والضلال أن يتصور أحد أن الاختلاف في الدين يمكن أن يكون مقبولا من أى إنسان كائنا من كان خلفاء أو غير خلفاء ، ومن الزور والبهتان أن يقول قائل أن رسول الله أمر بالاختلاف في الدين أو أقرّه أو رضى به ، أيها الناس كُفوا ألسنتكم وأقلامكم عن البهتان على رسول الله ، الاختلاف في الكتاب ، وتفريق الدين شيعا و مذاهب ، وتقطيع الأمة الواحدة زبرا كل حزب بما لديهم فرحون هي أبشع الجرائم الموجهة ضد الأسلام والمسلمين على الإطلاق
وأما الحديث الذي احتجوا به والذي سقنا لفظه آنفاً…. فهو حديث مُفتَرَى على رسول الله ، وهو من صنع الوضاعين الذين أغرقوا المسلمين بمفترياتهم واكاذيبهم . هذا الحديث هو عند أحمد ( ٣ و ٤٢٤ ) ضمن طوفان من نظائره من الأحاديث الموضوعة التي زلزلت شرائع الدين الصحيحة زلزالاً شديداً ، وبلبلت عقائد المسلمين ، ومزجت الحق بالباطل ، وحيرت المخلصين أولى الأيدى والأبصار ، كيف السبيل إلى صدّ هذا التيار . واستنقاذ المسلمين من الضلال والبوار .
هذا الحديث المفترى رغم ذيوعه وإنتشاره بحيث لا يخفى على عامة المسلمين فضلاً عن كبار المحدثين كالبخاري ومسلم هو ولله الحمد ليس في الصحيحين وما كان له أن يخترق هذا الحصن العتيد لأصح الأحاديث المروية عن رسول الله ، هذا من فضل الله على الإسلام والمسلمين أن جعل بين الصحيحين وبين تلك المفتريات حجرا محجوراً فَفى شرائط الشيخين القوية عازل مانع من تسرب خبائث الوضاعين إلى هذا الكنز الثمين.
إن الكذب على رسول الله ليس كالكذب على أحد من الناس ، كذبة واحدة
قد تضل مئات الملايين
من المسلمين وإن مما يقطع نياط القلوب أسى وحزناً أن جميع المؤلفات الإسلامية ) في الحديث والتفسير والسيرة والفقه والتاريخ والقصص والأدب وغير ذلك ) كلها جميعا باستثناء الصحيحين طافحة بالجم الغفير من المفتريات
الموضوعة والأكاذيب المصنوعة مخلوطة بقليل من الصحاح
فهي تلبس الحق بالباطل وتخلط الضلال بالهدى وتدع المؤمنين في قبضة الشيطان ، وتقف بهم على حافة البركان ، لا ينجو منهم إلا من ثبته الله بالقول الثابت وطهره من كل تلك الأدران .
على أن في هذا الحديث المفترى من أدلة البطلان الظاهرة مالا يحتاج معه القارىء العادى إلى التعمق في معرفة شرائط الصحة التي تميز له المفترى الموضوع من المعلول المقطوع من المرسل غير المرفوع ولا هو بحاجة إلى معرفة تفاصيل السند والإسناد أو تجريح الرواه وتجهيلهم أو أنواع الخلل والإضطراب في المتون أو غير ذلك من موازين النفي
والإثبات للأخبار والآثار على السواء .
فمن أدلة البطلان الظاهرة لهذا الحديث مايأتي : –
۱ – جهالة التعريف
من هم هؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمرنا باتباع سنتهم ؟!!
ماذكرهم الله ولا رسوله ولا عرفهم في كتاب ولاسنة ، إنما هو اصطلاح وضعه المؤرخون ، إنما هي تسمية أطلقوها على أول أربعة من الخلفاء بعد رسول الله لقد تلاهم خلفاء عديدون في دول كثيرة ، منهم الراشدون وغير الراشدين ،
منهم المهديون ، وغير المهذبين ، كلمة الخلفاء الراشدين المهديين ما وردت البتة على لسان رسول الله في
الصحيحين ، إنما هى كما قلنا تسمية وضعها المؤرخون بعد وفاة هؤلاء الخلفاء الأربعة عندما بدوا التاريخ لهم يعنى لم تكن هذه التسمية معروفة قبل ذلك الوقت فكيف يدّعى إنسان صدورها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!! أفنجعل اصطلاحات المؤرخين شرعا يلزم المسلمين ؟!!!
ثم فضلا عن جهالة الأسماء فهناك جهالة الأعداد !!! هل الخلفاء المعنيون في الحديث المفترى هم فقط الأربعة الأوائل كما اصطلح على ذلك ، المؤرخون ؟! أم هم كل مذكور بخير من المستخلفين بعد ذلك كعمر بن عبد العزيز في الأمويين وكالمهتدي في العباسيين ، وغيرهم من السابقين
واللاحقين ؟! .
أفنأمر الناس بما لا نعرفه نحن ولا هم ؟! أم نفترى الكذب على الله وعلى رسوله ونقول للناس زوراً وبهتانا هؤلاء الأربعة سماهم الله ورسوله وهم الذين عناهم الحديث ؟!
أفيأمر الرسول بمجهول يا أولى النهى والعقول ؟!! . أيها المسلمون أليس من العار والبوار أن تأخذوا شرائع دينكم من ابن بطوطة وابن خلدون ؟!
فسقط هذا الحديث المفترى ، وقد خاب من افترى.
٢ – لا طاعة في معصية فكيف نأخذ شرائع الدين من البشر الخطائين ؟!
إتباع أى شرعة كاذبة خاطئة معصية ، ولا طاعة لأحد في معصية الله قال صلى الله عليه وسلم (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وماكره إلا أن يُؤمر بمعصية . فإن أمر بمعصية فلاسمع ولا طاعة)
والخلفاء الأربعة بشر غير معصومين وكم لهم من أخطاء في الدين ذكرنا أمثلة منها في الباب الخامس من هذا الكتاب باب ( طائفة من الأخطاء ) ، فكيف تؤمر في الدين باتباع الأخطاء لا لشيء إلا لأنها صدرت عن الخلفاء ؟!! فنعصى الله ورسوله باتباع تلك الأخطاء انصياعاً لمذاهب الفقهاء !!!
لا عصمة لأحد من الأخطاء في الدين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حجة في الدين في قول أحد أو فعل أحد كائنا دون رسول الله والخلفاء الأربعة أنفسهم رجعوا عن أخطائهم لما تُبّهوا لها فى كثير من الأحيان ، فمن الحماقة أن يُؤمر المسلمون باتباع أخطاء في الدين تركها أصحابها أو حتى أصروا عليها.
فهذه حجة أخرى بالغة لإسقاط الحديث المفترى ..
٣ـ شرع مالم يأذن به الله شرك:
أيما شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى تنزيلا في كتابه أو تفصيلا بلسان رسوله فهو شرك وظلم قال تعالى(( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم))
فمن أُمر بإتباع سنة الخلفاء التي ليست في كتاب الله ولا في سنة رسوله فقد أمر الناس بشرك وظلم عظيم.
٤- كل محدث في الدين مردود
قال رسول الله (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )
فكل شیء من سنن الخلفاء ليس في كتاب الله ولا فى سنة رسوله عمل مردود وحدث مرفوض حتماً ولو رغمت أنوف المتمذهبين
٥ – الدين تام كامل فلا جديد أو مزيد
قال تعالى ((اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام ديناً))
وقال تعالى (( ما فرطنا الكتاب من شيء))
، وقال تعالى(( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمةً وبشرى للمسلمين )) وقال تعالى (( وكل شيء فصلناهُ تفصيلاً)) وقال تعالى(( وما كان ربك نسياً)) فبكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، نوقن أعظم يقين أن دين الله تام فيه كل ما يلزم العباد ، وأنه كامل لا يرقى إلى كَمَالِه أى رأى أو فكر أو شرع من صنع العباد ، وأنه جامع لكل الألطاف حتى لقد رضيه الله دينا للعباد وأنه محيط بكل شيء لا تفريط فيه من شيء كل ما يخطر على البال هو فيه ، وأنه بيَّن كل شيء وفصّل كل شيء فلا يحتاج إلى مزيد من البيان والتفصيل وأنه جل جلاله تقدس وتنزّه عن النسيان ، فلا يقولن بليد الفهم أن في الكتاب شيئاً منسياً.
فمتى كان الأمر كذلك فما حاجة المسلمين إلى أي شرع أو أية سنة في الدين من أي إنسان كائناً من كان خلفاء أو غير خلفاء ؟!! إن الأمثال لَتَجْرِى بالدهشة والعجب ، من باذل العطاء لمن وهب كناقل التمر إلى هَجَر كما تقول العَرب ، ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم(( قل أتُعَلِّمونَ الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم))
٦ – كل ماليس في الكتاب والسنة ضلال :
مادام كلام الله تنزيلا وتفصيلاً هو التام الكامل الشامل الذي لم يفرط في شيء ولم ينس أي شيء هو الذي بيَّن كل شيء وفصَّل كل شيء ، ومادام هذا كله هو الحق الذى لا حق غيره ، فكل شيء في الدين خارج الكتاب والسنة هو لا محالة ضلال أياً كان صانعه وناظمه ومُفنّنه لأنه ليس وراء الحق إلا الضلال قال تعالى ((فماذا بعد الحق إلا الضلال فأني تُصرفون)) فتلك السنن التي يذكرها الحديث المفترى إن كانت خارج الكتاب والسنة فهي الضلال بنص القرآن ، وإن كانت في الكتاب والسنة فتلك إذاً سنة الله ورسوله لا سنة فلان أو فلان.
٧- الاعتصام بغير الله باطل:
من اعتصم بغير الله ضل ومن استعان بغير الله ذل ، قال تعالى(( ومن يعتصم بالله فقد هُدىَ إلى صراط مستقيم ))
فإذا كان المعتصم بكتاب الله قد أدرك الهدى ، فما حاجة المُهْتَدِى إلى السير في سبل أخرى غير صراط الهدى الذى أقامه الله عليه إلى السير في سبل مليئة بالباطل والخبال ومؤدية
إلى التيه في الضلال ؟!
إن من أسوأ ما قرأنا لبعض الفقهاء ، إعتصامهم بالمؤلفات والمصنفات دون الأحاديث والآيات يقذفون بالشرائع المفتراة برأى أنفسهم استناداً إلى مصنفات كالخانّيِة والوهابية والشرنْبلالية ونهر وبحر ومحيط وجوهرة ومجتبى وبدائع وزیلعی و قهستانی و غيرها ، لا استناداً إلى مصادر الشرع الصحيحة والوحيدة ( كتاب الله وسنة رسوله ) والنتيجة الحتمية لهذا المسلك الضال هو بث شرائع باطلة ضالة ما أنزل الله بها من سلطان قد جمعت الشرك والظلم والفساد والإفتراء على الله.
والاعتصام بسنن الخلفاء ، مثل الاعتصام بمذاهب الفقهاء ، كل ذلك هو تحكم في الدين بالآراء ، والدين لا يكون إلا من عند الله ورسوله دون سواهما ، فكل ماعدا ذلك هباء ، لا إعتبار له ولا خير فيه ولا غناء .
أخذ الشرائع من أفواه الخلفاء أو العظماء ليس إعتصاما بالله كما أمر بل هو اعتصام بهؤلاء الكبار وهو باطل وحرام لا هدى فيه ولا رحمة قال تعالى ((وأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم فى رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيماً)) وإتباع سنن الخلفاء التي لا وجود لها في الكتاب والسنة هو مخالفة صريحة لأمر الله الذي ينهى عن إتباع أي شيء إلا ما أنزل هو(( اتبعوا ما أُنزِلَ إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون)) فكل شرعة
تثير خلافا يتحتم ردها إلى الله (( أى إلى الكتاب والسنة )) فإن وُجدت وإلا الغيت من فورها قال تعالى (( وما ٱختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله))
وقال تعالى (( فأن تنازعتم في شيء فَرُدّوهُ إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )) فسنن الخلفاء أو غير الخلفاء التي لا وجود لها في الكتاب والسنة حكمها الرفض لا محالة ، لأن الاختلاف عليها والنزاع فيها يقضى بردها إلى الكتاب والسنة فلا حكم لها فى شرع الله إلا الالغاء والإبطال بلا جدال .
فتلك سبعة من الأدلة الشرعية على بطلان الأخذ بسنن الخلفاء أو غير الخلفاء ، وقد أشرنا قبل ذلك الى الدليل العلمي على بطلانها بأن هذا الحديث مفترى على رسول الله لم يرضه الشيخان في صحيحهما وإنما هو عن أحمد الأرقام التي ذكرنا آنفا ، فسقطت هذه الشبهة الضالة كما سقط غيرها .
– شبهة تقديس العلماء
تقديس علماء الدين إلى درجة العبادة هو عمل ذائع في السواد الأعظم من المسلمين ولكنهم لا يشعرون وقد بينّا ذلك
في باب ( عبادة الأحبار ).
وقد بين رسول الله أن عبادة العلماء ليست ركوعا لهم ولا سجوداً وإنما هي طاعتهم فيما يُحلّون لهم ويحرمون على خلاف أمر الله.
وعلماء المذاهب الذين اختلفوا في الكتاب وفرقوا دينهم شيعاً قد خالفوا أمر الله أفظع مخالفة واستحلوا ما حرم الله تحريم فإذا أنت نهيت الناس عن ذلك وأمرتهم ألا يتبعوا العلماء في تلك الخطيئة الكبرى كبرُ عليهم ما تدعوهم إليه ولم يستعموا إلى الآيات البينات التي تزجز عن ذلك أبلغ الزّجر ثم لم تكن حجتهم إلا أن أمطروك بأحاديث مكذوبة تقدس العلماء تقديساً كلها ملفقة موضوعة قد تنزه عنها الشيخان (البخاري ومسلم ) فلا تجدها أبداً إلا في تلك المصنفات التي جمعت كل منكر من الأحاديث ومعلول وموضوع فمن تلك المفتريات التي تقدس العلماء قولهم :
ا- العلماء هم ورثة الأنبياء .
ب- فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم أو
كفضل القمر على النجوم .
ج – إن العالم ليدخل فيما بين الله وبين عباده .
د – إنه ليستغفر للعالم من في السماوات ومن في
الأرض .
هـ -مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم
و – موت العالم ثلمة في الإسلام .
ومن الواضح أن هذا التقديس ليس إلا مهزلة خرافية وضلالة وثنية زينها الشيطان ليحتنك بها ملايين البشر ويجرهم
من خطامهم إلى مصارعهم ثم يقول لهم
(( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتُكُم فٱستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ ))
العلماء غير مقدسين ومهما قدسهم المقدسون فإن ذلك لا يبيح لهم افتراء الكذب على الله أو تفريق الدين شيعاً ومذاهب أو الاختلاف والشقاق في كتاب الله ثم الذين قدَّسوهم ما هم بناجين من الحساب.
نعم العلماء الأتقياء الذين يعلمون الناس الكتاب ولا يكتمونه ويقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم هؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون لكن العلماء الذين يختلفون فى الكتاب ويفرقون دينهم شيعاً هؤلاء قد توعَّدَهُم الله بالعذاب العظيم .
فلا معنى لتقديس العلماء الذين ارتكبوا خطيئة المذاهب لن ينفعهم هذا التقديس الكاذب ولن يُفلت المقدسين من عذابٍ وَاصِب
قال تعالى(( ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم إنكم في العذاب مشتركون أفأنت تُسمع الصُم أو تُهدى العُمى
ومن كان في ضلال مبين ))
فسقطت هذه الشبهة الضالة المضلة شبهة تقديس العلماء .
۹- شبهة طاعة الكبراء
هذه شبهة الضعفاء تحيك في صدور الأتباع والغوغاء إذا نهيتهم عن ضلالة أو حذرتهم من منكر أو باطل احتجوا بأن الكبراء يفعلونه ويأمرون به ، إذا نهيتهم عن الربا قالوا الحكومة والبنوك تفعله وإذا نهيتهم عن الميسر من رهان أو يانصيب أو غير ذلك قالوا فلماذا تصرح به الحكومة ؟! وإذا زجرتهم عن خطيئة المذاهب وتفريق الدين شيعاً وأمرتهم
تكون إجابتهم عن كل ما بالأجتماع أمه واحدة على الكتاب والسنة قالوا أسيادنا العلماء كلهم يتبعون المذاهب ، وعلى هذا النمط تكون إجاباتهم عن كل ما يُنْهون عنه مخالفاً للدين .
فطاعة الأسياد والكبراء وإتباع خطوات الفقهاء هو خلق السوقة والدهماء من قديم الزمان وسوف يعتذرون لله عز وجل
يوم الحساب كما اعتذروا للدعاة الناصحين في الدنيا بنفس المقالة فما نفعهم الاعتذار في الدنيا ولا في الآخرة ولقد حكى الله تبارك وتعالى ذلك في القرآن الكريم بقوله
(( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلاً – ربنا آتهم ضِعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً))
وراحوا يتلاومون جميعاً في الآخرة فما أغنى ذلك من عذاب الله من شيء قال تعالى(( وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذابِ اللهِ من شيء قالوا لو هدانا اللهُ لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص ))
وأمثال ذلك في القرآن كثير يؤكد أن إنصياع الضعفاء للكبراء لا ينجى هؤلاء ولا هؤلاء بل هم جميعا في العذاب شركاء ولو أنهم فضَّلوا طاعة الله على طاعة الكبراء لكانوا في الآخرة من السعداء.
الناس مفتونون بحب المعالى ، يَتَشَوَّفُونَ دائما لصاحب المنصب العالي ، ولا يحترمون إلا سلطان الوالى ، ولا يستمعون إلا لكل شامخ متعالى .
إذا جاءهم النصح الرشيد والقول السديد من التقى الخفي المتواضع قالوا إنما أنت زعنفة من الضفادع !! ما تخصصك ما وظيفتك ما مرتبتك ؟!! ثم ولَّوا عنه معرضين .
وإذا سمعوا الكفر البَوَّاح ، والرجس الفَوَّاح ، من ذى سلطان منيع أو مقام رفيع وصفوه بالنطق السامي ثم أصغَوا إليه مذعنين .
قول حبر الأحبار أو رأى مفتي الديار ولو كان يدعو إلى بوار أو يهدى إلى خسار هو أحب إليهم وأوقع في نفوسهم من آية أو حديث يتلوها متواضع من الأبرار هؤلاء إنما إصغاؤهم لأصحاب المقامات لا للأحاديث والآيات.
۲ – إذا قرأت عليهم ((إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ))
تململوا وتحوّلوا وإذا قرأت عليهم ميثاق حقوق الإنسان للأمم المتحدة استبشروا وتهللوا قال تعالى(( وإذا ذكر الله وحدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر الذين من دونِهِ إذا هم يستبشرون ))
وإذا قرأت عليهم قول الله تعالى(( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ))
أو قول الله تعالى ((وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون )) انفضوا كالحين ، أما إذا قرأت عليهم ميثاق باندونج أو رابطة الدول الأفريقية اهتزوا فرحين ، هؤلاء قد مقتوا أنفسهم وَلَمقتُ الله أكبر من مقتكم أنفسكم
-﴿ذلِكُم بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحدَهُ كَفَرتُم وَإِن يُشرَك بِهِ تُؤمِنوا فَالحُكمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبيرِ﴾ [غافر: ١٢]
كل ذلك يوضح بأعظم بيان أن سواد البشر يدينون بالإجلال والطاعة للكبراء لا لما جاءهم به الأنبياء إلا النزر اليسير جدا من الخلصاء فإذا رأيتهم معرضين عن الداعي إلى الوحدة الإسلامية ومصرين على خطيئة المذهبية فأعلم أنهم إنما يتبعون سليقتهم وينصرون فريتهم ويُفرغون جعبتهم وكل إناء بما فيه ينضح طاعة الكبراء هي شبهة السفهاء إنما هي زَبَد أو غثاء.
۱۰ – شبهة احتكار الإفتاء
أي قصر الإفتاء في الدين على أناس معينين ، لا يحل لغيرهم الكلام فى شئون الدين ، فيكونوا بذلك للفتوى محتكرين هذه شبهة يثيرها كثير من الناس إذا أمرتهم بمعروف أو نهيتهم عن منكر يقولون لك هل أنت من علماء الدين المتخصصين ؟ ! لاتحل الفتوى فى الدين إلا لهم ولا نقبلها الا منهم .
وهذا ضلال مبين ، يُفضى إلى رفض النصح والهداية من غير المحتكرين ، وهذا صد عن سبيل الله عظيم ، وهو إفتراء الكذب على رب العالمين ، وبرهان ذلك ما يأتي : –
أ – لا نص بهذا الاحتكار المزعوم ، ولا تشريع إلا بنص ، وشرع مالم يأذن به الله شرك وظلم عظيم قال تعالي” (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله )
ب – لا نص بتحريم الأرشاد والتعليم ، والأفتاء تعليم ، فمن حرم الأفتاء على أحد من المسلمين فقد افترى على الله الكذب قال تعالى (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب )
ج -أمر الله تعالى من كان عنده علم من الكتاب أن يبينه للناس ، ونهى عن كتمانه وتوعد على الكتمان بالعذاب الشديد قال تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ).. وقال تعالى( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون فى بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار )
وقال تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون )
.. فهذا أمر ونهي عام لكل من عنده علم من الكتاب ، لم يجعله الله تعالى وقفاً على المحتكرين ، ففرية
الاحتكار هي بهتان عظيم.
د – فرض الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع المؤمنين والمؤمنات بلا احتكار لأحد أو تخصيص لأحد قال تعالى(( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) ، وقال صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان )
.. فجعل الله ذلك فرضاً على كل مؤمن ومؤمنة لم يخص به إناسا دون آخرین .
هـ – فرض الله تعالى بذل النصح لكل مسلم ، أمراً عاماً لجميع المسلمين لم يجعله حكرا لطائفة منهم دون الباقين ، وروى البخاري في صحيحه عن جرير ابن عبد الله قال [ بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم ] . وقال [ الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ] . وأعظم النصح وأوجبه هو الأرشاد إلى الحق والتحذير من الضلال والباطل ، لا احتكار في ذلك لأحد .
و – أخطأ أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لما أمر وهو على المنبر بتحديد مهور النساء ( عدم المغالاة فيها ) فردّته امرأة إلى الصواب بآية من كتاب الله (وآتيتم إحداهن قنطاراً) فقبل فتواها ورجع عما أمر به ، فهذه فتوى من الأدنى للأعلى قوبلت بالأذعان والتسليم ولم ترفض بدعوى الاحتكار الكاذبة وأن الفتوى لا تحل إلا للمتخصصين !!!
ز – أخطأ ابن عباس لما أفتى بأن عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين فردّه إلى الصواب غلام بآية من كتاب الله وكان أبو هريرة حاضراً فقال أنا مع ابن أخي ( أى الغلام أبو سلمة ) وأيدتهما أم المؤمنين أم سلمة ، فهذه فتوى من الأدنى للأعلى قوبلت بالأذعان والتسليم ولم ترفض بدعوى الاحتكار الكاذبة .
فثبت من كل ما تقدم سقوط هذه الشبهة الخرقاء ، شبهة احتكار الأفتاء ، لجماعة من الفقهاء.
و مستغل هذه الشبهة هم الغوغاء والفقهاء على السواء يتنطع بها الغوغاء ويتذرع بها الفقهاء.
أما الغوغاء فتحملهم الجهالة ، على التترس بهذه الضلالة لصد الناصحين إذا حذروهم من خطيئة المذاهب ، وحتى لا يفتضح جهلهم إذا عجزوا عن البراهين لاثبات ضلالتهم ، فيتخلصوا من المأزق بإحالة الداعين إلى فتاوى المختصين أما الفقهاء فهم يعلمون قوة الحجة ونصاعة البرهان على
خطيئة المذاهب ، لأنها آيات بينات من كتاب الله تترى ، وأحاديث شامخة في الصحاح لا ينكرها إلا الأشقى . الفقهاء يعرفون ذلك تمام المعرفة ، ولكنهم نشأوا في المذاهب وعلموا الناس المذاهب ، وهم رؤوس ذوو مآرب ، يحيدون عن المصاعب ، فهم يتذرعون بدعوى الاحتكار لكي يتجنبوا النقاش والحوار ، فى قضية محتوم عليهم فيها الخسار ، يقولون للداعى أن للفتيا رجالا من الأحبار هم وحدهم أصحاب القرار .
ثم هؤلاء الفقهاء ما منهم إلا من هو أحد الأصناف الخمسة الذين ذكرناهم في شبهة ( سكوت الأحبار ) ص ١٠٧
كل صنف منهم يعمل على شاكلته قال تعالى ((قل كلُُ يعمل على شاكلتِه فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ))
والذين جُعلت لهم حكرة الإفتاء هم كبار العلماء – من وجهة نظر الحاكمين – لا من حيث الحق اليقين ، الذي يعلمه رب العالمين – هم الذين أسندت لهم رئاسة العلماء ، أو أنيطت بهم مناصب الأفتاء ، أو قلدوا رئاسة القضاء أو ما شاكل هؤلاء ، وهؤلاء جميعا هم عمال الحاكم هو يوليهم
وهو يعزلهم.
ففضلا عن أن احتكار الأفتاء هو في ذاته عمل زائف ، وأن قصره على طائفة من الوظائف ، أصحابها في قبضة الحاكم ما منهم إلا طامع أو خائف ، كل ذلك يجعل الأفتاء ، مجرد تعبير عن هوى الحاكم ، ولو عارض ذلك جميع الشرائع ، وأي أفتاء في الدين هذه صورته ، وتلك حقيقته هو أحق أن ينبذ بالعراء ويُقابل بالرفض والإزدراء ، ليس هذا بأفتاء وإنما هو ترجمة أهواء ، وفيما يلى تفصيل ذلك والله المستعان .
١ – الأفتاء في الدين هو كله لله في كتابه أو على لسان رسوله ، لا لأحد من الناس كائناً من كان كلما سأل الناس عن شيء أفتاهم الله ، ولم يُفتهم أحد سواه والأفتاء كله لله قال تعالى ((يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ))
.. وقال تعالى ((ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ))
وقال تعالى(( يسألونك عن الأهلة .. يسألونك عن الخمر والميسر ، يسألونك عن المحيض ، يسألونك عن الشهر الحرام ، يسألونك ماذا ينفقون ، وغير ذلك كلما استفتى الناس أو سألوا عن شيء أفتاهم الله عز وجل ولم يفتهم أحد سواه فالفتوى كلها لله ، فما زالوا كذلك حتى أتم الله النعمة وأكمل الدين ثم قبض نبيه الكريم وترك فيهم الكتاب العزيز تفصله سنة النبي الكريم ، فيهما الفتوى لكل شيء والاجابة عن كل سؤال ، وأوصاهم الله عز وجل ألا يسألوا إلا الله قال تعالى ((وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب))
وأمرهم ألا يحتكموا في أي نزاع إلا إلى الله والرسول قال تعالى(( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً))
فالأفتاء في الدين هو كله لله ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبلغ لأمر الله المفصل لأحكامه ، ما أفتى في الدين برأى نفسه قط قال تعالى(( وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحى يوحى ))
هذا وهو سيد البشر أجمعين فكيف بالذين يفتون بارائهم في الدين ويتنافسون في المفتريات والتفانين ؟ ! أتشرعون من الدين مالم يأذن به الله ؟ أم تفترون على الله الكذب ؟ ! أم يوحى اليكم ، أم لكم دين غير هذا الدين ؟ !!
أيما أنسان يفتي في مسألة من مسائل الدين ليس له إلا طريقان إما أن يخرج لنا الحكم من كتاب الله وسنة رسوله
فهذه اذاً ليست فتواه وانما فتوى الله أخرجها لنا مشكوراً من كتاب الله وأما يفتري حكماً ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله وإنما هو راي ارتآه او نقله عن شيخه أو مذهبه أو مصنفات الآخرين فهذا إفتراء يُضرب به عرض الحائط لا كرامة للمفترين (قل آلله أذِنَ لكم ام على الله تفترون )
١-الإفتاء في الدين هو كله لله رب العالمين إما نقرؤه نحن في كلام الله أو كلام رسوله، أو يخرجه لنا الباحث الأمين غير متأول ولا متكلفة ،ولا يتفلسف ولا متعسف فإذا ثبت أن الإفتاء في الدين لا يكون إلا لله رب العالمين أصبحت قضية إحتكار الإفتاء وحبسه على إناس معينين هي قضية غير ذات موضع لأنها نزاع على أمر ممنوع( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون)
٢- هذه الفئات من العلماء التي إحتكرت الإفتاء هم من البشر الخطائين فإذا كان الافتاء حكراً عليهم امتنع قيام إفتراء آخر من غيرهم يصحح أخطائهم وفي هذا كتمان للحق وإرغام الناس على قبول الباطل وإتباع الضلال
٣- هؤلاء المحتكرون للإفتاء هم عمال الحاكم فلا يكون منهم الا تزيين أفعاله ومتابعه هواه وهذا يطعن الفتوى في الصميم ويقلعها من جذورها ويبطل إعتبارها عند كل مسلم رشيد وكل إنسان يرى رأي العين ممالأة الفقهاء
للحاكمين في الشرائع المناقضة للدين ،وتلك الأيام التي نعيشها طافحة بالأمثال، سل النساء عنها قبل الرجال، وافتح السجلات تفجعك الأهوال.
ليس في الاسلام كهنوت، ولا تأليهُ طاغوت- ليس في الدين اسرار ،يحكرها فريق من الأحبار – ليس في الإسلام شفرة ولا طلاسم مطويه في الخزائن أو مخفيه في القماقم يحتكرها فقيه أو عالم .
كتاب الله وسنة رسوله ملك مشاع لجميع المسلمين هم في متناول الجميع يستطيع أدنى المسلمين أن يقارع بالآيه أو الحديث أمير المؤمنين أعلاهم وأدناهم يجب أن يأتوا للحق مزعنين.
القرآن هو شرعنا الوحيد والسنة من بعده تفصيل وتحديد وما الحكر وما لمحتكر الفتوى من شرع جديد( قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد).
٥ـ ليس في الإسلام مجمع قديسين ولا طيلسان سحري لرجال الدين كل مسلم عنده شيء من علم الكتاب هو من رجال الدين سواء قبع في الدكاكين او جالس السلاطين ليست وظائف في الدين هي التي تخول شاغليها التحدث في الدين إنما العلم بالدين عند أي رجل من المسلمين هو الذي يخوله ذلك سواء كان شاغلاً لوظيفة في الدين أو لا وكم من شاغل لوظائف الدين هم في ضلال مبين (منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) وحسبكم
أصحاب المذاهب وتناقضتهم الرهيبة في شرائع الدين أفيسمع هؤلاء لمجرد أنهم من رجال الدين إنما الفتوى لله رب العالمين يمكن لنا نصوصها كل عالم أمين لا فتوى لبشر في الدين فإذا ثبت سقوط الفتوى عن الناس أجمعين فإحتكرها لطائفة منهم هو إفك وضلال مبين.
٦ـ ليس في الاسلام أصنام بشريه يجثو أمامها متلمس العفو والإحسان وليس في الإسلام صكاكُ افكٍ تباع لطالب الغفران، بل الله وحده هو الذي يعفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وهو الذي يعطي ويمنع كما يشاء لا يشرك في حكمه أحداً ولكن عابدي الأحبار ومؤلهي كل حبّار،يتمرغون في الصغائر باليل والنهار،عَدلوا عن عز العبودية للواحد القهار، إلى ظل العبودية لكل هالك من الأشرار فليخلع المحتكرون سرابيل البهتان وليؤدُّا امانه العلم ويحذروا الكتمان ولا يتخذوا إحتكار الفتوى ذرعية للسلطان.
٧- ليس في الاسلام توكيلات إلآهيه أو تفويضات سماوية لمن يسمونهم رؤساء الاديان أو تفويضات لتلقى إعترافات أهل العصيان بإستدراجهم خلف ستائر الكوهان إبتغاء سحت أو غيلة أو سلطان كل ذلك رجس من عمل الشيطان بل العصاة مامورون أن يستتروا بستر الرحمن وأن تكون توبتهم في كنف الملك الديان وذلك أعفى للأثر وأدفع للخطر وأدعى الإطمئنان فيا دعاء الحكره لا تفتح الأبواب للشيطان حسبكم تربصه وراء الجدران
:٨- ليس في الأسلام ألقاب فخر للعالين ، ولاهالات مجد للمستكبرين ، ولا شارات غُلب ، ولا أرقام ثوب ، تميز الأشراف عن الضعاف ولا الحكام عن المحكومين .
اَلْقَى عبد الله ابن عمرو ابن العاص وسادةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجلس عليها ، فجلس على الأرض ، وصارت الوسادة بينهما أبي رسول الله أن يتميز في مجلسه بوسادة وكذلك فعل الخلفاء الأربعة من بعده ، يجلسون مع الناس على الأرض ، لا نمارق عجمية ، ولاقاعات بيضاوية ، لم يتميزوا عن الناس في مجالسهم بشيىء .
ثم هؤلاء الأُمراء والرؤساء ، كانوا لا يدعون إلا بمجرد الأسماء ، دون ألقاب ، فأذا إجتهد أحدهم في التكريم كانت الكنية غاية التعظيم ، بذلك انكشف الهوان عن نفوسهم ، وإنعدم الذل والخضوع في صفوفهم ، إلا لرب العرش العظيم وحده دون سواه ، لكن المسلمين الذين قلدو الكافرين في كل شيىء قد تنافسوا مثلهم في الألقاب ، فظهر فيهم ، قاضي القضاه وشيخ المشايخ ، وحبْر الأحبار ، ومفتي الديار ، والصدر الأعظم والأمام الأكبر ، وملك الملوك ، وشاهنشاه ، وفنون من جنس ذلك كثيرا ، أحدثت فجوة هائلة المرؤوسين والرؤساء ، وأغْرتِ الكبار بالغطرسة والكبرياء ، وأرغمت الصغار على الخنوع والإنحناء ، فتولدت من ذلك عبادة الكبراء والفقهاء ، والله عز وجل يمقت ذلك أشد المقت
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال [ أخنعُ الأسماء يوم القيامةعند الله رجل تسمى ملك الأملاك ]
ألقاب العالين في تباب ، وأنوفهم راغمة في التراب ، وهم أهون على الله من الذباب ، فنهنهوا أيها المحتكرون من الألقاب ، وكفكفوا من التفاخر في المجالس والمراكب والثياب ، كل الناس لآدم وآدم من تراب ، ولا تغرينكم ألقابكم بالاستكبار ، ولا تأخذنكم العزة بالاثم ، فتستنكفوا عن الرجوع إلى الحق ، فان الله هو الواحد القهار ، وهو يقصم كل جبار.
٩ – ليس لبشر سلامة من الأخطاء ، كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ، لاعصمة من الخطأ في الدين لأحد من الناس كائنا من كان ، دون رسول الله ، فأذا أخطأ أحدكم أيها المحتكرون للأفتاء ، وردّكم إلى الحق أصغر صغير من المسلمين ، بالنص القطعي والسلطان المبين ، فأقبلوا على الحق مخبتين مذعنين ، واحمدوا الله الذي ساق لكم البراهين وجعل فيكم ناصحين .
يتبين من كل ما تقدم أن إحتكار أية طائفة للافتاء والحكم في شرائع الدين ، هو شر مستطير يتحتم إبطاله واستئصاله بل الحق أحق أن يتبع ولوقاله المستضعفون والباطل أحق أن يُقتلع ولو قاله العالون.
الأفتاء أو الحكم في أية شرعة من شرائع الدين ، يجب أن يكون أولا وآخرا ، ودائما وأبداً ، للنصوص المتيقنة.
الصحة القطعية الثبوت ، من الكتاب والسنة لا لكبار الرؤوس ، ولا لنفر مخصوص لا لحبر الأحبار ، و لالمفتي الديار ، ولا لأعلى لقب من الكبار . إذا كان الإفتاء في مسألة فردية ، فأى رجل من المسلمين عنده فيها علم صحيح ، من النصوص الثابتة لا من آراء الأحبار ، ولا من بطون الأسفار ، ففى وسعه الإجابة ( أى الافتاء) مقرونة بالنص المتيقن من كلام الله وكلام رسوله . واذا كان الأفتاء مطلوباً في مسألة عامة ، تهم جميع المسلمين ، فلا يقومن بها أبداً أى رجل بمفرده ، كائناً من كان ، علماً وفضلاً ومنصباً، لأنه بشر من الخطائين ، ولا ينبغي إذاعة الخطأ في الدين على ملأ المسلمين ، فيُضل به من الخلق كثيرين .
بل يجب أن يصدر الإفتاء في الدين الموجه إلى شعوب المسلمين ، عن جماعة من رؤساء العلماء المتقين ( أى لجنة ) وأن تصدر الفتوى عنهم مجتمعين ، مؤيدة بالنصوص القطعية الثبوت من السنّة والكتاب ، لا من تعاليم المذاهب والأحزاب ، ولا برأى أى واحد منهم ولا برأى جميعهم ولا برأى أى انسان ، كائنا من كان ( الرأى في الدين مرفوض رفضاً باتًا مطلقاً في كل شيىء الدين من عند الله وحده دون سواه ) ويجب أن يكونوا جميعاً مستقلين تمام الإستقلال ، ليس أى فرد منهم مرؤوساً لآخر في نفس اللجنة أو مشتركاً معه في أى عمل ، بل يأتون جميعا من أطراف متباعدة ، ليس لأى واحد منهم على الآخر أدنى شبهة من سلطان بل ويجب
-أن يُذكر في صلب الفتوى إن كان ذلك بأجماع الأعضاء أو هو بأغلبيتهم فقط وفي هذه الحالة يتحتم ذكر حكم كل مخالف مقروناً بحجته ، فقد يكون الحق في جانب الأقلين والخطأ في جانب الأكثرين ، فإذا أذيعت الفتوى على المسلمين بهذا الوضوح وهذه الصراحة ، علم الناس في المشارق والمغارب أين الصواب وأين الخطأ ، وعلموا من المصيب ومن المخطىء ، لا مداهنة ولا مداراة ، وكان بعد ذلك من حق كل مسلم عنده الدليل القاطع على بطلان الفتوى كلها أو بعضها أن ينشر على ملأ المسلمين الصواب الذي يعلمه بحجته وبرهانه ، وكل حجة لأى انسان ليست في كتاب الله أو سنة رسوله هى حجة داحضة لا إعتبار لها ، فعند ذلك يظهر الحق والمحقون ويتوارى الباطل والمبطلون
(ويحق الله الحق بكلماتهِ ولو كَرِه المجرمون )
۱۱ – شبهة اختلاف القراءات
يقول المحتجون بهذه الشبهة في تبرير الاختلاف في الكتاب ( اختلاف المذاهب والأحزاب ) يقولون أليس الذين اختلفوا في قراءة القرآن ، وكاد أحدهما أنيساور الآخر في صلاته ، لما اختصموا إلى رسول الله وعرضوا عليه القراءات المتباينة قال كلاكما محسن ؟ ! فإذا جاز الاختلاف في قراءة القرآن ولم يثرب رسول الله على واحد منهم ، بل قال كلاكما محسن فَلِمَ لا يجوز أيضا الاختلاف في الأحكام والشرائع ؟ ! ويكون كل واحد من المختلفين محسناً ، ولا داعي للتثريب عليه
قلنا لهم هذا هو عين التنطع والغباء ، أجعلتم الحرام كالحلال لمجرد تشابه الأسماء ؟ ! جعلتم الذي اباحه الله كالذي حرمه الله ؟ ! أليس الله الذي أباح تنوع القراءة على الأحرف السبعة هو الذى حرّم الإختلاف في الكتاب ونعته بالشقاق البعيد ، وتوعد عليه بأشد الوعيد ؟ ! فما لكم كيف تحكمون ؟ !
قالوا اختلاف القراءات ، هو كاختلاف التشريعات كلاهما اختلاف وزَعَمُوا أنه مادام قد جاز اختلاف القراءات في الكلمة الواحدة ، فقد جاز اختلاف الأحكام في الشرعة
الواحدة ، وكل واحد من المختلفين محسن ! ! !
فقلنا لهم الفرق هائل بين الاختلاف في قراءة الكتاب ، والاختلاف في شرائع الكتاب ، هذا خيار حلال بين مباحات ، وهذا شقاق حرام من أشد المحرمات ، حكم الاختلاف في القراءات غير حكم الإختلاف في الشرائع فليسوا سواء ، ولو اشتركوا فى لفظا الاختلاف ، ونضرب لهم مثلا ، المطر ماء ، والبول ماء ، فهل حكم المطر كحكم البول لمجرد اشتراكهما في لفظ الماء ؟ !
فالذين قاسوا اختلاف التشريعات على اختلاف القراءات ، قد وقعوا في الضلالات قال رسول الله (هلك المتنطعون قالها ثلاثا )
إن الله تعالى هو الذي أنزل القرآن على سبعة أحرف تيسيراً على أصحاب اللهجات المختلفة من المسلمين فالقارئون بهذه
قلنا لهم هذا هو عين التنطع والغباء ، أجعلتم الحرام كالحلال لمجرد تشابه الأسماء ؟ ! جعلتم الذي اباحه الله كالذي حرمه الله ؟ ! أليس الله الذي أباح تنوع القراءة على الأحرف السبعة هو الذى حرّم الإختلاف في الكتاب ونعته بالشقاق البعيد ، وتوعد عليه بأشد الوعيد ؟ ! فما لكم كيف تحكمون ؟ !
قالوا اختلاف القراءات ، هو كاختلاف التشريعات كلاهما اختلاف وزَعَمُوا أنه مادام قد جاز اختلاف القراءات في الكلمة الواحدة ، فقد جاز اختلاف الأحكام في الشرعة
الواحدة ، وكل واحد من المختلفين محسن ! ! !
فقلنا لهم الفرق هائل بين الاختلاف في قراءة الكتاب ، والاختلاف في شرائع الكتاب ، هذا خيار حلال بين مباحات ، وهذا شقاق حرام من أشد المحرمات ، حكم الاختلاف في القراءات غير حكم الإختلاف في الشرائع فليسوا سواء ، ولو اشتركوا فى لفظا الاختلاف ، ونضرب لهم مثلا ، المطر ماء ، والبول ماء ، فهل حكم المطر كحكم البول لمجرد اشتراكهما في لفظ الماء ؟ !
فالذين قاسوا اختلاف التشريعات على اختلاف القراءات ، قد وقعوا في الضلالات قال رسول الله (هلك المتنطعون قالها ثلاثا )
إن الله تعالى هو الذي أنزل القرآن على سبعة أحرف تيسيراً على أصحاب اللهجات المختلفة من المسلمين فالقارئون بهذه
الأحرف المختلفة ليسوا في الحقيقة مختلفين ، بل هم محسنون آخذون برخصة الله تعالى منفذون لأمره ، أما الذين إختلفوا في الكتاب وغيروا شرائع الدين كما فعلت المذاهب والأحزاب ، فأولئك نعتهم الله بالشقاق البعيد ، ووعدهم العذاب الشديد على أن الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن غير معلومة علم اليقين لا نص يفصلها ، وقد اختلفت فيها الأقاويل ، ولذلك فمن الأرجح أن هذه الأحرف السبعة كانت عبارة عن لهجات القبائل المختلفة في جزيرة العرب ، لهجة قريش غير لهجة هذيل غير لهجة غطفان غير لهجة تهامة وأنزل الله تعالى هذه الرخصة تيسيرا على الداخلين في الأسلام في بداية الأمر لكى يقرؤا القرآن كل قبيلة بلهجتها خصوصاً وإنهم كانوا أُميين لا تجمعهم القراءة والكتابة على لهجة واحدة وعندما قُبض النبي كان الأسلام قد غطى جزيرة العرب بأكملها وجاوزها إلى ما جاورها من البلدان وكَثِر القراء من المهاجرين والأنصار – وانبثوا فى جميع الأرجاء ، فلم تعد هناك حاجة إلى تلك اللهجات المختلفة ، وقرأ الجميع القرآن بلغة قريش الذي كان مكتوبا بها في الجريد واللخاف والجلود والأكتاف ، ومحفوظا بها في صدور القراء من المهاجرين والأنصار ، فلما نسخ عثمان المصحف من تلك الجلود والاكتاف التي أملاها النبى الله على كتبة الوحي بلهجة قريش أمرهم عثمان اذا اختلفوا ( عند النسخ ) في حرف من
حروف القرآن أن يكتبوه بلهجة قريش فهي التي نزل بها القرآن ونشر هذا المصحف الأمام في الأمصار وآمر بإحراق كل ما عداه ، وهذا المصحف الأمام هو الذي نقرؤه الآن في مشارق الأرض ومغاربها ليس فيها أي اختلاف من أقصى المعمورة الى أقصاها ، وتمت كلمة ربك الحسنى ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافِظون )) وبذلك رفعت رخصة قراءة القرآن على الأحرف السبعة رفعاً عملياً ، ليس في المصاحف التي في أيدى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا كتابة واحدة ، وقراءة واحدة هي لهجة قريش ، ولذلك لا تجد في النصوص أي بيان عن تلك الأحرف السبعة ، ما هي ؟ ! ولمن هي كانت رخصة مؤقتة في بدء الأسلام ثم رفعها الله تعالى لإنعدام الحاجة إليها بل ولقيام الحاجة الملحة إلى توحيد كتابة القرآن وقراءته توحيداً للجماعة ، ومنعاً الإختلاف وتأكيداً لحفظ القرآن العظيم كتاباً واحداً لا إختلاف فيه البتة (تنزيلُُ من حكيم حميد )
قلنا أن الأحرف السبعة نفسها ليست معلومة علم اليقين بل هي مجال لكثير من الخرس والتخمين ، فقد أوصلها ( قراءه ) بعض المصنفين إلى قرابة خمسة وثلاثين ، ولكن الأحرف السبعة بالتأكيد ليست هي القراءات السبعة التي صنعها مشايخ القارئين ، لانص ولا برهان ولا بينة ، إنما هي تفانين من وراء تفانين ، ونماذج من اللغو والعبث بالدين نعوذ بالله من الضلال والمضلين
هذه الأحرف السبعة التي كان مأذوناً بها فى حياة النبى لم يكن يعلمها أحد غير نبى الله والذين أقرأهم إياها أصحابه فمثلا قرأ النبي سورة الفرقان على عمر ابن الخطاب بحرف من هذه السبعة فحفظها كذلك (كما أقرأه إياها النبي ) وقرأ النبي نفس سورة الفرقان على هشام ابن حكيم بحرف آخر من السبعة فحفظها كذلك لا هشام يدرى حرف عمر ولا عمر يدرى حرف هشام والنبي يدريهما جميعا قرأ سورة الفرقان على عمر بلهجة قريش لأنه قرشى ، وقرأها على هشام بلهجة بني أسد لأنه أسدى ، وهكذا كلما قرأ القرآن على أحد من أصحابه ، قرأها على الحرف الذي هو من لهجة قومه فلا يعرف أحد من الأصحاب إلا الحرف الذي تعلمه من النبي ونبي الله يعلم الأحرف كلها
فاختفت الأحرف السبعة بوفاة الذين تعلموها من النبي إلا حرف واحد هو حرف لهجة قريش التي كُتب بها القرآن في اللخاف والأكتاف ثم نسخت في المصحف الأمام ، وأُحرق ما سواها من الأحرف الأخرى التي كتبها الناس لأنفسهم تعلماً من نبي الله أو تعلماً من أسلافهم من النبي وهكذا أبقى الله تعالى للمسلمين بعد نبيهم حرفاً واحداً بلهجة واحدة فى مصحف واحد هو المصحف الأمام لا مصحف غيره ، فلله الحكمةُ البالغة وهو أحكم الحاكمين.
فنحن مع كراهتنا ورفضنا لجميع القراءات ، غير التي في
-المصحف الأمام الذي حفظه الله تعالى دون سواه من المصاحف، نحن مع ذلك نجد القراءات التي تعلق بها
المتعلقون ، تقع في صنفين اثنين :
1 – صنف لا يغير المعنى يمكن التغاضي عنه على مضض وإن كان ما في المصحف الأمام هو الأكمل والأفضل والواجب إتباعه والتزامه من جميع المسلمين ، ومن أمثلة هذا الصنف الذي لا يُغيّر المعنى ، من قرأ (التابوه ) بدلا من ( التابوت ) ومن قرأ ( على حين ) بدلا من ( حتى حين ) ومن قرأ ( طلع منضود ) بدلا من ( طلح منضود ( ومن قرأ ( تِعلمون ) بدلاً من ( تَعلمون ) أو أى شيء مثل ذلك ، لم يغير المعنى ، وانما هي مرادفات مختلفة من لهجات مختلفة للمسمى الواحد تفيد نفس المعنى فهذه يمكن السكوت عنها.
۲ – صنف يغير المعنى مثل من قرأ (واتموا الحج والعمرة للبيت )بدلا من ((وأتموا الحج والعمرة لله)) ومن قرأ (وانذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم الصالحين ). بزيادة جملة في الآية ليست من القرآن ومن قرأ (والليل إذا يغشى والنهار اذا تجلى والذكر والأنثى) بدلا من ((وما خلق الذكر والانثى)) فاسقط من الآية عبارة ( وما خلق ) ومن قرأ (وجاءت سكرة الحق بالموت ) بدلا من ((سكرة الموت بالحق )) محدثاً تقديماً وتأخيراً في القرآن ، فهذا وأمثاله يجب نسفه نسفاً وإزالته فوراً والنكال بفاعله نكالاً ، ليكون لمن بعده عبرة وردعاً ، ففضلاً عن أن تلك القراءات هي إفتراء الكذب على الله فهي تضل
-الكثيرين وقد تُغيّر بعض شرائع الدين فتقع تحت طائلة قوله تعالى(( فويلُُ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلُُ لهم مما كتبت أيديهم وويلُُ لهم مما يكسبون ))، وتحت قوله تعالى (( وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وماهو
من الكتاب ويقولون هو من عند الله وماهو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ))
كل ذلك وأمثاله مما يغير صورة القرآن ولفظه ورسمه ومعناه فهو مرفوض رفضاً باتاً بتحتم تغييره فوراً.
فإختلاف القراءات على الأحرف السبعة الذي كان مأذوناً به على عهد رسول الله والذي تلاشي تلقائياً بتوحيد اللهجات كلها في لهجة المصحف الأمام ، لم يكن خلافاً بين حلال و حرام بل كان ممارسة لمباحات مختلفة كلها حلال ليس فيها أى فعل حرام كالذي تقترف المذاهب بإختلافها في الكتاب من إفتراء الكذب على الله بتحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، وليس فيها شرع مالم يأذن به الله كما في المذاهب ، فلا مقارنة بين إختلاف القراءات ، وإختلاف المذاهب في الكتاب فسقطت هذه الشبهة كسابقاتها وتعدت خطيئة المذاهب عن كل حجة أو برهان .
۱۲ – شبهة الاجتهاد
هذه شبهة فسيحة ، تختلط فيها الأقوال المليحة بالأفعال القبيحة ، كشبهة المتوسلين العصاة ، بالصالحين التقاة التوسل
-بالإعمال خير عميم والتوسل بالأولياء فعل ذميم ، قد نعت الله كل متوسل بالأولياء والأبرار ، بأنه كاذب كفار قال تعالى ((والذين اتخذوا من دونه أولياء مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم في يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار ))
فكذلك الاجتهاد في الأحكام منه صالح مأجور ومنه فاسد مأزور المتعلقون بشبهة الإجتهاد من المتمذهبين يقولون ، أليس الإجتهاد مشروعاً ، ومن أجتهد فأخطأ فله أجر واحد ، ومن أجتهد فأصاب له أجران ؟ ! إذاً فلا بأس باختلاف المذاهب ، لأن للمخطىء منه أجر وللمصيب أجران.
هذه قضية كبيرة ، تحتاج تفصيلات كثيرة ، لأزالة اللَّبس والغموض وليس هذا الكتاب مجالها ، ولكن هذا لا يمنع من القاء بعض الضوء عليها ليعرف الباحث طريقه ، ولا يضل السالك سبيله .
الإجتهاد الخاطىء الذى يؤجر صاحبه هو بالضرورة الاجتهاد غير المتلبس بكبائر أو معاصى ، هو الإجتهاد غير المخالف للنصوص هو الإجتهاد الذى لا يشرع من الدين ما لم يأذن به الله ، فإن ذلك شرك وظلم هو الإجتهاد الذي لا يحل ما حرم الله ولا يحرم ما أحل الله ، فإن هذا هو إفتراء الكذب على الله هو الإجتهاد الذى لا يحدث في الدين ماليس منه ، ولا يعمل عملاً لم يكن عليه أمر رسول الله ، ولا يشترط شرطاً ليس في كتاب الله ، فكل ذلك رجس مرفوض وعمل
–
مردود ، هذا هو عين الإختلاف في الكتاب الذي نعته الله بالشقاق البعيد ، ووعد عليه بالعذاب الشديد ، هذا هو الاختلاف في الدين ، الذي هو هلاك الأولين والآخرين . ونضرب مثلاً الإجتهاد المردود غير المأجور لتورطه في كبيرة من الكبائر هي كبيرة الربا ( إحدى السبع الموبقات ) والذي ردّه رسول الله.
۱ – روى البخاري في صحيحه ما فعله أخو بني عدى الأنصاري الذي ولّاه النبي على خيبر فجاءه يتمر جنيب أي جَيْدٌ ) ( فقال له النبي أكل تمر خيبر كذا ؟ !
قال لا والله يارسول الله إنا لنشترى الصاع ( أى من هذا
الجيد ) بالصاعين من الجمع ( أى التمر الردىء ) قال صلى الله عليه وسلم لا تفعل . بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم حنيباً ]
۲ – وروى البخاري في صحيحه ما فعله بلال اذا جاء النبي بتمر برنى فقال له النبي [ من أين هذا ؟ !] قال بلال كان عندى تمر ردىء فبعت منه صاعين يصاع لنطعم النبي فقال النبي عند ذلك أوَّه أوَّه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشترى فبع التمر ببيع آخر ثم اشتريه ]
فهذان الصحابيان اجتهدا فخالفا النص وإقترفا الربا الحرام ، فرد النبى اجتهادهما المخالف لشرائع الاسلام فلا يقبل أى إجتهاد مخالف للنصوص ، إنما يقبل الإجتهاد اذا كان موافقاً للنص ، وإنما وقع الخطأ في التقدير فقط، والتقدير يختلف من زمان الى زمان ومن مكان عن مكان ومن رجل الى رجل وهو تفاوت مأذون فيه لأنه تفاوت في المقدار فقط ولكنه كامل المطابقة والموافقة للنصوص كما في تقدير المهور والنفقات والأجور والمغارم وجزاء الصيد وغير ذلك ، فإن الحاكم في كل ذلك مأمور أن يقدر برأى نفسه تباعاً لعرف زمانه ومكانه ، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ . فله أجر واحد ، لكن لا يقبل أبداً أى إجتهاد يخالف شرائع الكتاب
فسقطت هذه الشبهة مبرراً لاختلاف المذاهب في شرائع الكتاب.
۱۳ -شبهة السنة الحسنة
يقول المحتجون بهذه الشبهة أن من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها ومثل أجور من عمل بها بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، فكل جديد في الاسلام ، له صفة السنة الحسنة هو عمل مبرر ، وفاعله مأجور ، والمذاهب في الاسلام ، هى من هذه السنن الحسنة ، لأنها دراسات في الشرائع والأحكام ، تعود بالخير على أمة الأسلام ! ! ! هل وعيتم هذا الكلام ؟ !
هل سمعتم قصة التي أباحت فرجها لتطعم الأيتام ؟ ! هل عرفتم مغالطة المشركين ( الأب والابن والروح القدس إله واحد ) تمويها على العوام ؟ !
هل علمتم جواب الوثنيين ( مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفی ) دفاعاً عن الاصنام ؟ !
هو كيف تكون معصية الله بالاختلاف في الكتاب سنة
ان تبرير أقبح من كل ذلك الكلام ! !
خطايا المذاهب بأنها من قبيل السنة الحسنة ،
حسنة ؟!
به الله سنة حسنة ؟ ! كيف يكون شرع مالم يأذن كيف يكون تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله سنة
حسنة ؟!
كيف تكون البدع المردودة والأحداث المرفوضة سنة
أتقولون للشقاق البعيد ، والظلم الشديد ، وافتراء الكذب
على الله ، أتقولون لهذا وماشاكله أنه سنة حسنة ؟ ! كلا ، لاحجة في شيىء من هذا الكلام ، ولا براءة لأحدهم من الأجرام بل هم يعمهون في الظلام ، تخبلهم الأوهام ، وتثقلهم الآثام ، كلا ، بل للعاهر الحجر ، وللمشرك مقعده في سقر لا محيص للمجرمين من النار ، ان الله لا يهدى من هو كاذب كفار ان احتجاج المتمذهبين بالسنة الحسنة ، انما هو كلام من أجل الكلام لأنه لا يحل لهم الحرام ولا يبرئهم من الآثام ، بل هو خلط غبى جاهل ، يلبس عليهم الحق بالباطل ، وفيما يلى تفصيل وبيان : هذه العبارة التي أوردها المتمذهبون وادارؤا فيها ، هي
طرف من حديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه عن جرير ابن عبد الله قال [ جاء ناس من الأعراب الى رسول الله الله عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فحث
بينما السنن الحسنة مأمور بها مأجور عليها ه – المذاهب فرقت الدين ومزقت الأمة والسنن الحسنة
كلها بر ورحمة . فأين الشبه أيها المتمذهبون ، مالكم كيف تحكمون ؟ ! فالمقصود بالسنة الحسنة هو اعمال البر والمعروف التطوعية ، لا الفرائض الشرعية ، شرع مالم يأذن به الله شرك ويستحيل ان يكون سنة حسنة لكن جمع التبرعات وانشاء السبل والملاجيء وتحفيظ القرآن وغيرها من أعمال البر هي سنن
حسنة في الاسلام
ايها المشفقون على تعليم الدين ، ان البلية كل البليه هي في وجود المذاهب ، والخير كل الخير هو في اختفائها فاذا الناس في بركة ويسر، وزكاة وطهر ، ورضوان من الله أكبر ، ذلك هو الفوز العظيم ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر
الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم .
١٤ – شبهة الحاجة الى التعليم
هذه شبهة ركيكة ، ما كان ينبغى أن تكون ، ولكنا سمعنا فعلا من بعض المدافعين عن المذاهب يقولون فمن يفقه المسلمين في دينهم اذا أبطلنا المذاهب ؟ كأن الدين كان معدوماً قبل المذاهب ، أو كان المعلمين من الفقهاء يستحيل
وجودهم إلا عن طريق المذاهب !
وسمعنا آخرين يسألون الداعين إلى نبذ المذاهب ، ما مذهبك أنت ؟ قد تمكنت منهم ضلالة المذاهب حتى حسبوا الأسلام لا يقوم إلا بالمذاهب ، وأن من لاحظ له في تلك المذاهب فانما هو انسان ضائع ! اللهم جعلنا مع أبي بكر وعمر وأصحاب النبى الذين طهرهم الله من خطيئة المذاهب …
الباب التاسع
مهمة الفقهاء
الربانيون والأحبارمهمتهم التعليم لا التأويل أمر الله تعالى قال تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}, التعليم عليهم فرض واجب، قد أمر الله به وأخذ الميثاق عليه قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}. وحذر الله تعالى من التأويل بأنه لا يعلمه إلا الله، فمن ابتغى التأويل في الكتاب فقد ابتغى مالا سبيل له إلى إدراكه لأنه لا يعلمه إلا الله، فهو واقع في الضلال لا محالة, وما يفعل ذلك إلا الذين في قلوبهم زيغ، الذين يبتغون الفتنة. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِّنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِّنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } وأثنى الله تعالى على الراسخين في العلم الذين لا يفعلون ذلك ولا يحاولون التأويل في المتشابه، ولكنهم يؤمنون بالمحكم والمتشابه ويقولون: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. هؤلاء المؤمنون الراسخون في العلم يخافون من الزيغ بسبب المتشابه فيتضرعون إلى ربهم أن يحفظهم من الزيغ بعد إذ هداهم يقولون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابَ}.
الفرق هائل بين التعليم والتأويل كما سيأتي بالتفصيل ليس من حق أي بشر كائنًا من كان أن يشرع أدنى شرعة من شرائع الإسلام، وأيما شرعة في الإسلام جاءت من عند غير الله، فإنما هي شرعة باطلة حرام، صانعها مشرك سافر الأجرام، ومتبعها جهول عابد أصنام، قلبه في الظلام وأنفه في الرغام. ومثل تلك الشرعة الكاذبة الظالمة، لا تلزم أحدًا من المسلمين إلا بالقهر والطغيان، شأنها في ذلك شأن أي معصية أو عدوان، يبتلي الله بها من يشاء ثم يرتب عليها المثوبة والجزاء.
فأما فاعلها فعليه الوزر كاملاً، وعليه مثل أوزار من عمل بها بعده لا ينقص من أوزارهم شيئًا.
وأما المنكوب بها المقهور عليها، فله براءة الكارهين إذا غضب، وله أجر الصابرين إذا احتسب، وله عوض المظلومين يوم المنقلب.
وأما الراضي بها والمتابع عليها، فإنما هو إمعة مسحوب على وجهه في النار، له في الدنيا صغار، وعليه اللعنة في دار البوار. قال الله: “مَن كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَن أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِن مَن رَضِيَ وَتَبِعَ”.
شرائع الإسلام ليست إلا بالتنزيل والتفصيل فقط أما التنزيل فمن رب العالمين، وأما التفصيل فمن رسوله الأمين، ليس وراء ذلك من الإسلام حبة خردل. كل ما عدا التنزيل والتفصيل، كل الشرائع الوافدة من مبتدعات الوضاعين، ومبتكرات المؤلفين، إنما هي على الفاعلين والتابعين ويل وثبور. إنما هي مكر الجاحدين، ومكر أولئك هو يبور، إنما هي شرك والشرك ظلم عظيم. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إنما هي افتراء الكذب على الله، ولا يفلح المفترون قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكِذْبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُون متاع قليل ولهم عذاب أليم}.
والذين يبتغون التأويل لا مفر لهم من افتراء شرائع ليست في التنزيل ولا في التفصيل، فهم واقعون حتمًا تحت طائلة الآيات التي ذكرنا، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
والتنزيل كله من عند الله، والتفصيل كله بلسان رسول الله ليس لبشر كائنًا من كان أن يزيد في التنزيل ولا في التفصيل مثقال ذرة. من عمل شيئًا من ذلك فعمله مردود، وهو عند الله مأزور قالﷺ: [مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ].
إنما عمل الربانيين والأحبار من فقهاء وغيرهم هو التعليم فقط تعليم الناس ما جاء في التنزيل وما جاء في التفصيل، دون أية زيادة أو تأويل. إن من الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، أن يدعي إنسان لنفسه علمًا غيبيًا بمراد الله أو مراد رسوله في أمر لم يخبرنا الله ولا رسوله بمرادهما منه، وإنه ليحرم على أي إنسان تحريماً مطلقًا أن يتقول على الله أو على رسوله، ما لم يقل الله ولا رسوله.
التأويل هو أحد المسالك الوعرة، والمزالق الخطرة التي تستدرج الفقهاء إلى الشقاق البعيد والاختلاف الشديد في الشرائع والأحكام، يصرف أحدهم ظاهر النصوص القطعية الثبوت عن وجهها إلى معنى يريده، تعسفًا وتفلسفًا واتباعًا للظن أو الهوى أو الضلال، كما فصلنا آنفًا في باب خطيئة الاختلاف، فقرة مداخل الاختلاف (ص 79).
فالتأويل مهلكة محققة، نسأل الله السلامة لا حاجة بالتنزيل ولا بالتفصيل إلى أي تأويل، فقد فصل الله في كتابه وبلسان رسوله كل ما يلزم الناس أتم تفصيل قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا}، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ولعلهم يتفكرون}.
فإذا كان التفصيل كاملاً في الكتاب والسنة، فما حاجة المسلمين إلى تأويل الفقهاء، بعد إذ أتم الله التفصيل وحذر من التأويل؟!
بل واجب الفقهاء في تعليم الدين إنما هو مجرد نقل التنزيل ونقل التفصيل إلى الناس بلغة تخاطبهم، وعلى قدر مداركهم، نقلًا حذرًا أمينًا دون أية زيادة أو تحريف أو تأويل, لا ينبغي أن يقول أحدهم برأي نفسه مراد الله من الآية كذا وكذا، أو مراد الرسول من الحديث هو كذا وكذا، فهذا بهتان عظيم! ما أدراهم بمراد الله؟! {إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون} وما تكلفهم فيما لا يعلم تأويله إلا الله ؟! قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وما ظن أحدهم بالله يوم يُسأل عما افتراه؟! قال تعالى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون} وما ظن الذين يكذبون على رسول الله ﷺ يوم القيامة قال ﷺ [من حدّث عني بحديث يرى أننه كذب قهو أحد الكذابين] وقال ﷺ [إن كذباً علَّى ليس ككذب على أحد] وقال ﷺ[ لا تكذبوا علَّى فإنه من يكذب علَّى يلج النار].
الواجب على الفقهاء هو تعليم شرائع الدين بذكر نصوصها وشرح ألفاظها دون التفلسف في تأويلها، أو التكلف في تعليلها, فيقول المعلم مثلا أمر الله تعالى بالصلوات الخمس، ويأتيهم بالنصوص التي فرضتها, ويشرح ألفاظها، ولا يزيد من عند نفسه ولا من عند غيره حرفًا ولا رأيًا ويقول لهم أمر الله بالوضوء للصلاة، ويأتيهم بالنصوص التي فرضت ذلك وفصلته ويشرح لهم ألفاظها ولا يزيد من عند نفسه ولا من عند غيره حرفًا ولا رأيًا وهكذا في جميع الشرائع، ولا يقولن البتة, المذهب الفلاني يرى كذا وكذا، والمذهب الآخر يرى كذا وكذا، لأن هذا هو الشرك بعينه! إذا أقام المذاهب شركاء لله في التشريع، وهذا هو عبادة الأحبار التي لعنها الله, وتلك هي الهاوية التي تردّت فيها القرون الخالية، وادَّاركت فيها الشعوب الباغية, وجوه الذين كذبوا على ربهم مسودة, وقلوب الجاحدين عن الحق مرتدة.
ولا يُخضعن الفقهاء شرائع الله لأصولهم المُضلة، كقولهم إن الحكم يدور مع العلة، فإذا توفرت العلة للعمل أجزأ العمل عن الفريضة، لأن الحكم يدور مع العلة.
فقد سمعنا منهم من يقول: حكمة الصلاة هي الرياضة البدنية، وحكمة الوضوء هي النظافة الجسدية!!! فمَن باشر الألعاب الرياضية أجزأته عن الصلاة، ومن غاص أو سبح في الماء أجزأه ذلك عن الوضوء! لماذا؟ قالوا لأن الأصول الفقهية تقول: إن الحكم يدور مع العلة! وعلى هذه الدروب السافلة المضلّة سار أتباع الهوان والذلة ولن يخفى على سامع هذا البهتان أن يرى ما فيه من السقوط والخذلان, تكاد تندثر الشرائع والأديان غوثك ربنا أنت الملجأ والمستعان.
ليس مثل هذا الهراء والافتراء من التعليم أو التفصيل، إنما هو عين الإغواء والتضليل, لقد سار هؤلاء شوطًا بعيدًا في الفساد والإغواء، يداهنون الملاحدة من الرؤساء، ويبتغون الشهرة بغرائب الإفتاء, يود أحدهم لو يستنبت في رأسه ريشًا، ليختال به بين الناس طائرًا منفوشًا، يريد أن يتحدثوا عنه معلّمًا عصريًا، أو فقيهًا مجددًا عبقريًا, فسوف يُسحبون على وجوههم ويُطرحون في جهنم جثيًا، إن ربك هو أعلم بالذين هم أولى بها صِليا.
أيها الناس، العبادات توقيفية، يتحتم أن تؤدى على الصورة التي أنزلها الله وفصلها رسوله بلا زيادة ولا نقصان ولا تبديل أو تغيير, الرياضة لا تجزيء عن الصلاة، والسباحة لا تغني عن الوضوء. لا يغرنكم هؤلاء الذين ركبوا أُحموقة التفانين، ومسخوا الشرائع بموضوع القوانين, هؤلاء قد احتنكتهم الشياطين، فكانوا من غلاة المفترين. لا بشرى للمجرمين، ولا كرامة للمفترين.
ونحن زيادة في البيان، نضرب لكم أمثلة أخرى على الضلال في الأحكام نتيجة تأويل النصوص بآراء الفقهاء. والحكم في الدين بالرأي حرام أشد الحرام.
مثال رقم 1: جاء في شرائع الرهن النص الآتي في صحيح البخاري: [الدهن يركب بنفقته، ويشرب لبن الدر إذا كان مرهونًا]. وهذا في منتهى الصراحة والوضوح أن المرتِهن (أي الدائن الذي في حوزته الحيوان المرتَهن والمملوك للمدين) له أن يركبه ويشرب درّه في مقابل النفقة التي ينفقها عليه، وبذلك قال بعض الفقهاء متبعين للنص راشدين, ولكن فريقًا آخر تأولوا النص برأي أنفسهم فقالوا: “لا ينتفع المرتهن من المرهون بشيء!!!” وهذا مناطحة صارخة للنص. وكان تعليلهم الفاسد لتلك المعارضة السافرة هوأن مراد النبي ﷺ ان الذي يركب ويشرب هو المدين، لا الدائن! وعلى عكس لفظ الحديث تمامًا! فمن أين جئنا بهذا التأويل المعكوس؟ بأن مراد النبي ﷺ هو المدين لا الدائن؟! ومنطوق الحديث يقطع بأنه الدائن! لا المدين! فانظروا كيف يُفضي تأويل النصوص إلى الضلال البعيد.
الحيوان المرهون هو في حوزة الدائن (المرتَهِن) لا في حوزة المدين (الراهن)، فكيف ينتفع المدين بشيء ليس في حوزته؟! وفيم إذا ينفق المرتهن (الدائن) إذا كان لا ينتفع بنفقته؟! وإذا استرد المدين الحيوان المرهون من عند الدائن لكي ينتفع به بطل الرهن الذي هو شرط الدين، وبطل الدين لبطلان شرطه، ووجب الأداء فورًا بسبب فسخ العقد، فكيف تحكمون؟! ثم ما الذي يحملكم على هذا التأويل الفاسد المتعسف على عكس صريح لفظ الحديث؟!
مثال رقم 2: بقول القرآن الكريم حد الذين يرمون المحصنات {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءِ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. وهذا قاطع في أن الشهداء إذا نقصوا عن الأربعة المفروضين، جُلِدوا الحد، وبذلك قال طائفة من الفقهاء راشدين، وبذلك قضى رسول الله ﷺ والخلفاء من بعده، ولكن لفيفًا تأولوا النص برأيهم فقالوا: لا يُجلد الشاهد أصلاً، لأن الشاهد هو غير الرامي. وهذا عمى مطبق عن لفظ النص. ألم يقل الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَة أحدهم} [النور: 6]. فالقرآن الكريم سمى الشاهد على الزنا رامياً، فأين تذهبون؟! أين زاغت أعينكم عن لفظ “الرمي” ولفظ “الشاهد” في الآية لنفس الرجل الذي يقذف امرأته بالزنا؟! ألا إن التأويل يُعمي ويُصم…
وقال رسول الله ﷺ احلال ابن أميه لما رقي امراته بالزنا ، وأنه رأى عليها رجلا، ولم يكن معه شاهد آخر غير نفسه, قال له [البيئه أو حد في ظهرك] ، فرسول الله أراد أن يقيم عليه حد الرمي (القذف) لأنه شاهد واحد لم يأتِ بباقي الأربعة، فرسول الله ﷺ اعتبره رامياً (قاذفًا)، وهو شاهد. فالشاهد رام بنص القرآن، والشاهد رام بكلام النبي ﷺ. فانظروا إلى التأويل كيف يأتي بأبعد التضليل! الله تعالى يقول، ورسوله الكريم يقول: الشاهد رام، وهم يقولون الشاهد غير الرامي! أليس ذلك بأفحش التخبيل؟! وحتى العقل المجرد يقطع بأن الشاهد رام، بل هو أكمل أنواع الرمي. الرامي الذي يقول بلسانه ما لم يرَ (فلانة زنت بفلان) يقام عليه الحد، فكيف بالذي يقول: رأيت ذلك بعيني؟! ألا إن الشاهد هو الرامي بأصرح وأشد ما يكون الرمي، فأنى تؤفكون؟
مثال رقم 3: قال تعالى في حكم المحاربة والإفساد في الأرض: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].
فجاء النص القرآني عامًا في المسلم وغير المسلم، وجاءت نصوص التطبيق العملي للعقوبة هذه الجناية بفعل رسول الله ﷺ في قصة النفر الثمانية من عكل وعرينة الذين بايعوا رسول الله ﷺ على الإسلام فلما خَلَوا براعي الصدقة واستاقوا الإبل! جاءت هذه النصوص بتطبيق العقوبة في عصاة المسلمين.
إذاً، النصوص في هذه الجناية شاملة للمسلمين وغير المسلمين. بذلك قال الله، وبذلك قضى رسوله، وبذلك قضى فريق من الفقهاء متبعين للنصوص راشدين. ولكن لفيفًا من الفقهاء تأولوا النصوص البالغة الوضوح والصراحة، تأولوها برأيهم تأويلاً ضالاً فاسدًا أن هذه الآية خاصة بالمشركين، وقال بعضهم بل هي خاصة بأهل الكتاب، بلا أدنى دليل. ولكن هكذا تخبطوا في الظلام، وتنطعوا بالأوهام، فيا ويل الشرائع من تلكم الأحلام! قالوا بمحض رأيهم: مراد الله من هذه الآية جزاء المشركين أو أهل الكتاب! كيف علمتم بذلك؟! ومتى وأين نزل عليكم جبريل يخبركم أن هذا هو مراد الله من الآية؟
أحماقة وتبجح بالكذب؟! أم الشرائع عندكم من سقط المتاع، تتخذونها سامرًا تهجرون، وتقولون على الله ما لا تعلمون؟!
تأويل النصوص حرام، تأويل الكتاب لا يعلمه إلا الله. فالذين تهجموا على النصوص بالتأويل قد وقعوا في تضليل، قد ضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل. إنما على الفقهاء التعليم، لا يحل لأحد منهم التأويل،: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. [آل عمران: 7].
الباب العاشر
(حكم الله في المختلفين في الكتاب)
لسنا نكشف الغطاء عن شيء مجهول، ولسنا نفاجئ الناس بنبأ غير معقول، حين نقول لهم ونؤكد ما نقول، أن المختلفين في الكتاب، هم يوم تقوم الساعة في أشد العذاب. كل مسلم على وجه الأرض يعلم أن الشرك بالله هو أكبر الكبائ، دونه الكفر والقتل وسائر الكبائر، قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا” [النساء: 48] وقال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا” [النساء: 116]
وكل ناظر إلى الاختلاف في الكتاب يراه جامعا للشرك والكفر والظلم والفسق والبغي والضلال والشقاق وافتراء الكذب على الله وتنكب الصراط والوقوع في غمرة وبراءة النبي ﷺ من المختلفين، وشدة مقته لهم وكفى بذلك إثماً وخسراناً مبيناً. فأي شيء يمكن أن يكون أدهى من الاختلاف في الكتاب؟! لا جرم أن المختلفين في الكتاب، هم يوم القيامة في أشد العذاب، قال ﷺ: [سُحُقًا سُحُقًا لِّمَن غَيَّرَ بَعْدِي] وهل غير بعده إلا المختلفون في الكتاب؟!
اسمعوا إلى قول الله عز وجل في المختلفين في الكتاب، لقد رماهم من الخطايا العظام ما إن بعضه ليكفي في استحقاق أشد العذاب، وفيما يلي بعض نعوت المختلفين في الكتاب كما ذكرها القرآن الكريم:
- نعت الله الذين اختلفوا في الكتاب بالشرك
لأنهم لما اختلفوا في الكتاب، خالفوا أمر الله وأمر رسوله، وحكموا برأي أنفسهم، فنصبوا أنفسهم بذلك شركاء لله، يشاركونه في التشريع للناس، فهم يشرعون للناس كما يشرع الله الناس، فهم شركاء، ومن تابعهم على الشرك فهو مشرك. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا۟ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّـٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21] وقال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا۟ الْصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا۟ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فَرَّقُوا۟ دِينَهُمْ وَكَانُوا۟ شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31-32] فهذا صريح جدًا في أن الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء مشركون، وأن الذين فرقوا دينهم شيعًا شركاء مشركون، فمن لهؤلاء الشركاء يوم لا يقبل عدل ولا شفاعة ولا فداء؟!
- نعت الله المختلفين في الكتاب بالكفر، وبأن وجوههم مسودة يوم القيامة، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا۟ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا۟ وَاخْتَلَفُوا۟ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} [آل عمران: 106] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِّنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا۟ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا۟ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] وقال تعالى: {ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ فَحَكُمُ وَبَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا۟ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِن نَّاصِرِينَ} [آل عمران: 55] وقال تعالى: {فَاخْتَلَفَتِ الْأَحْزَابُ مِنۢ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا۟ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنبياء: 53] وقال تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا۟ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ الْكَٰفِرُونَ} [المائدة: 44]
ففي هذه الآيات الخمس السابقة، وفي القرآن الكريم كثير جدا مثلها، رمى الله بالكفر هؤلاء الذين اختلفوا في الكتاب وتفرقوا في الدين وأخبر عنهم بأن وجوههم مسودة يوم القيامة، وتوعدهم بالعذاب العظيم، بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة وانذرهم بالويل من مشهد يوم عظيم، واخيرا أنهم يقتتلون بسبب اختلافهم وأخيرا أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، يحكمون بآرائهم ونظرياتهم فى الدين… يبتغون بذلك عرض الحياة الدنيا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا. - ونعت الله المختلفين في الكتاب بالظلم. قال تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ الظَّـٰلِمُونَ} [المائدة: 45] وقال تعالى: {فَاخْتَلَفَتِ الْأَحْزَابُ مِنۢ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [مريم: 37] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّـٰلِمُونَ مَا لَهُمْ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الزخرف: 15]
اختلفوا في الكتاب فحكموا بغير ما أنزل الله، واختلفوا في الكتاب فتنازعوا فيما بينهم واختلفوا في الكتاب فتنازعوا فيما بينهم واختلفوا في الكتاب فتقطعوا أمما وكل هذا ظلم وهم ظالمون. - ونعت الله المختلفين في الكتاب بالفسق، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، لما اختلفوا في الكتاب حكموا بغير ما أنزل الله فكان هذا فسقًا.
- ونعت الله المختلفين في الكتاب بالبغي فيما بينهم، قال تعالى: {وَمَا اَخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوا۟هُ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ بَغۡيَٰن بَيْنَهُمۡ} [آل عمران: 105]، وقال تعالى: {وَمَا اَخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا۟ الْكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغۡيَٰن بَيْنَهُمۡ} [آل عمران: 19]، وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا۟ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغۡيَٰن بَيْنَهُمۡ} [الشورى: 14].
جاءهم الكتاب وجاءهم العلم والبينات فاختلفوا في الكتاب وأعرضوا عن العلم والبينات، وحكموا بالرأي والظن والهوى فكان هذا بغيًا بينهم. - ونعت الله المختلفين في الكتاب بافتراء الكذب على الله، قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا۟ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا۟ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رَّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، وقال تعالى: {وَحَرَّمُوا۟ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا۟ وَمَا كَانُوا۟ مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140].
هؤلاء اختلفوا في الكتاب فحرموا ما أحل وأحلوا ما حرم، فكان ذلك افتراءً على الله فخسروا بذلك وما كانوا مفلحين وضلوا وما كانوا مهتدين. - نعت الله المختلفين في الكتاب بالضلال، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ}. وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبُّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّوا السَّبِيلا}.
ما ضلت أمة إلا بمخالفة التنزيل، وكل أمة قد جاءها التنزيل، والضلال نتيجة حتمية للاختلاف في الكتاب, كل المختلفين في الكتاب في ضلال. - ونعت الله المختلفين في الكتاب بأنهم في غمرة، قال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبَرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون فذرهم في غمرتهم حتى حين}. وقال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّنْ دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}. وقال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَن يُؤْفَكُ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ}. هؤلاء اختلفوا في الكتاب فتفرقوا في الأحزاب، فهم في غمرة، وقلوبهم في سكرة.
- ونعت الله المختلفين في الكتاب بأنهم تنكبوا الصراط، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. وقال تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}. وقال تعالى: {قَالَ فِيمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنۢ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شُمَٰٓئِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ” [الأعراف: 16-17]
هؤلاء اختلفوا في الكتاب فانحرفوا عن الصراط واتبعوا سبل الأهواء والآراء فكانوا من الغاوين. - نعت الله المختلفين في الكتاب بالشقاق البعيد، قال تعالى: {َذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا۟ فِيهِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
لما اختلفوا في الكتاب اتبعوا أهواءهم فخالف بعضهم بعضًا فوقعوا في الشقاق البعيد. - ونعت الله المختلفين في الكتاب بأن رسوله ليس منهم في شيء، بريئ منهم، قال تعالى: “{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا۟ دِينَهُمْ وَكَانُوا۟ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
اختلفوا في الكتاب ففرقوا دينهم شيعًا وأخبر الله رسوله بصنيعهم وجعله بريئًا منهم فقال لست منهم في شيئ, وتوعدهم فقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
تلك النعوت التي ذكرنا هي بعض ما نعت الله به المختلفين في الكتاب، فاستمعوا إلى وعيد الله للمختلفين.
لقد توعد الله المختلفين في الكتاب بالوعيد الشديد، توعدهم بالعذاب الأليم والعذاب العظيم، توعدهم بتسويد وجوههم يوم القيامة وتوعدهم بالويل من مشهد يوم عظيم. وكفى ببعض هذا الوعيد تخويفًا وزجرًا للذين هم لربهم يرهبون.
إن النعوت التي نعت الله بها المختلفين في الكتاب، لنعوت عصيبة، وإن الوعود التي وعدها الله المختلفين في الكتاب لوعود رهيبة، فما بال المختلفين في الكتاب لا يرتدعون؟! وما بال أشياع المختلفين في الكتاب لا يتوبون ولا يذكرون؟! بل أعداد المذاهب في ازدياد وأتباع المذاهب في تصلب وعناد وصدق الله العظيم، {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا۟ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2].
ترى هل سمع هؤلاء وهؤلاء آيات الكتاب فاستخفوا بها؟! أم هم تأولوها على غير وجهها؟ أم غرهم بالله الغرور فصرفوا عنها؟ أم هم لم يسمعوها قط فهم في غمرة الجاهلين؟! أم استمعوها وهم يلعبون لاهية قلوبهم فهم في غفلة معرضون؟!
الحق الذي لا مرية فيه هو أن كل ذلك قد كان وهو يكون، فالناس أوزاع متفرقون، منهم الضالون، ومنهم الجاحدون، ومنهم المستهزئون، ومنهم الجاهلون، ومنهم الغافلون، وجميع هؤلاء هم السواد الأكثرون، كل في فلك يسبحون، والمؤمنون المخبتون هم دائمًا الأقلون.
نحن نعلم أن المواعظ لا تهدي غويًا، ولا تسعد شقيًا، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين، فعسى أن يكون في غمار السامعين ثلة من المؤمنين ينتفعون بما يسمعون، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
أيها الناس، هذا حكم الله في المختلفين في الكتاب، وهذا وعيده لمقترفي خطيئة المذاهب والأحزاب، فمن كان قبل ذلك من الجاهلين فلينتفع بما جاءه من العلم، ومن كان من الغافلين فلينتبه قبل انصرام اليوم، ومن كان من الضالين فليستقم قبل أن لا يكون عتاب ولا لوم.
أيها الناس، قد جاءتكم موعظة من ربكم، فاغتنموها قبل مجيء السكرة وحلول الحسرة، {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} [الزمر: 60]
إن عباد الرحمن لا يعبدون من دون الله إنسانًا، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا، وإذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمًا وعميانًا، لكن عباد الأحبار وأصحاب المذاهب لا يسمعون تبيانًا، ولا يتيممون في شرائعهم حديثًا ولا قرآنًا، قد صغت إلى المذاهب قلوبهم نسوا الله نسيانًا.
الباب الحادي عشر
شقاق المذاهب
قال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اختلفوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] وقال ﷺ [ لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا] وقال: {إِنَّمَا أَهْلَكُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْكِتَابِ} [آل عمران: 105]
والشقاق هو المخالفة الشاقة، هي المخالفة باستمرار في تعنت وإصرار, وهذا هو حال جميع الشيع والفرق والمذاهب والأحزاب في جميع الأديان في كل زمان ومكان, لا جرم نعت الله المختلفين في الكتاب بالشقاق البعيد وأخبر النبي ﷺ أنهم من الهالكين.
ومنشأ الاختلاف في جميع الكتب المنزلة، ومصدره الوحيد هم الأحبار (علماء الأديان) الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، من بعدما جاءهم العلم اختلفوا بغياً بينهم، قال تعالى: {وَمَا اَخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَۢا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] فاختلف الناس باختلافهم.
وأحبار المسلمين اختلفوا في كل شيء، والمذاهب متناقضة في جميع مسائل الفقه وقضايا الدين، فهم قد ضلوا وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل، وهم أول المسئولين عن ذلك. قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] وما أفجعه من سؤال , سؤال الذين فرقوا دينهم شيعًا وقطعوا أمتهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون, سيسألون عن ضلالهم وضلال الذين ضلوا بضلالهم قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا۟ أَوْزَارَهُمْ كَٰامِلَةًۭ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍۢ ۚ أَلَا سَاء مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] قال تعالى: {وَلِيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًۭا مَّعَٰٓ أَثْقَالِهِمْ وَلِيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا۟ يَفْتَرُونَ} [العنكبوت: 13]
ونريد أن نكشف حقيقة مسئولية المختلفين في الكتاب، فلعل في ذلك زجرًا عن التمادي في الخلاف، أو تضييقًا لشقة الخلاف، بتراجع الغافلين إذا انتبهوا، وتقاصر الغاوين إذا انكشفوا والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن الله تبارك وتعالى قد قال في الآية الكريمة: {لَفِي شِقَاقٍۢ بَعِيدٍۢ} بلام التوكيد، وبلفظ بعيد، فهذا أعظم تأكيد. والشقاق يكون مع الله عز وجل قال تعالى: {وَأَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [الفرقان: 28]
والشقاق يكون مع الله والرسول قال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب}
والشقاق يكون مع الرسول قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًۭا} [النساء: 115]
والشقاق يكون مع الناس قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقًۭا بَيْنَهُمَا فَٱبْعَثُوا۟ حَكَمًۭا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًۭا مِّنْ أَهْلِهَا } [النساء: 35] وقال صاحب مدين لموسى {وما أريد أن أشق عليك}
والشقاق ضلال قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍۢ بَعِيدٍۢ} [النساء: 168]
والشقاق ظلم قال تعالى: {إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ فِى شِقَاقٍۢ بَعِيدٍۢ} [الشورى: 25]
والذين اختلفوا فِي الكتاب قد جمعوا كل أنواع الشقاق هم في شقاق مع الله ورسوله بما خالفوا أمر الله وأمر رسوله، فحكموا على خلاف ما أنزل الله، وخلاف ما فصل رسوله، حكموا برأي أنفسهم وأهوائهم وهم في شقاق مع أنفسهم بما نازع بعضهم بعضًا، وخالف بعضهم بعضًا، وهم في شقاق مع الناس بما أوقعوهم في الضلال والالتباس، فهل تعلمون أبعد من ذلك الشقاق؟
والبلية كل البلية هي أنهم فرحون بهذا الشقاق، يتعصبون له وينافحون عنه قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍۢ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] كل مذهب متمسك باختلافاته وتناقضاته، ولقد بلغ من شدة تعصبهم لهذا الشقاق، أن يُحرم مذهب على اتباعه الزواج من أتباع مذهب آخر، أو أن يأتم أتباعه في الصلاة بأمامة رجل من مذهب آخر، حتى إنه لتقام الصلاة الواحدة في المسجد الواحد، في الوقت الواحد بجماعات مختلفة، كل جماعة بأمامهم من مذهبهم، يتناكرون ويتدابرون ويشوش بعضهم على بعض، وهذا من أبشع صور الاختلاف في الدين لا جرم، هذا هو الشقاق البعيد.
ولا تزال الاختلافات تتفشى وتزداد، وتعم جميع البلاد والعباد، فإذا الناس كلهم متلبسون بالشقاق، متنمرو بالعداوة، متحفزون للشر، مصروفون عن الخير، حتى إذا طفحت الكؤوس، والتهبت الرؤوس، اشتعلت بينهم كل حرب ضروس، وها هي الحروب المذهبية في زماننا هذا، يستعر أوارها في شتى البلاد، ومن مختلف الملل والأجناس، يقتتل الشيعة والسنيون وكلهم مسلمون، ويقتتل السيخ والبوذيون وكلهم وثنيون، ويقتتل البروتستانت والكاثوليك وكلهم مسيحيون. وإن الحال لعلى ذلك من قديم الزمان، في كل مكان، بين مختلف الملل والأديان. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا اقَتتَلَ الَّذِينَ مِنۢ بَعْدِهِمۡ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ وَلَٰكِنِ اَخْتَلَفُوا۟ فَمِنْهُمْ مَنْ ءَامَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا اقَتَلُوا۟ وَلَٰكِنَّ اللَّـهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [آل عمران: 165]
وما كان لشيء من ذلك الاختلاف والاقتتال أن يكون، لو أنهم جميعًا صدَّروا فيما يقولون وما يحكمون عن كتاب واحد، هو كتابهم الذي أُنزل إليهم، لا عن أحكام أحبارهم ومصنفات فقهائهم. ما كان لشيء من ذلك أن يكون لو نبذوا الحكم في دينهم بالآراء والأهواء، لأن الأهواء تضل والآراء تخطئ، وشرائع الله في كل كتاب أنزله، وعلى لسان كل نبي أرسله، لا تضل ولا تخطئ البتة.
المذهبيون أوقعتهم الاختلافات في الضلال والأخطاء، وأورثتهم العداوة والبغضاء، ذلك لأنهم بدلوا كلمات الله وغيروا شرائعه، فبدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا۟ نِعْمَةَ اللَّـهِ كُفْرًۭا وَأَحَلُّوا۟ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ولا نجاة لهم ولا لمن خلفهم من الأتباع والأشياع إلا بالرجوع إلى الكتاب، وطرح الآراء والأهواء ظهريًا، {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}. ونريد أخيرًا أن نبطل ما سمعنا من التمويه، ونكشف وجه الضلال القبيح ونؤذن الناس بالحكم الصحيح، أن يقول قائل: إنا كنا عن هذا غافلين.
قد سمعنا من قبل مكابرة الأحبار، الذين أنكَروا وجود اختلافات ولاذوا بالإنكار، وقالوا كذبًا وزورًا “لا اختلاف بين المذاهب إلا في الفرعيات” وهذا بهتان صارخ، وإنكار صفيق، للاختلافات الفاحشة، والتناقضات الطائشة التي لم تسلم منها مسألة واحدة من آلاف المسائل المدونة في مؤلفات المذاهب والفقهاء. ماذا تصد أصابع الجحود من سيل جارِف كالطوفان؟ ماذا يحجب بالإنكار باللسان، من خضم الجرائم الثابتة بالبرهان؟ كيف تمحى تلال الاختلافات، المدونة بأيديهم في المصنفات؟! ثم أين تقع حشرجة البهتان من دوي قوارع القرآن؟!”
عندنا كتاب الله العزيز يخبرنا أن الذين أوتوا الكتاب في كل أمة قد اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، اختلفوا ثم اختلفوا ثم اختلفوا حتى اندثرت شرائع الأديان ولم يبقَ إلا شرائع البهتان كصاحب الطيلسان الذي أوسعه ترقيعًا ورفوا، حتى بقى الرفو وانقضى الطيلسان. فيا عجبًا لصفاقة البهتان، وجراءة النكران أتريدون أن نصدق الجحود والبهتان ونكذب حق اليقين الذي في القرآن؟! أتريدون أن نصدق الدفاع الكاذب المخبول، ونكذب أصح أخبار الرسول؟! يقولون: “ليس في شرائع الدين تغيير”، والله تعالى يخبر نبيه عن الذين غيروا بعده، فيقول النبي ﷺ: [سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي.]
كلا وألف مرة كلا! بل المذاهب كلها والفقهاء بلا استثناء غارقون في الاختلافات إلى الأذقان، اختلافات في صلب الشرائع وصميم الأحكام، لا في الفرعيات كما أدعى فريق الإنكار, ومع ذلك فما هي تلك الفرعيات التي اخترعها أصحاب المصنفات، ما وردت في الأحاديث أو الآيات، ولا عرفها الصحابة الأكرمون, مساكين هؤلاء لم يدركواعصر التفانين!!
قد أوردت في هذا الكتاب طائفة من اختلافات الفقهاء في الشرائع كأمثلة لما تكتظ به المصنفات، أوردناه في الباب الخامس والسادس من هذا الكتاب كنماذج للدلالة على بشاعة تلك الاختلافات. ومن طلب المزيد أحلناه على بعض مؤلفاتنا: (ديوان الطلاق – ديوان الجنايات – ديوان القصاص)، أو على مصنفات المذاهب والفقهاء، فأنه يرى العجائب.
وأخيرًا فإن الذين ينكرون تلك الاختلافات العارمة لا شك يعوزهم الحياء. ولقد قال النبي ﷺ: [إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَصْنَعْ مَا شِئْتَ.]
الباب الثاني عشر
( مراحل الاختلاف )
الاختلاف قضاء محتوم
الاختلاف في الكتاب – أي كتاب أنزله الله تعالى – ابتداء من الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى، وإلى هذا الكتاب الأخير، إلى هذا القرآن العظيم، الاختلاف الذي وقع في أي واحد من تلك الكتب يتمثل في مسيرة طويلة في الظلمات، ومتاهة سحيقة من الضلالات انزلقت إليها أمة ذلك الكتاب، وتمادت فيها قرونًا، ومازالت تتخبط في نواحيها، وتتعثر في فيافيها، ولا مخرج لها منها إلى يوم القيامة، إلا فترات منيرة من الزمن، لهذه الأمة وحدها دون سائرالأمم، فترات ينبثق فيها النور، ويعود الحق فيها إلى الظهور، ثم ترتكس في الضلال والخبال تارة أخرى، فلا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، عندما لا يبقى على الأرض من الناس إلا حثالة، لا يباليهم الله باله, قال ﷺ [يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعيرأو التمر، لا يباليهم الله باله.] وقال ﷺ: [لا تقوم الساعة حتى لا يُقال في الأرض الله الله]
وجميع الأمم اختلفت في كتابها، وجميع الأمم هلكت باختلافها. قال: ﷺ [لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا] وقال: ﷺ [إِنَّمَا أَهْلَكُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ اِخْتِلاَفُهُمْ فِي الْكِتَابِ][آل عمران: 105]
ولا يحسبن جاهل أن المقصود بالهلاك هو هلاك الأبدان، التقتيل والتعذيب، أو هلاك النعمة بالجوائح والتخريب، فيقول متطاول عريض القفا ما هلك الأقدمون ولا الأحدثون، بل تقلبوا في النعيم وتمتعوا، بل ازدهروا وتكاثروا وازدادوا علمًا ومالًا وترفًا! إنما المقصود بالهلاك هنا هو هلاك العاقبة وسوء المصير، المقصود هو سوء المنقلب، ولو كانوا في الدنيا من أصحاب الكنوز وسكان القصور، المراد هو الهلاك القادم الدائم الذي يحيق بكل فاسق وظالم، إذا مات غير تائب ولا نادم ألم ترَ إلى الذي وقع على أهله في نهار رمضان، فجاء إلى النبي ﷺ يقول: [هلكت يا رسول الله] نظر إلى هلاكه القادم، رغم كونه في الدنيا صحيح سالم.
صدق الله ورسوله، هلك المختلفون، كما هلك المترفون وهذه الأمة أيضًا – أمة القرآن – المختلفون منها في الكتاب هم في هاوية الهلاك، إلا من تداركه نعمة من ربه فتاب وأناب، وانسلخ من الشيع والفرق والمذاهب والأحزاب، وفر إلى الله بدينه يلوذ بالسنة والكتاب.
والاختلاف كأي عمل دائب متواصل يبدأ من نقطة الصفر، ثم لا يزال يتكاثر ويتناثر، حتى تتراكم أعداده, وتتفاقم أبعاده ، فيعم ويطم تلك سنة النمو والتطور في كل شيىء ، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
فعلى تلك السنة الكونية جرت اختلافات جميع الأمم في كتبها قال تعالى {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. }
وعلى نفس السنة الأزلية جرت اختلافات هذه الأمة في كتابها حيث بدأ الاختلاف يسيرا ، ثم مازال يزداد ، وتتراكب أطباقه، وتتسع آفاقه ، حتى عم كل شيىء ، وطغى على كل شيىء فاذ الناس من الضلالات والظلمات ، في بحر عجاج متلاطم الأمواج، لا يكاد يرى فيه للحق مجال، أو يسمع فيه للصدق مقال ، قد جَرفَهُم الضلال {وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} .
غاب عنهم البرهان والنور ، وأطبق عليهم شقاق كظلمة القبور لا يخرج منها والجها ولا يحور { ظلمات بعضها فوق بعض اذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور}
نبأنا الله ورسوله
ولقد نبئنا الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه بتلك الاختلافات التي ستكون من بعده، وأخبر أنه يوم القيامة يتبرأ من هؤلاء ، الذين غيروا من بعده وبدلوا، وأخبر أن هذا التغيير والتبديل يبدأ من أصحابه الذين يعرفهم ويعرفونه، ولقد نقل إلينا هذا الخبر نقلاً متواترًا عن العديد من الصحابة: (ابن عمر، وعبد الله بن زيد، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وأنس بن مالك، وسهل بن سعد، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وعقبة، وجندب، وحارثة بن وهب، وأسماء بنت أبي بكر)، ثلاث عشرة صحابيًّا سمعوا من رسول الله ﷺ هذا الخبر في الصحيحين (البخاري ومسلم) بأوثق رواة وأصح إسناد وأعلى سند وأضبط متن بطرق عديدة، منها في البخاري وحده أربعة وعشرون طريقًا. نقتبس منها ما يأتي:
- عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ: [أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا ربي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.]
- عن أنس عن النبي ﷺ: [ ليردن على ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم، اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك.]
- عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: [ليردَنَّ على أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا لمن غير بعدي.]
- عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: [يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيحلون عن الحوض، فأقول: يا ربي أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى.]
- عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: [بينما أنا قائم، فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النَّعم.]
نعوذ بالله من الاختلاف في الكتاب، نعوذ بالله من الارتداد على الأعقاب، نعوذ بالله من تغيير شرائع السنة والكتاب، نعوذ بالله من ضلالة المذاهب والأحزاب. هؤلاء أصحاب رسول الله ﷺ لا يخلص منهم من النار إلا مثل هَمَل النعم، فما بالنا نحن وقد تطاولت علينا الأحقاب! هؤلاء ما أغنى عنهم أنهم كانوا من الأصحاب، لما نكصوا على الأعقاب، وغيروا شرائع الكتاب. فويل للمختلفين في الكتاب، ويل لهم من التباب وسوء الحساب.
إن أطوار الاختلاف في الكتاب عديدة ومتتابعة، وأشكالها كثيرة ومتنوعة، وتطورات الأحداث فيها متلاحقة. ولعل من الأفضل من أجل إحاطة أوسع، ودراسة أنفع، تقسيم مراحل الاختلاف إلى ثلاثة حقب تتسم كل حقبة منها بطابع جامع، يميزها ويُجهزها للحقبة التالية. وتلك المراحل الثلاثة هي:
- مرحلة اختلافات الأفراد.
- مرحلة اختلافات المذاهب.
- مرحلة اختلافات الشعوب.
وفيما يلي تفصيل تلك المراحل لكي يستطيع الباحث أن يطلع على تطور الاختلافات ومضاعفاتها من مرحلة إلى أخرى، فإن دراسة الأسباب تعين على وقف الأخطاء والعودة إلى الصواب.
- المرحلة الأولى: مرحلة اختلاف الأفراد
في حياة النبي ﷺ، والقرآن يتنزل، والوحي يتتابع، كان الشرع كله من عند الله، وكان الحكم كله في يد رسول الله ﷺ ، والقول كله في كل صغيرة وكبيرة لرسول الله ﷺ وحده.
كان الناس جميعًا من أكبر الصحابة إلى أصغر الموالي، تلاميذ، والرسول ﷺ معلمهم. كانوا جميعًا جنودًا، والنبي ﷺ قائدهم. كانوا جميعًا مؤمنين مذعنين، سامعين، مطيعين، والرسول ﷺ هاديهم ومرشدهم. كان الوحى يتنزل من السماء، فيحكمهم ويربيهم ويسعدهم.
وهذا مقام ينعدم فيه الاختلاف، ويندثر فيه الجدل والمراء. قد خشعت جميع الأصوات، الصوت واحد، وخضعت جميع الأعناق لرجل واحد، واستسلمت جميع النفوس طائعة لزعيم واحد، هو سيد الناس جميعًا بلا منازع , هو إمام الخلق طرا، بلا مدافع. هو أعلم البشر وأبرهم وأتقاهم، هو خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم، وسيد المرسلين محمد عليه الصلاة والسلام. فأنى يكون مع هذا خلاف أو اختلاف؟!
الاختلافات في الكتاب في عهد النبي ﷺ كانت عدمًا معدومًا، والوساوس في صدور أصحابها كانت كبتًا وردمًا مردومًا. لا يجرؤ أحد أن يشرع برأيه في الدين شيئًا، ورسول الله ﷺ بين أظهرهم. ولا حكم في كبيرة ولا صغيرة من القضايا في عهد رسول الله ﷺ إلا له وحده دون سواه.
فلما قبض رسول الله ﷺ، وآل الأمر من بعده إلى الخلفاء، وهم بشر غير معصومين يخطئون ويصيبون. بدأ الاختلاف في الكتاب عندما قضى الذين آل إليهم الحكم في شؤون الدين برأي أنفسهم، وعندما أفتى المفتون في الدين برأي أنفسهم على خلاف النصوص. وقد صدرت تلك الأحكام والفتاوى المخالفة للكتاب والسنة من أصحاب رسول الله ﷺ على وجهين: وجه الخطأ، ووجه العمد.
أما الخطأ، وهو الأكثر، فقد كان بسبب الغفلة عن النصوص أو عدم العلم بها أصلاً, فلما ذكر المخطئ بالنصوص، عاد إلى الصواب.
كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما همَّ أن يشرع للناس ما لم يأذن به الله من تحديد المهور، فذكرته امرأة بالنص من القرآن الكريم، وهو قول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بِهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} [النساء: 20]
فهذا بيان من القران الكريم بإمكان ارتفاع المهور ارتفاعا عظيما بلا تحريم ولا حرج (قنطارا لا دينارا) وكان جواب أمير المؤمنين عمر فور سماع الآية الكريمة من المرأة أن قال: “أصابت امرأة وأخطأ عمر.” ورجع إلى الحق وعدل عما همَّ به.
وهناك قضايا أخرى غير هذه رجع فيها عمر إلى الصواب لما عرف الحق المتيقن الذي همَّ بمخالفته. ليس هذا مجال سردها، وحسبنا من كل قضية مثل واحد للدلالة على إمكان الحصول في باقي الأمثال, فهذه الأمثلة تقطع بإمكان حصول الاختلاف حتى من ذؤابة الأشراف.
وكما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، لما قضى في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أنها آخر الأجلين، فردَّه إلى الصواب بالنص القطعي الثبوت كل من أبي سلمة وأبي هريرة وابن مسعود وأم المؤمنين أم سلمة.
وكما فعل أبو هريرة رضي الله عنه، أبطل صيام من أدركه الفجر جنبًا في رمضان، فردَّه إلى الصواب كل من عائشة أم المؤمنين، وأم سلمة أم المؤمنين، إذ أخبرتاه بفعل رسول الله ﷺ.
وأما العمد، وهو الأقل، فقد كان بسبب إصرار الصحابي على حكمه أو فتياه المخالفة لما في الكتاب والسنة، رغم مراجعته في الحكم والفتوى، ورغم مواجهته بالنص القطعي الثبوت من القرآن الكريم أو الحديث النبوي المتيقن الصحة. ما كان ينبغى ذلك، ولا يحل أبدًا لأي إنسان كائنا من كان أن يعارض القرآن الكريم أو حديث رسول الله ﷺ القطعي الثبوت بمحض رأيه, ولا نجد تحليلا ولا تفسير لهذا الإصرار على مخالفة الكتاب والسنة, بمحض الرأي, وفيما يلي مثال من الإصرار على الخطأ بعد العلم بالنص:
كان العرب في الجاهلية يحرمون العمرة ويرونها من أفجر الفجور في أشهر الحج. فجاء الإسلام ينقض هذا التحريم الجاهلي، ولم يكتفِ بمجرد نقض التحريم، بل أوجب العمرة مع كل حج إيجابًا جازمًا لازمًا إلى يوم القيامة. أوجب ذلك نصًا في القرآن، وأمرًا قاطعًا في أصح الأحاديث المتواترة عن رسول الله ﷺ.
أمر بذلك في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}[البقرة: 196] وأمر بذلك على لسان رسول الله ﷺ عندما أمرهم بالتمتع بالعمرة إلى الحج، فسئل هل هو لهذا العام فقط أم هو لأبد؟ عند ذلك [شبك النبي ﷺ أصابع يده في اليد الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج لأبد أبد.]
وأصر النبي ﷺ على الأمر بالتمتع بالعمرة مع الحج عندما رأى الناس ترددوا في التنفيذ، مدفوعين إلى ذلك بالظن الجاهلي القديم أن العمرة في أشهر الحج هي من أفجر الفجور في الأرض. وكانوا قد أهلوا بالحج مفردًا، فأمرهم أن يجعلوا الأهلة التي قدموا بها عمرة، وأن يتحللوا بعد الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة. فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: “يا رسول الله، أي الحل؟” قال: [حل كله.] ولما فشت مقالة الناس في ذلك تحرجًا من فعل ما أمرهم به رسول الله ﷺ مغلوبين بالظن الجاهلي، قال لهم رسول الله ﷺ: [قد علمتم أني أتقاكم وأصدقكم وأبركم. ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، فحلوا، فحللنا وسمعنا وأطعنا.] وقال ﷺ: [افعلوا ما أمرتكم ولولا أني سقت الهدي، لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله، ففعلوا.]
فثبت من القرآن الكريم ومن أمر النبي ﷺ الذي نقل إلينا بالتواتر المستفيض في أعلا الأحاديث سندًا وأصحها إسنادًا وأوثقها رواةً وأضبطها متنًا أن التمتع بالعمرة إلى الحج فرض حتمي لازم إلى يوم القيامة. ومع ذلك، فقد نهى عنه عمر بن الخطاب في خلافته، ونهى عنه عثمان بن عفان في خلافته، رغم معارضة الصحابة لهما في ذلك محتجين بأمر رسول الله ﷺ وفعله وبالقرآن الكريم. ومن هؤلاء الصحابة المحتجين على مخالفة أمر الله وأمر رسوله: (علي بن أبي طالب، ابن عباس، عمران بن الحصين، أبو موسى الأشعري).
وفيما يلي بعض الأحاديث في البخاري ومسلم التي تثبت نهي عمر وعثمان عن التمتع بالعمرة مع الحج كما أمر الله وأمر رسوله، وعلى الرغم من معارضة الصحابة الذين ذكروا لهما بالنصوص القطعية الموجبة لذلك.
- كان أبي موسى الأشعري يفتى بالمتعة (أي العمرة مع الحج)، فقال رجل: “رويدك ببعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد. حتى لقيه بعد فسأله فقال: علمت أن النبي ﷺ قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج] وما كان ينبغي أن يكره عمر رضي الله عنه شيئًا أمر به الله وأمر به رسوله وأوجب فعله ايجابا إلى يوم القيامة وزجر المتخلفين عن فعله المعتذرين بمثل عذر عمر زجرًا بالغًا نسف الحرج الذي في صدورهم نسفا فسمعوا وأطاعوا وفعلوا ما أمرهم الله ورسوله.
- عن عمران بن حصين قال: “نزلت آية المتعة في كتاب الله (يعني متعة الحج) وأمر بها رسول الله ﷺ. لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله ﷺ حتى مات.” قال رجل بعد برأيه ما شاء – يعني عمر.]
- عن سعيد ابن المسيب قال [ احتج على وعثمان بعسفان فكان عثمان ينهي عن المتعة فى العمرة فقال على ما تريد إلى أمر فعله رسول الله الله تنهى عنه ؟ فقال عثمان دعنا منك ، فقال إنى لا أستطيع أن أدعك فلما أن رأى على ذلك أهل بهما جميعاً ( يعنى بالعمرة وبالحج ) ] وهكذا أعلن على على الملأ ( لبيك اللهم عمرة وحجاً ) رفضه لمخالفة أمر الله وأمر رسوله ﷺ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال ﷺ [فإن أمر بمعصية فلا سمع ولاطاعة ]
- عن مروان بن الحكم قال [ شهدت عثمان وعليا رضى الله عنهما وعثمان ينهي عن المتعة وأن يُجمع بينهما فلما رأى على أهل بهما ( لبيك بعمرة وحج ) قال ما كنت لأدع سنة النبي لقول أحد ]
- عن نصر بن عمران قال [ تمتعت فنهاني ناس، فسألت ابن عباس فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي حج مبرور وعمرة متقبله فأخبرت ابن عباس فقال سنة النبي فقال لى أقم عندى أجعل لك سهما من مالي . فقلتُ لم ؟ قال للرؤيا التي رأيت ]
فهذه أمثلة من الاختلاف في الكتاب التي وقعت من أصحاب رسول الله ﷺ بعد قبضه، منها خطأ ومنها عمد. ووقع أكثر من ذلك بكثير من التابعين المعاصرين للصحابة، ومن تابعي التابعين الذين لم يروا الصحابة، اختلافا متزايدا على مر السنين، قد ذكرنا منها طائفة كبيرة في مؤلفاتنا (ديوان الطلاق – وديوان الجنايات – وديوان القصاص) فليراجعها من أراد الاطلاع على ذلك.
واستمر الحال على ذلك قرنين من الزمان بعد قرن النبي فتزايدت الاختلافات في الكتاب سنة بعد سنة، حتى بلغت مبلغا عظيما ولكنها مازالت في حدود الاختلافات الفردية، أي إن الاختلاف في الكتاب مازال محصورا في أشخاص الفقهاء الذين كثروا وانتشروا في جميع الأقطار والأقطاب في الدولة الإسلامية الواسعة الأرجاء، كل واحد من هؤلاء الفقهاء أطلق لرأيه العنان في شرائع الدين يحكم برأيه دون النص في كثير من المسائل فيخالف النص القائم، سواء أو يشرع من الدين بمحض علمه أو جهله أو كان غافلا عنه، رأيه ما لم يأذن به الله، فيحرم ما أحل الله، أو يحل ما حرم الله، أو يبتدع ما لم يفعله رسول الله، والناس يختلفون باختلاف الفقهاء ويسمعون مختلف الآراء من مختلف الفقهاء، فيصدقون ويكذبون، ويقبلون ويرفضون، ويستحسنون ويستقبحون، رأيا من هنا ورأيا من هناك، فهم واقعون في دوامة الاختلاف، لكن دون انتماء إلى أحزاب، فالاختلاف في هذه المرحلة، رغم اتساعه وانتشاره، لم يتمخض بعد عن تفريق الجماعة أو تقطيع الأمة، بل الناس جميع، والأمة واحدة، والأمامة واحدة، وإن كان الناس يخالف بعضهم بعضا في أمر أو آخر من أمور الدين.
- المرحلة الثانية: مرحلة الاختلاف الجماعي
وقد بدأت هذه المرحلة بعد قرنين من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، عندما ظهرت المذاهب والأحزاب والفرق والشيع، والتف حول كل إمام شيعته وأنصاره وحزبه، يقولون بقوله، ويدينون برأيه، دون آراء الآخرين، ودون التزام بنصوص الكتاب والسنة، تعاليم شيخهم تعلو عندهم على كل ذلك، وهي لديهم في المقام الأول تصديقا وتنفيذا، يُحلون ما أحل لهم، ويحرمون ما حرم عليهم، لا يلتفتون إلى نص في كتاب الله ولا في سنة رسوله، ولا يتبعون ولا يعظمون إلا قول شيخهم وصاحب مذهبهم، لا يسألونه الدليل، ولا يبالون إن كانوا على حق أم هم في ضلال، قد استسلموا وانقادوا لكثير من الضلال، وعبدوا من دون الله هؤلاء الرجال، فباؤوا بسخط من الله وانحدروا إلى شر مآل, قال عز وجل: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}.
تلك سنة الله في الأمم جميعا، لا يخلصون العبادة لله إلا في حياة رسلهم فقط، ثم لا يلبثون أن ينقلبوا إلى عبادة الأحبار دهرا طويلا لا يعبدون الله مخلصين له الدين إلا في غمرة الوحي، ودهشة البينات، فإذا ارتفع الوحي، وانقطعت البينات، ارتكسوا في الظلمات، واحتنكهم الشيطان فدعاهم إلى الضلالات، وأوقعهم في الشبهات، فاتخذوا المذاهب ودانوا بالخرافات وعبدوا الأحبار، وتفرقت بهم السبل، وأشركوا بالله وهم لا يشعرون، وصدق الله العظيم: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.
هكذا فعل الأقدمون، هكذا فعل المشركون، وهكذا فعل المسلمون كما كانوا يفعلون. قال صلى الله عليه وسلم: [لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا حجر ضب لسلكتموه”. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: “فمن؟!]
الأحزاب والمذاهب كلها ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي كلها جميعا رجس من عمل الشيطان، ما أمر الله بها ولا رسوله، بل نهى عنها أبلغ النهي وتوعد عليها بأشد الوعيد. وما خرج هذا النبت الخبيث للناس إلا بعد قرنين من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أفضل القرون كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم، لا جرم أنه ليس بعد الخير إلا الشر ولا بعد الحق إلا الضلال، نبتت بعد المذاهب والأحزاب من تربة الاختلاف في الكتاب.
ومصيبة الفرق والشيع والمذاهب التي هي الطامة الكبرى لجميع الأديان، إنما ظهرت في الإسلام عندما تفاقم في المسلمين الشر، وتضاءل فيهم الخير، عندما تناقص الإيمان، واحتنكهم الشيطان، عندما تدلى المسلمون من خير القرون إلى القرن الخاسر المغبون. قال صلى الله عليه وسلم: [خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته]. وقالﷺ: [اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم]. وقال: [سحقا سحقا لمن غير بعدي].
إنما وقعت مصيبة المذاهب لما طال على الناس الأمد، فقست قلوبهم، لما طغت أعداد المختلفين في الكتاب على أفراد المتمسكين بالسنة والكتاب، لما طغت صيحات المختلفين على أصوات المعتصمين، لما فرط الناس في الاعتصام، بلاهم الله بالانقسام، لما ظلموا أنفسهم بالاختلاف بعد الائتلاف، أثابهم شرائع الجور والإجحاف بعد القسط والإنصاف، وسلط عليهم الأشرار بعد الأخيار، فولي الله الظالمين على الظالمين، وامتلأت الأرض بجرائم المترفين، فحق القول عليهم أجمعين.
هذه هي سنة الله في الناس أجمعين، إذا أرز المخلصون برز المختلفون، إذا غابت الملائكة حضرت الشياطين. هذا التحليل الموجز للمرحلة الجماعية للاختلاف، يبرز العناصر الأساسية التي تولدت عنها مصيبة الشيع والمذاهب. ومصداق ذلك كلمة الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، وكذلك قوله تعالى: “{وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِنْ وَالِ}، وقوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّٰلِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، وقوله تعالى: “{إِنَّ الظَّٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلۡمُتَّقِينَ}.
ولا يحسبن قليل العلم قاصر الفهم أن مصيبة المذاهب قاصرة على تلك المذاهب الأربعة، التي شاع خبرها في أرضنا وغير أرضنا، بل هنالك من المذاهب ما هو أوسع انتشارا وأشد أخطارا منها، ثم إن أعداد المذاهب وأنواعها المختلفة في ازدياد مستمر، تلك خطيئة جارفة، لا تزال في الأرض زاحفة، ليس لها من دون الله كاشفة.
هنالك مذاهب عديدة ينتمي أصحابها إلى الإسلام، واسعة الانتشار، كثيرة الأنصار، كمذاهب الشيعة، والإسماعيلية، والبهائية، والجعفرية، والخليلية، والطرق الصوفية والنقشبندية، والرافضة، والمعتزلة، والمرجئة، والدهرية، وغيرها من الأوزاع والأشياع التي تخرج في الناس بلا انقطاع. فيا حسرة على الإسلام الذي ضاع!!
في هذه المرحلة من الاختلاف، تقطع الناس زُبَرًا خلف مشايخهم وأحبارهم، تقطعوا فرقا وشيعًا ومذاهب وأحزابًا، وإن كانوا جميعًا رعية لدولة واحدة، تحت حكم واحد، وسلطان واحد هو خليفة المسلمين جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنهم تحت هذا الإمام الواحد أحزاب متناحرون، ومذاهب متدابرون، فكان هذا التقسيم الداخلي في جوف الدولة الواحدة تمهيدًا وإرهاصًا لتقطيع الدولة الإسلامية الواحدة بعد ذلك إلى دويلات، وتلك هي المرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل الاختلاف في الكتاب، قد بلغت مداها ثم إلى ربك منتهاها.
3- المرحلة الثالثة: مرحلة تمزيق الأمة الواحدة إلى دويلات.
كان زوال الخلافة الإسلامية، وتمزق الأمة الواحدة العظيمة إلى دويلات ضئيلة هزيلة، هو النتيجة الحتمية، والخاتمة المأساوية، والمرحلة النهائية لكارثة الاختلاف في الكتاب.
ما زالت تتجمع المتاعب وتتوالى المصائب، منذ اللحظة الأولى للاختلافات في الكتاب، وتزداد جيلاً بعد جيل، وتتفاقم قرنًا بعد قرن، وتتضافر الأسباب، وتتواطأ قوى الشر والعدوان، وتتضاءل وتتخاذل عناصر الخير والإيمان، حتى بلغت الفتنة ذروتها، وأدركت الكارثة نهايتها، وطغى الطوفان، فاقتحم الأبواب والجدران، وتدفق الشر في كل مكان، فوقع ما لم يكن في الحسبان.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه والخلافة في أوج عظمتها، والوحدة الإسلامية في عنفوان قوتها، وروابط المسلمين في أكمل شدتها. كان عمر يخشى الفتنة ويتوجس شرورها، كان يتنسم أخبارها، ويتحسس جذورها فيقتلعها اقتلاعًا. كان يتوقعها كأنه يراها، فيسأل الثقات عنها: ماذا قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
روى البخاري في صحيحه عن حذيفة قال: [أن عمر بن الخطاب: قال أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ كما قال. قال: هات، إنك لجرئ، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: ليست هذه، ولكن التي تموج كموج البحر. قال: يا أمير المؤمنين، لا بأس عليك منها، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا. قال: أَيُكْسَرُ البابُ أم يُفتح؟ قال: لا، بل يُكسر. قال: ذلك أحرى ألا يغلق. قلنا: علم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون غدٍ الليلة. إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله، وأمرنا مسروقًا فسأله: فقال: من الباب؟ قال: عمر.]
إن الاختلاف في الكتاب قد مهد للفتنة تمهيدًا، إذ أوجد أصنافًا عديدة من الفقهاء مختلفة الآراء والأهواء، أكثرهم راجح البطلان، قليل الإصابة للحق، وأكثرهم مداهنون للسلطان، يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً. فأملى ذلك للحكام أن يستخدموهم لترويج أباطيلهم وتزيين ضلالاتهم للعوام، الذين هم بطبيعتهم يخافون الرؤساء، ويعبدون الفقهاء، والذين هم أجهل شيء بتعاليم الدين وشرائع الأحكام. فهم يصدقون كل ما يلقيه إليهم الفقهاء ويتبعون كل ما يأمرهم به الرؤساء، دون أدنى فهم أو علم، إلا أنهم يرددون ما يسمعون كالببغاء.
ولقد وصفهم القرآن الكريم وصفًا جامعًا بقوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنِعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، وبقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۚ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
ولم يكن تضليل الفقهاء للعوام فقط بتزيين أباطيل الحكام وضلالاتهم بل كان أيضًا بكتمان ما في الكتاب من البينات والهدى التي أنزلها الله للناس وخصوصًا ما يمس الحاكم لئلا يكشف للعوام ما يقترفه من إثم وحرام، وخصوصًا ما يأمر به الشرع نحو خطايا الحكام. وهكذا يضع الفقهاء عصابات بهتانهم على أعين العوام لكيلا يبصروا شيئًا مما حولهم من الخطايا والآثام ثم يسوقونهم إلى مصارعهم كالأنعام.
إن الله تبارك وتعالى قد أمر أن تكون هذه الأمة أمة واحدة لا دويلات أشتاتًا، قال تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون}. وقال تعالى: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، فتقطعوا أمرهم بينهم زُبَرًا كل حزب بما لديهم فرحون، فذرهم في غمرتهم حتى حين.}
ولكن دهاقين الأحبار الذين ما يأكلون في بطونهم إلا النار قد كتموا عن الناس تلك الأخبار، ليزينوا التمرد والعصيان للطامعين الذين اتخذوهم بطانة وجعلوهم من المقربين، وليزينوا للغوغاء مساندة الطامعين، ولم يبالوا بالوعيد على الكتمان من رب العالمين حيث قال تعالى: “{إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}. وقال تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} وقال تعالى: {الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار}. وقال تعالى: {واذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون}.
لقد شرع الله تعالى بلسان رسوله أقصى العقوبات الرادعة الحاسمة، التي تقطع دابر الفتنة، وتبدد وساوس الشيطان، وتطفئ نار العصيان، وتطيح بأي رأس ترتفع المنازعة مع الخليفة الشرعي الذي اجتمع عليه أمر المسلمين كائنًا من كان صاحبها، كما شرع مضللة كل من يعاونه على ذلك، حتى يستسلموا ويدخلوا في الطاعة مذعنين، فإذا برز متمرد ينازع أمام المسلمين، ويقاتله بعصبيته وأعوانه، قتل المتمرد لا محالة وقوتل رحاله حتى يستسلموا ويعطوا بأيديهم تائبين نادمين. فأنى للفتنة أن تثور مع هذا القمع الحاسم، والعقاب الصارم؟
قال رسول الله ﷺ: [إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهو جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان]. وقال ﷺ: [من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه]. وقالﷺ: [إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما]. وقال ﷺ: [خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم”. قالوا: “قلنا يا رسول الله أفلا تنابذهم عند ذلك؟” قال: “لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة]. وقال تعالى في البغاة: “فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله}.
فهذه الدعامات الكبرى لوحدة الأمة الإسلامية، وتلك الضمانات العتيدة لصيانة هذه الوحدة، قد فقدت تمامًا بسبب الاختلاف في الكتاب، الذي أدى إلى اختفاء هذه التشريعات عن علم الناس، إذ قد كتمها الفقهاء، وزينوا ما زينوا للقرناء، حتى ثاروا على الخلفاء، فقطعوا الأرض وسفكوا الدماء. هذه التشريعات قد جهلها الدهماء، فسهُل بذلك انقيادهم للمحرضين والطامعين، حتى قاتلوا خلفاءهم بجهالة وهم غافلون.
فلو لم يكن الاختلاف في الكتاب، لبين الأحبار ما فيه كما أمرهم الله ولم يكتموه ليشتروا به ثمناً قليلاً، ولو بينوه لعلم الناس حقيقة ما أمرهم الله ورسوله، ولو علم الناس ذلك، ما قاتلوا خلفاءهم بجهالة وهم لا يعلمون، وما أعانوا عليهم المتحرقين للسلطان من الطامعين، وإذا لما تقطعت الأرض، وما تفرق المسلمون.
فبسبب خطيئة الكتمان، ذهب عن الخلافة والخلفاء أقوى ضمان، وعند ضياع شرائع الدين، تنطلق الفتنة والفوضى في مرتع أمين، وحيثما ضاع الإسلام، ذهب الأمين والسلام وتمزقت الأمة، وزل الأنام.
واستمرت الفتنة في الغليان، وأزت صدور الطامعين في السلطان حتى إذا طفحت الشرور، واشرأبت أعناق أهل الغرور، وتهيأت الفرص لأصحاب المطامع، تحركت رؤوس العصيان، وخرج كل ذي منعة بأنصاره على السلطان، واستخدم بطانته من الفقهاء في تضليل العوام، وتزيين الخروج على الإمام.
وتمت الكارثة، ودخل الاختلاف المرحلة الثالثة، وتبوأ المختلفون مقاعد الصدارة، وتوارى المخلصون عن أعين النظارة، وأنشب الباطل في الحق أظفاره، وأصبح المنكر معروفًا، والمعروف منكرا، وساغ في عقول الناس وقوع التفرق والتحزب في الإسلام، واعتبروا تلك الخطيئة الكبرى ضرورة حضارية، وخطوة تقدمية، وانطلاقة فكرية، في آفاق الحرية.
وهكذا أطلقت معاول الشرك والإلحاد والإباحية ، لهدم صرح الخلافة الأسلامية ، بدعوى خلع الوصاية وبناء الاستقلال والحرية، حتى قضى الأمر وتمت المأسة وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فإذا الخلافة الإسلامية الكبرى، التي ظلت سيدة العالم كله قرونًا طويلة، إذا هي دويلات مزيَّن لا تحيا ولا تموت، هي كلها أوهى من بيوت العنكبوت ومنافعها نهب لكل غاصب وطاغوت.
تلك هي المرحلة الثالثة من مراحل الاختلاف في الكتاب. إن في ذلك لعبرة وبصائر للذين يريدون الإصلاح، والعودة بالأمة الإسلامية إلى الوحدة التي أمر الله بها، وأن تزول الاختلافات والمذاهب من أرض المسلمين، وأن يكون الدين خالصًا لله رب العالمين.
الباب الثالث عشر
عواقب الاختلاف في الكتاب
ما ظن الناس بعواقب كبرى الخطيئات، إلا أن تكون عذابًا واصبًا من الكوارث والنكبات، وسيلا جارفًا من المصائب والويلات، لا نحصيها عددًا، ولكنا نذكر طائفة منها، عسى أن يفيق الغافلون ويعمل العاملون، ومعذرة إلى الله عز وجل ولعلهم يتقون، وفيما يلي بعض نتائج الاختلاف في الكتاب:
1 – تبديل كلمات الله وتغيير شرائع الدين
هذه هي النتيجة الأولى للاختلاف في الكتاب، بل هي عين الاختلاف، لأنهم عندما تنازعوا في آية من الكتاب أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: مراد الله كذا، وقال آخرون: بل مراده كذا، وغيرهم وغيرهم قالوا: كل فريق منهم برأيه وهوى نفسه ما يشاء. ومنهم من يقول: معنى الآية كذا، وآخرون يقولون: لا، بل معناها كذا، وغيرهم يقول: لكل جماعة فهمهم ورأيهم. ومنهم من يقول: هذه الآية نزلت في كذا، ويقول غيرهم: بل في كذا، وهكذا يفعلون في الأحاديث. فلو صادف أن أحد هؤلاء المختلفين المتشاكسين أصاب الحق، فالباقون المخالفون له هم حتمًا وبالضرورة مبطلون. فانظر نسبة الحق إلى الباطل في هذا الصراع المتواصل؟!
أهل الحق في كل ملة، هم عدد قليل أو ثلة، وأهل الباطل جم غفير من الجملة، وسواد الناس خلف سواد الأحبار، ما يتبع أكثرهم إلا كلامًا مبدلًا وشرائع محرفة. هؤلاء هم الأشرار، هؤلاء هم بعث النار، يوم يقول الله عز وجل: يا آدم أخرج بعث النار, فيخرج من ذريته من كل ألف تسعمائة وتسعًا وتسعين, يساقون إلى البوار. قال عز وجل في السابقين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثلة مِنَ الْآخِرِينَ” (الواقعة)، وقال تعالى في أصحاب اليمين: “ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ” (الواقعة: 39). وهل وراء هذا النزر المختار من السابقين وأصحاب اليمين إلا أصحاب النار؟! فيا ويل المختلفين من الأحبار، وأتباع الأحبار، وأتباع أتباع الأخبار.
شرائع وأحكامًا، سألوه من قال هذا؟ وما دليلك على المهتدين؟ أولو الألباب إذا سمعوا فقيهًا من رأسه هذا؟ فإن أيقنوه من عند الله لانت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فاتبعوه، وإن وجدوه إفكًا من التصانيف، وبدعًا من التخاريف، قالوا له: حسبك، أمسك عليك نثار بطنك، إنا برءاء من قولك. أولئك ميزوا بين الصدق والإفك، فاتبعوا الحق ونبذوا الباطل. أولئك لهم البشرى من الله تعالى: {وَبَشِّرْ عِبَادَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُ اللَّهُ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمْ أُو۟لَـٰٓئِكَ الۡاَلۡبَابِ} (الزمر: 18).
أما غيرهم فيتبعون كل ناعق، ويستمعون لكل أفاك، لا يميزون الصحيح من المكذوب. أولئك صم بكم في الظلمات، لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون. أولئك محجوبون عن الحق، ما يتبعون إلا الظن وما تهوى أنفسهم. قال تعالى: {َإِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَىٰ} (النجم: 23). وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلٰهِهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّـهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23).
إن تبديل كلمات الله وتغييرشرائعه إنما يقع بأحدى ثلاثة طرق:
1 – تحريف كلمات الله في كتبه المنزلة بحذف أو إضافة أو تقديم أو تأخير أو تبديل ألفاظ أو جمل مكان أخرى. وهذه هي أخطر الطرق وأشدها إضلالًا للناس. وهذا النوع من التبديل قد وقع لجميع الأمم عدا هذه الأمة التي حفظها الله كتابها معجزة، وإنه لها إلى آخر الدهر. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9). وقال تعالى: “{إِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42). أما الأمم السابقة كلها فقد حرفت كتبها المنزلة كما أخبر عن ذلك القرآن الكريم، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّـهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79). وقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (النساء: 46). وقال تعالى: {ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}.
2 – شرائع وأحكام يفتريها الأحبار في مصنفاتهم وينسبونها إلى الله أو أحاديث مكذوبة يفترونها على رسول الله أو أقوال بألسنتهم يقولون إنها من عند الله قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78).
3 – شرائع وأحكام وضعتها الحكومات المختلفة يبطلون بها شرائع التنزيل ويحلونها محلها، لا ينسبونها إلى الله بل يقرون صراحة أنها من وضعهم، ويُبررونها بمختلف العلل، كالتطورات الحضارية، والتحركات التقدمية، والمناهج العلمانية، والاحتياجات العصرية والضرورات الاجتماعية، وما شاكل ذلك من المغالطات الكلامية لفرض القوانين القهرية اللادينية. فهذا كله إلحاد صريح، وضلال سافر، وإنكار مباشر لشرائع الدين. هذا إلحاد ظاهر لا يخفى على أحد، فلا يضل إلا من كان على نفس الخط من الزندقة.
قلنا إن الله عز وجل قد حفظ القرآن الكريم من التغيير والتبديل، فكان هذا حفظًا للأصل، حفظًا للشطر الأكبر من الشريعة الإسلامية، وهو شطر التنزيل، فبقي الشطر من الشريعة وهو شطر حيوي لا عنى عنه لا تمام العلم والعمل بالشريعة, نعم لحكمة ايعلمها مدبر الأمر أحكم الحاكمين جل جلاله، لم يشأ أن يجعل لهذا الشطر الآخر من الشريعة نفس الحفظ الكامل الذي جعله للقرآن الكريم، بل اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يُسلِّط جيوشًا من الكذابين والوضاعين والمدلسين والخراصين والمرجفين والمنافقين، ومن لا يعلمهم إلا الله، يُسلِّطهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغرقونها إغراقًا في طوفان عارم من المفتريات، حتى إن الصحيح منها ليكاد يختفي في عجاج هذا الإفك المحيط. لا يُستخرج الصحيح منها إلا كما يُستخرج الدر من جوف البحر، لا يخرجه إلا الغواص الماهر الصابر المصابر, ما جعل الله تعالى تلك المشقة في معرفة الصحيح من المعلول إلا ليعلم من ينقلب على عقبيه ومن يتبع الرسول، ولله الحكمة البالغة وهو أحكم الحاكمين.
ولكن الله عز وجل من رحمته بالمسلمين، ومن لطفه بأهل هذا الدين، قيَّض لفيفًا من عباده المؤمنين، زوَّدهم بما شاء من العلم والتمكين للبحث والتنقيب عن الدر النظيف في حماة هذا الدحض الكثيف, على رأسهم الشيخان البخاري ومسلم، اللذان جمعا في صحيحيهما من أصح الصحاح ما يُعتبر المصدر الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن العظيم. فجزاهما الله خير الجزاء، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. وهكذا حفظ الله تعالى للمسلمين ما أبقى لهم من أحاديث رسوله الأمين، وحجب عنهم ما حجب، كل ذلك بميزان وقدر حتى لا يضيع إيمان المؤمنين، وحتى يضلَّ من حقت عليه الضلالة من الغاوين أتباع الوضاعين والكذابين والمدليسن.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة: 143). وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التوبة: 115).
فمرة أخرى ننصح عامة المسلمين أن لا يأخذوا شرائع دينهم إلا من كلام الله وكلام رسوله فقط، هذا هو الدين الخالص. ننصحهم ألا يأخذوا شرائع دينهم من أقوال العلماء أو الفقهاء أو أي بشر كائنا ما كان دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. من أخذ شرائع الدين من أقوال الأحبار والربانيين، دون أي سند من نصوص الدين، فهموا لهم من العابدين هكذا قال الله وقال رسوله الأمين صدق الله وصدق رسوله، وكذب جميع المفترين. شرائع البشر في الدين إنما هي شرك مبين.
ومرة أخرى ننصح العلماء والفقهاء من المسلمين أن ينسلخوا من المذهبية، وأن يتبرؤوا من تفريق الدين شيعًا وفرقًا ومذاهب وأحزابًا، وأن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله وحدهما دون سواهما، وأن يبينوا للناس ما أنزل الله في الكتاب من البينات والهدى، وألا يكتموا من ذلك شيئًا، وألا يشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، وألا يشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة إن كانوا لربهم يرهبون.
ضياع شرائع الإسلام
لقد تم التغيير والتبديل في شرائع الإسلام بصورة شبه كاملة، إذ لم يبقَ من الإسلام إلا بعض شعائر العبادات من صلاة وصيام وحج، أما كل ما عدا ذلك من شرائع وأحكام، فقد اندثرت تمامًا واستبدل به رجس من عمل الشيطان، وضلال من صنع الوضاعين وحتى هذه الشعائر القليلة الباقية من الإسلام، قد نالها من التبديل والتغيير ما شوه صورتها، وأفسد طبيعتها، حتى لا يكاد المتأمل فيها يتعرف على آثاره من النسك الصحيح الذي كان مشهودًا ومعهودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا التغيير قد وقع مبكرًا بعد قبض النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري في صحيحه عن غيلان عن أنس قال: [ ما أعرف شيئًا مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة!” قال: “أليس صنعتُم ما صنعتم فيها؟!] وروى البخاري في صحيحه أيضًا عن الزهري قال: [دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: لا أعرف شيئًا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيِّعت].
أما جميع شرائع الدين وأحكامه فقد انعدمت بالكلية، لا ترى لها أثرًا ولا تسمع عنها خبرًا. ولو انبعث رجل من قرن النبي صلى الله عليه وسلم ليجوب في ديارنا، ما تردد طرفة عين في القول إنه يمشي في دير من أرض الروم أو في ضيعة من بلاد الفرس، إلا أن يسمع أذانًا للصلاة، أو قرآنًا في الإذاعة وحتى هذان الرمزان، الأذان والقرآن، هما مهجوران. أكثر الناس معرضون عن الأذان وعن القرآن، لا الأذان ولا القرآن يجتذبهم إلى بيوت الله. يسمعون الأذان ولا يهز مشاعرهم، ويقرؤون القرآن ولا يجاوز حناجرهم. بيوت الله مهجورة، وبيوت اللهو معمورة، وقلوب الناس في الشهوات مغمورة.
الصلاة أكثرها عادة لا عبادة، أو تقاليد جوفاء، وحركات شوهاء. والصيام أغلبه تذمم وحياء، والحج معظمه تفاخر ورياء. وكل ما عدا ذلك من شرائع الدين وأحكامه، قد أدركه المسخ أو طواه الفناء، واستبدل به شرائع الوضاعين، طافحة بالفساد عاصفة بالظلم والاستبداد.
المواريث قد عبثت بها أيدٍ الطواغيت، وأحكام البيوع قد عفا عليها الأثر، والربا في الأرض ساد وانتشر، وأحكام القضاء كلها منقولة عن الكافرين، وأما قضاء الله ورسوله فإنما هو خبر من الأخبار أو قصص في بطون الأسفار.
تركوا الزكاة، التي هي ركن من أركان الدين، وطهرة أموال المسلمين، واستبدلوا بها رجسًا من ضرائب الكافرين، وسحتًا من المكوس الشديدة التحريم. والخمر والميسر والأنصاب والأزلام تُدار على رؤوس الأنام. وشرائع الحرث والزرع والدور قد حُرم حلالها، واستحل حرامها، واستبدل بها شرائع أهل الكفر والفجور.
ولقد ذكرنا أمثلة رمزية لذلك التبديل والتغيير في الشرائع في باب ( اختلاف المذاهب والفقهاء ) لتنبيه المسلمين إلى ماحاق بالدين . ولتأكيد انعدام العصمة لغير النبيين ، فمن أراد المزيد ليزداد يقيناً على يقين، أحلناه على دواوين « الدين القيم » المبينة على الغلاف ليزول الوهم عن الواهمين, ويستبين الحق للمستبصرين {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وان الله السميع عليم كه فتغيير الشرائع هو النتيجة الأولى للاختلاف في الكتاب.
۲ – اضلال المسلمين
السواد الأعظم من البشر في كل زمان وفي كل ملة يتبعون الأحبار في شئون الدين، يصدقونهم في كل ما يقولون، ويطيعونهم فيما يُحلون ويُحرمون، يتبادرون أيديهم بالتقبيل، ولا يسألونهم عما يقولون أي دليل، فباء الطرفان بالتضليل والتخبيل.
إذا ضل الأحبار ضلت أممهم بضلالهم، وهذا واقع في جميع الأمم، السواد الأعظم من الأحبار في جميع الأمم قد ضلوا ضلالا بعيدا، بتحريف كتبهم وتزييف شرائعهم، واتباع أهوائهم، ولم ينج منهم من هذا الضلال الباغي إلا القليل جدا الذين زهدوا في الدنيا، وبدءوا من التحريف والتزييف، واعتصموا بالصحيح من مصادر دينهم فقاموا في عبادة ربهم خالصين مخلصين، لا يلوون على لعاعة من الدني كالذين أخبر عنهم القرآن الكريم في عدة مواضع، كقوله تعالى (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين} وكقوله تعالى في أهل الكتاب {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} و كقوله تعالى في النصارى {واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين} وكقوله تعالى في عموم الصالحين من جميع الملل {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.
وكالذين أتتنا أخبارهم في أحاديث رسول الله ﷺ من أحبار بنى اسرائيل وزهادهم الذين ثبتوا على الحق، ولم يحرفوا ولم يبدلوا كابن جريج وغيره ممن دونت أخبارهم الصحاح.
كل ذلك يشير الى الندرة النادرة من أحبار الأمم الذين صبروا على الحق وزهدوا في الدنيا ونجوا من الباطل والضلال.
وأحبار المسلمين هم على نفس المنوال، الأغلبية العظمى منهم بدلوا كلمات الله، وغيروا شرائع الله، وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله وحرموا ما أحل الله وأحلوا ماحرم الله وكتموا ما أنزل الله من البينات والهدى, وساروا في ركاب الحكام، وتمرغوا في الدنيا ظهراً لبطن، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلا، وضلوا، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
قد أمتلأت مصننفاتهم بالضلال والخبال، قد ضربنا لها الأمثال، ومن ورائها أثقال كالجبال، قد سكتوا عن الموبقات التي فشت في البلاد والعباد ومالأوا الحكام على فرض قوانين الخبال، التي دمرت النساء والرجال وطرحت شرائع الأسلام في الأوحال .
أحبار المسلمين قد ضلوا ابتداءً باختلافهم في الكتاب أضلوا من المسلمين من سار خلفهم في الركاب {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغيرعلم ألا ساء ما يزرون}
قد أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم ، ولو شاء الله لرفعهم بالكتاب الذي حملوه ، ولكنهم طرحوه وراءهم ظهريًا واشتروا به ثمنا قليلا، متاع الحياة الدنيا وزينتها، قد حرصوا على الزخرف والمتاع على العلو والارتفاع، تراهم يتشوفون إلى المعالي ، ويتملقون السلطان العالي، ويفخرون بمقعدهم من ركاب الوالي
قد رأينا ورأى الناس من ذلك الأمثال تلو الأمثال على كَرِّ السنين والأجيال، ولعل مثلا من كل حقبه، يؤكد للناس دوام النكبة ويكشف للمخدوعين حقيقة الصدمة فنحن نذكر في العشرينات عظيماً من هؤلاء الأحبار كان يصلي بالناس صلاة التروايح في أعظم مسجدين في القاهرة، ففي ليلة السابع والعشرين غادر المسيح وترك الأمانة لآخر ثم أخذ زينته الباهرة ، وركب عربته الفاخرة ، متوجها إلى قصر الدوباره في رهط من العلماء إجابة لدعوة من المندوب السامي البريطاني، وتحدثت بطانة الإمام عن ذلك الشرف الرفيع بكل فخر واعتزاز {أيبتغون عندهم العزة فإن العزة الله جميعا} ونذكر في الثلاثينات ما سجلته عدسة المصور في الحفل الذى أقيم بقصر أنطونيادس بالاسكندريه ابتهاجا بشفاء الملك فؤاد ، وشهده كبار العلماء عندما رفع كبيرهم أمام عينيه قرطاساً ليحجب عن بصره الراقصات الكاسيات العاريا ثم يضع عينه على حافة القرطاس يخالس النظر إلى الشهوة المتاججة بغير لباس !!!! ونذكر كبيرهم وهو يتدافع بين الناس تدافع الأمواج ، يسعى مهرولا خلف حاملة التاج حتى لا يفوته شرف اللحاق بالركاب !!! هذا ما أهان نفسه وحدها ولكنه أهان الأسلام الذى يمثله ( رسمياً ) وليس بعيدا عن الأذهان ، ذاك الذي أجبره السلطان على أرساء حجر الأساس بيده لمؤسسة الشرك والكفران، فلا والله ما عتم الآمر والمأمور أن دخلا حيث لا يرجعان، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار
ونحن اذ نتكلم عن إضلال المسلمين، نتيجة الإختلاف في الكتاب، نحب أن نؤكد بكل قوة أن ضلال الأحبار أو صلاحهم ليس كضلال الأفراد أو صلاحهم ، ضلال الحبر أو صلاحه يضل به أو يصلح الجم الغفير من الناس ، وضلال الأحبار أو صلاحهم في أمة من الأمم تضل به الأمة بأسرها أو تصلح ، أما ضلال أى نفس واحدة أو صلاحها فإنما هو عليها أو لها دون سواها ، فعلى الذين يعنيهم صلاح الأمم أن يفطنوا إلى ذلك وأن يعملوا طبقا لذلك, وإنما تؤتى البيوت من أبوابها لا من ظهورها و {والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون} قال رسول الله ﷺ [من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ]
ضلال الرعية يختفى إذا صلح الحكام، أما ضلال الحاكم فهوالذي يدمرالأمة ويضل الأنام، ضلال الرعية يقوم بالهداية ويرد الى الصواب، أو يردع بالعقاب، أما ضلال الوالي فهو الذي يدع الأمة دعا إلى التباب ، فلا تغيير لشرائع الدين ، الا عند سيطرة المجرمين المبدلين ، إن تسلط شرذمة قليلة من الفراعين ، العالين في الأرض مفسدين غير مصلحين ، هو هلاك الناس أجمعين هذه سنة الله في الأولين والآخرين {واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} سُنَّةً حَقٌّ قد قرأناها في أخبار الأقدمين ، واكتوينا بنارها في عصرنا الحزين.
لا يصدق العوام قول الحكام فى الدين ، ولكن يصدقون قول الأحبار والربانيين ، والحكام أنفسهم يستفتون الأحبار في الدين وليس الأحبارهم الذين يسألون الحاكمين فالقول المسموع في الدين هو للأحبار فضلال الأحبار هو الطامة الكبرى.
وقد عرفنا في صدر هذا الكتاب المقصود من لفظ ((الأحبار)) ، ونريد بتعريف الأحبار تحديد الأشخاص ذوي التأثيرعلى العوام فى شئون الدين هم بصفة عامة كل من يتوهم العامة أنهم ذوو علم بالدين فسيتفتونهم ويسمعون لهم ويطيعون حتى ولو كان علمهم ظنيناً غير يقين حتى لو كانوا كاذبين غير صادقين حتى ولو كانوا دجالين مشعوذين فالإشارة هى إلى هؤلاء أجمعين لما لهم من التأثيرعلى عوام المسلمين.
الأحبار عند الله هم كل من آتاه الله الكتاب وفقهه في الدين سواء كانت هذه صنعة معاشة أو لم تكن هؤلاء هم الأحبار حقا ، وربهم أعلم بهم، أما الأحبار في نظر العوام فهم كل متخصص في علوم الدين ، مشتغل بتعليم الدين ، أو متقلد بعض مناصب الحكم في الدين ، أو موكل بإمامة المصلين ، أو متزعم طريقا من طرق المتصوفين أو متقمش بزى أهل الدين ، أو متقوقع في أضرحة ( الأسياد ) المشهورين أو ما شابه ذلك مما يُلقى في روع الدهماء أنه على علم بالدين
وكيفما كان أى حبر من الأحبار ، فالويل للظالمين أكلة النار الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ، والذين يهلكون أنفسهم وقومهم بالاختلاف في الكتاب ياطلاب الحق لا تسمعوا لمختلف في الكتاب ، مفتر على الله مشعوذ كذاب ، بل احثوا على راسه التراب واعتصموا بالله العزيز الوهاب
3- تفريق الدين سيعًا ومذاهب
لما اختلف أحبار المسلمين فى الكتاب الذي أوتوه من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم، ومن بعد ماجاءهم البينات ، حكموا في الدين بآرائهم على خلاف النصوص فبدلوا كلمات الله ، وغيروا شرائع الله ، فضلوا عن الحق ، وزاغوا عن الهدى وضل الناس بضلالهم ، واختلفوا فيما بينهم ، كما اختلف الأحبار فيما بينهم فلما شاع الاختلاف في الأمة كلها ، إنجاز كل فريق منهم إلى شيخهم الذي يعرفونه واتخذوا أحكامه مذهبا واتخذوه إماما لمذهبهم كل فريق يرى مذهبه هو الصحيح ويرى غيره باطلا ، فكانوا شيعا مختلفة كل حزب بما لديهم فرحون ، فكان هذا هو الصدع الأول في كيان الدين ، تصدعوا شيعا ومذاهب مختلفة بعدما كانوا أمة واحدة ، منهاجا الكتاب والسنة ، ليس فيها رأى دخيل ولا سوء تأويل ، وفي ذلك يقول الله عز وجل ، مبرئاً نبيه من هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعا ومتوعدهم ومحذرهم بالتنكير ، والتنكير في لغة البيان هو أشد التحذير قال تعالى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء انما أمرهم الى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون }
كان اختلاف المذاهب ، وتفرق الدين شيعا هو الصدع الأول في الدين ، فأقام الناس على ذلك قروناً داخل الدولة الأسلامية الواحدة ، فرقاً متصدعين ، ومذاهب متناحرين ، حتى وقع فيهم الصدع الأكبر ، فمزقهم كل ممزق ، ودالت الخلافة الأسلامية التي كانت تجمع جميع المسلمين ، و تناثرت اشلاؤها دويلات مزيلات في الشرق والغرب ، سقطوا بعد ارتفاع ، وذاقوا من الذلة والضياع.
فظهور المذاهب والأحزاب ، هو أشأم مقدمة ، لأسوأ خاتمة ، في كارثة الاختلاف في الكتاب.
4- تمزق الخلافة دويلات .
قال تعالى {ان هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل الينا راجعون} وقال تعالى {وإن هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فَذَرْهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخبرات بل لا يشعرون} وقال تعالى {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون }
فهذه الآيات كلها تعلن للعباد بكل صراحة ووضوح أمر ربهم أن يكونوا أمة واحدة ، وتحذرهم الانقسام الى أحزاب وشيع وألا يغتروا بما أمدهم الله به من مال وبنين فيحسبون ان ذلك ، دليل على الرضا والاكرام {إنما نملى لهم ليزدادو إثما ولهم عذاب مهين}
ولقد تنبأ رسول الله ﷺ بتقطيع الأمة الأسلامة وأنها ستكون نهبا مأكولا للدول الأخرى ، فتحققت نبوءته ﷺ بعد عدة قرون قال ﷺ [ يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة الى قصعتها قالوا أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قل بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل يقذف الله فى قلوبكم الوهن وينزع المهابة من صدور عدوكم حتى ترجعوا الى دينكم]
ولقد تحققت النبوءة طبقا لما جاء في الحديث حرفيا ، فكان ذلك دليلا آخر يضاف الى أدلة كثيرة مماثلة ، كلها تقطع بصدق رسالته ﷺ، فما أن تمزقت الخلافة الأسلامية حتى ثارت مطامع الكافرين ، فانقضوا على تلك الدويلات الهزيلة ، يقتسمونها فيما بينهم مستعمرات ، ومناطق نفوذ ، يستعبدون أهلها ، وينتهبون ثرواتها فكانت هذه الخاتمة المأساوية ، للخلافة الأسلامية هي النتيجة الرابعة ، للاختلاف في الكتاب.
وحقيقة أن القوة في الجماعة والائتلاف ، وأن الضعف في التفرق والاختلاف ، هي حقيقة فطرية ، تهدى إليها غرائز الكائنات ، حتى الوحوش في الغابات ، فلا سبيل الى انکارها ، انما بجحدها الذين هيجتهم المطامع والشهوات ، فهم يتشوفون الى الجاه والسلطان والعلو في الأرض ، يقاتلون على ذلك بكل ما يملكون ، لا يبالون بإهدار الدين ، ولا بمعصية رب العالمين ، ولا بانهاك قوة المسلمين .
وكل انسان يرى كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية وهي قرابة الخمسين ولاية ، لما اتحدت دولة واحدة صارت دولة عظمى ، وكذلك ولايات البلاشفة ، تكونت من اتحادها دولة عظمي ، فالاتحاد دائماً قوة سواء لأهل الشرق الملحدين ، أو لأهل الغرب الكافرين ، فما بالك بالاتحاد بين المؤمنين الموحدين ؟ لكن الكافرين تجمعوا فعزوا ، والمسلمين تقطعوا فذلوا
5- سخط الله وغضبه
لا سخط ولا غضب أعظم من سخط الله وغضبه على الذين اختلفوا في الكتاب ، أولئك ارتكبوا أكبر الكبائر وعددا كبيرا من الكبائر وقد فصلنا ذلك تفصيلا في باب ( حكم الله في المختلفين في الكتاب ) فليرجع إليه .
٦ – ويلات الدنيا
ويلات الدنيا كثيرة هي في النفس آفات وعلل بعد الصحة والعافية وهى فى المال جوائح ما حقه قلة بعد كثرة ، وفقر بعد غنى ، وهى فى المكانة تدهور متتابع ، هوان بعد كرامة ، وذل بعد عز ، وهي في الأمم والشعوب ، هزيمة بعد نصر ، وخوف بعد أمن ، وجهل بعد علم ، وليس بخاف على أحد ما آل اليه أمر هذه الأمة الأسلامية ، التي كانت سيدة العالم بلا منازع ، فاذا هي في ركب الجاهلين المتخلفين ، وفي مجموعة المستضعفين ، واذا هى نهب للطامعين ، قد ردّهم الله أسفل سافلين ، بعد عز ومقام كريم ، ونعمة كانوا فيها فاكهين .
ومن ويلات الدنيا تلك الفتن العارمة ، التي تموج كموج البحر ، فيكثر الهرج ويحطم الناس بعضهم بعضا كما في الحروب الأهلية التي تأكل الشعوب أكلا ..
ومن ويلات الدنيا أن يسلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيجوسوا خلال الديار ، ويتبروا ما علوا تتبيراً .
ومن ويلات الدنيا ما يرسل الله عليهم ألواناً من النكبات من فوقهم كالطوفان والأعاصير والصواعق والبراكين ، أو من تحت أرجلهم كالزلازل والخسف ، ومنها الجفاف والقحط يمسك الله عنهم الأمطار ، وتغيض العيون والأنهار ، فاذا أرضهم الخضراء صحراء جرداء ، ومنها أن يمسك الحب فلا ببيت الزرع أو يرسل الآفات على الحرث والنسل فتهلك الثمار وتنفق المواشي والأبقار ، والله تعالى يقضى بالحق ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال تعالى {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون .}
وأمثلة أخرى من الآيات والنذر تواتيهم كل حين تصيبهم أو تقع قريباً من دارهم ، ولكنهم يسمعونها وهم يلعبون أو يتلقونها وهم مبلسون ، ثم يخرجون منها وهم غافلون ، ثم لايتوبون ولا هم يذكرون ، بل يمرون عليها وهم عنها معرضون {وما تغنى الآيات والنذرعن قوم لا يؤمنون}
ان المختلفين في الكتاب ، واتباع المختلفين في الكتاب ، قد استوجبوا أشد العذاب ، بما ضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل : هم على شفا جرف هار لاندرى ما الله فاعل بهم ، ان هلكوا بغير متاب فانما هم في تباب ، وأن رجعوا القهقرى ، وندموا على ماجرى ، وتابوا وأصلحوا وبينوا ، فان الله يغفر الذنوب جميعا أنه هو الغفور الرحيم .
إن الويلات التي تصيب الناس في الدنيا ، هي عقاب رحيم عز وجل ، ولكنها في نفس الوقت نذير وتحذير ، عسى أن ينتبه صاحبها من غفلاته ، ويستبرىء من سيئاته ، ويرجع عن خطيئاته تائباً نادماً ويتضرع الى الله ساجدا وقائما قال تعالى {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون} وقال تعالى {بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون}
وددنا لو رجع المختلفون في الكتاب وتابوا وأنابوا ، وددنا لو تضرعوا واستجابوا فيبدل الله سيئاتهم حسنات ، وكان الله غفوراً رحيما.
7 – عذاب الآخرة
قد ذكرنا طرفا من عذاب الدنيا وهو كثير مرير ، ولكن عذاب الآخرة أدهى وأمر ، وقد فصلناها في باب حكم الله في المختلفين فليرجع إليها
الباب الرابع عشر
( مواثيق الله )
لقد أخذ الله من عباده المواثيق العظيمة كميثاق التوحيد الخالص من كل شرك ، وميثاق عدم عبادة الشيطان {ألم أعهد اليكم يابنى آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} وميثاق السمع والطاعة ، وميثاق الايمان والنصرة ، وميثاق صيانة الأنفس والدماء ، وميثاق البيان وعدم الكتمان ، وغير ذلك من المواثيق وأولها وأعظمها جميعا هو :
ميثاق التوحيد الخالص
أخذ الله الميثاق على عباده جميعا ، وهم ذر في ظهور آبائهم أن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئاً فأقروا وشهدوا قال تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا درية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}
وميثاق التوحيد الخالص من كل شرك ، لا يكفي فيه الأقرار بالوحدانية ، بل لابد لتمام الاخلاص من نفي كل أنواع الشرك فلا يُعبد الشيطان مع الله ، ولا يتخذ الهه هواه ، ولا يعبد الأحبار ولا يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ، ولا يتخذ من دون الله أولياء ، ولا يعبد المرأة ، أو المال ، أو الطواغيت بجميع أشكالها .
من أجل ذلك ننصح المسلمين ألا يتبعوا في دينهم إلا ما أنزل الله في كتابه ، وفصله رسوله قولا وعملا ، لاما شرع العلماء أو الفقهاء أو الكبراء لا ماجاءت به الشيع والفرق والأحزاب والمذاهب ، من متناقضات واختلافات وشقاق بعيد ، كل ذلك ضلال وخبال.
ننصح المسلمين أن ينسلخوا من جميع الفرق والشيع والمذاهب وأن يعتصموا بالكتاب والسنة وحدهما ، ننصحهم أن يتبرؤا من تفريق الدين شيعا ومن تمزيق الأمة زبرا ، وايثار ما عند الله على زهرة الحياة الدنيا فمن سمع وأطاع فأولئك هم المفلحون ، ومن أعرض ونأى بجانبه فما على الرسول إلا البلاغ المبين هذا نصح للعامة ثم ننصح الذين حباهم الله العلم وآتاهم الكتاب ، ننصحهم بميثاق البيان وعدم الكتمان .
ميثاق البيان وعدم الكتمان
أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، سواء كانوا من الأحبار الذين معيشتهم من الكتاب ، أو الأحبار الذين معيشتهم من شيىء آخر ولكن الله علمهم الكتاب ، كل من آتاه الله الكتاب فهو داخل في ميثاق الذين أوتوا الكتاب أخذ الله ميثاق هؤلاء وهؤلاء ، أن يبينوا للناس ما علمهم الله ونهاهم عن كتمانه ، ايا كان المقابل الذي وقع من أجله الكتمان ، قال تعالى {واذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} وقال تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} وقال تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار}
فبادروا أيها الأحبار بالبيان ، كل على قدر طاقته ، وتطهروا من الكتمان ، ثم لا ترتكسوا في خطيئته ، والبيان يكون إما أن يجعل احدكم من وقته جزءًا يبين للناس فيه ما علمه الله من الكتاب وليثابر علي ذلك فقد قال ﷺ [أحب الأعمال الى الله مادام وان قل] أن يرى في الناس عملا بغير الكتاب ، فيأمر وينهى بما في الكتاب، ويرشدهم إلى الصواب أو أن يُسأل عن شيء في الدين فيجيب بما علمه الله ، والكتمان إما أن يضن بوقته وجهده ، فلا يتطوع من تلقاء نفسه بأي بيان أو أن يرى فسادًا أو ضياعاً فلا ينهى ولا يأمر بشيىء أو أن يُسأل فلا يجيب ، أو يُجيب بغير ما علمه الله ، فهذا خسران و بهتان .
فالأحبار الذين كتموا ما أنزل الله في الكتاب ولم يبينوه ممالأة للطواغيت وتزلفاً للحكام ، أو مسايرة لأهواء الغوغاء، واسترضاء للعوام ، أو مخافة البطش ودوائر الأيام ، أو لأى سبب كان ، هؤلاء قد عصوا الله بمعصية غليظة ، هؤلاء اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، أشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة هؤلاء ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ثم هم نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه قال تعالى {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}
والأحبار الذين كتموا ما أنزل الله من الكتاب ولم يبينوا ما أنزل الله فيه من البينات والهدى ، بل حكموا بغير مافيه بمحض ارادتهم وأهوائهم ، هؤلاء قد انسلخوا من آيات الله وأخلدوا الى الأرض واتبعوا أهواءهم ولقد ضرب الله تعالى لهم أسوأ الأمثال قال عز وجل {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانو يظلمون}
والأحبار الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا _سلامة جلودهم وأموالهم_لاشك أنهم لا يكتمون كل ما فى الكتاب ولكن يكتمون شيئا ويبينون شيئا، يتخيرون ما يأمنون ويتركون ما يحذرون ، هؤلاء قال الله تعالى فيهم وفى أمثالهم {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون، أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يُخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون}
فنصيحتنا للذين كتموا ما أنزل الله في الكتاب من البينات والهدى أن يبادروا بالبيان قبل حلول الغرغرة ، وبلوغ الروح الحنجرة فان الدنيا لا تغنى عن الآخرة .
الباب الخامس عشر
(الجدال بالباطل)
ما قامت دعوة للحق إلا تصدى لها المبطلون، وما خرج للناس نبي إلا قعد له المكذبون، والجدال بالباطل وإلقاء الشبهات هو سلاح المبطلين المكذبين، لرسالات الأنبياء ولدعوات الحق في كل حين.
قد فندنا في الباب الثامن (باب شبهات المتمذهبين) طائفة من الشبهات التي تحجب الحق عن الكثيرين، وتزين الشقاق والاختلاف للجاهلين، فتمنع هؤلاء وهؤلاء من اتباع الهدى، وتحبسهم في الظلمات وهم لا يشعرون. وإذا كانت الشبهات التي فندنا ودحضنا هي أشهر ما يستخدمه المبطلون، فإن المجادلين بالباطل لن يعجزهم أن يفتقوا غيرها؛ لأن ما ذكرناه منها لم يكن على سبيل الحصر، وإنما هو لضرب الأمثال، ولا يتسنى التحرز من جميع الشبهات ما عرف منها وما لم يعرف إلا باجتناب مصادرها، ومصادرها هم المجادلون بالباطل. متى عرفتهم بسيماهم وبلجاجتهم أعرضت عنهم؛ لأنهم أهل لدد وخصام لا حجة عندهم ولا هم يقبلون الحجج الساطعة كالشمس من كلام الله وكلام رسوله، بل قلت لهم ما قال الله تعالى في كتابه: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. لا حجة بيننا وبينكم. الله يجمع بيننا وإليه المصير.}
{والذين يحاجون في الله من بعدما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.}
وسنذكر فيما يلي صفة هؤلاء المبطلين المجادلين بالباطل، وحكم الله فيهم لكي يحذرهم المؤمنون فلا ينخدعوا بمظهرهم، ولا يضلوا بشبهاتهم.
إن هذه الدعوة التي أقامنا الله فيها لنبذ الفرق والشيع والمذاهب والأحزاب، والاعتصام بالسنة والكتاب، إن هذه الدعوة للفوز برضوان الله عز وجل والنجاة من سخطه وعذابه لا تتم بترك المذاهب والأحزاب.
هذه الدعوة سوف يلفحها المبطلون، وينجبها المكذبون، ويتألب عليها أعداء الله من كل حدب وصوب. سوف تخرج لها أعناق وألسنة وأقلام ويتحالف عليها عتو الأحرام ولدد الخصام، ولكن من أخلص دينه لله لا يبالي بشيء سواه، هو حسبه وهو مولاه.
لقد هلهل القرآن المجادلين بالباطل كما هلهل المنافقين الأوائل، لهما في الآخرة شر المنازل، فاسمعوا قول الله فيهم.
صفة المجادلين بالباطل
١. وصفهم الله تعالى بالكفر والتقلب في البلاد، وحذر من الاغترار بما هم فيه من نعمة وسلامة. فكذلك كان الذين من قبلهم قال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرُكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ.}
٢. ووصفهم الله تعالى بشدة المخاصمة والصدود، قال تعالى: {وَلَمَا ضَرَبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا آلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْهُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.}
٣. ووصفهم الله تعالى بالكبر والتجبر وأن الله تعالى والمؤمنين يمقتونهم مقتًا كبيرًا (والمقت هو أشد الكره)، قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ آتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبٍ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ.}
٤. ووصفهم الله تعالى بأنهم لن يصلوا إلى الكبر الذي امتلأت به صدورهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ آتَاهُمْ إِنَّ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرًا مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.}
٥. ووصفهم الله تعالى بالجهل لأنهم يجادلون بغير علم، ووصفهم بالضلال لأنهم لا يتبعون الهدى من رب العالمين، ولكن يتبعون الشياطين، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ. كُتِبَ عَلَيْهِ أَنْهُ مَن تَوَلَّهُ فَإِنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ.}
٦. ووصفهم الله تعالى بالجهل والضلال والغرور والإضلال وانعدام الحجة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ.}
٧. ووصفهم الله تعالى بالفرح والمرح بغير الحق، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذَا الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ. ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا. كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ. ذَٰلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ.أدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين}
تلك بعض صفات المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، غرورًا وكبرًا وعنادًا، وجهلًا وعمى وضلالًا، فما بلغوا كبرهم، وما نصروا باطلهم وما سبقوا وما أعجزوا، ولكن أهلكوا أنفسهم وهم لا يشعرون. بعض هذه الأوصاف يكفي لتنفير الرجل الرشيد، وفي القرآن العظيم مزيد لمستزيد
أصناف المجادلين بالباطل
هذه الأصناف توضح لنا الأسباب التي حملتهم على الجدال في آيات الله بالباطل، وهذا البيان يُعطى مزيداً من النور للمؤمنين لكي يتخذوا الموقف المناسب من هؤلاء الممترين المبطلين، فعلى هذا الأساس تكون أصنافهم كالآتي:
1. جاهل غبي لا علم له بالسنة والكتاب فهو ينعق بما لا يسمع، إلا دعاء ونداء صم بكم عمي، فهم لا يعقلون.
2. ظالم شقي متشكك في الدين ملحد مرتاب، فهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها 3. مفتون مغبون, قد قرأ الدين منكوساً، وأشرب الفقه معكوساً إذ تربى على مائدة المذاهب والأحزاب، فطاب له الشقاق واختلاف في الكتاب، قد طمست بصيرته فأنى يرى الصواب!!
3.عتل غليظ مستكبر قد أخذته العزة بالإثم فصعر خده صلفاً، ولوى رأسه جنفاً، ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون، لا خير فيه، ولا نور يهديه. {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (الزخرف: 40).
4. خبيث نفعي مُستكثر يعرف الحق ويدفنه، ويعلم الباطل ويُزينه، يداهن الحكام يرجو نفعهم ويدفع شرهم، وينافق العوام يستكثر من الأشياع، ويفاخر بالأتباع. قد اشترى دنياه بآخِرته، واشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة. فما أصبرهم على النار! أولئك عباد المنافع، وطلاب البضائع، ما أجسرهم! قد طارت المنافع وبارت البضائع، فيا ويل الخاسر الضائع، إلا أن يحيا بمتاب، قبل أن يواريه التراب.
جدال غير متكافئ
كل جدال بين الحق والباطل، هو دائماً جدال غير متكافئ، مادياً ومعنوياً. أما مادياً فالمبطلون هم الراجحون، هم الأكثر ظهيرة وعدداً والأوفر مالاً وعدداً، والمحقون قفر من المال والرجال. وأما معنوياً فالمحقون هم الراجحون، هم الأقوى حجة والأرسخ إيماناً، والمبطلون هم المرجوحون، هم الأفشل حجة والأضعف إيماناً.
ذلك بأن أهل الباطل يجادلون دائماً في كثرة وصولة، وأهل الحق دائماً في البداية يدعون ويجاهدون في قلة وذلة، ثم تكون العاقبة للمتقين، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران: 123).
وصدق الله العظيم {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِجُنُودٍ لَا تَرَوْنَهَا وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26).
المجادلون بالباطل هم الأكثرون ولهم السلطان، والعتاد والأعوان، وعندهم جميع وسائل الإعلان، بينما أهل الحق يعوزهم ذلك كله.
قد استحوذ المبطلون على أبصار الغوغاء وأسماعهم، واحتنكوا أفواههم واعتقلوا بطونهم وفروجهم، وأخذوهم بالنواصي، يعبئونهم أجناداً ويُلقفونهم إفكاً وأحقاداً. بينما أهل الحق لا يملكون مالاً ولا عتاداً، بل يأمرون أصحابهم بالصبر والجلاد. فلا تكافؤ البتة بين الفريقين المتصارعين.
مناهضة الحق
الفراعين يستخدمون سلطانهم، ويحشرون جنودهم وأعوانهم الماصرة الباطل. قال تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إن هؤلاء الشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، وإنا لجميع حاذرون}. ودعاة الحق لا يملكون جاهاً ولا سلطاناً، ولا جنداً ولا أعواناً.
الفراعين يمدون أعوانهم بكل مال، ويعدونهم كل منصب عال. قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَـٰلِبِين قال نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الشعراء: 42).
دعاة الحق يبلوهم ربهم بالناس ألواناً، ويعد الصابرين في الدنيا نصراً وتمكيناً، وفي الآخرة مغفرة ورضواناً.
هذه هي سنة الله في كل صراع بين الحق والباطل، قديماً وحديثاً وإنا لنرى في عصرنا هذا جميع وسائل الدعاية والإعلان مسخرة لأعوان الباطل، فما يزيد ذلك المؤمنين إلا إيماناً.
الباب السادس عشر
(الطليعة الرائدة)
قد أوضحنا في صدر هذا الكتاب أن الاختلافات في الكتاب قد ظهرت بعد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمن يسير، وأن التفرق في الدين شيعاً ومذاهب قد بدأ بعد قرنين من وفاة النبي واستمرت الاختلافات في تزايد لم ينكرها أحد، حتى خرج ابن حزم وأصحابه في القرن الخامس الهجري بثورتهم المباركة على تلك الاختلافات المشئومة، ففندها ابن حزم أعظم تفنيد بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة، فكانت أول صيحة حق كشفت تلك الضلالات وأول قبس من النور شق تلك الظلمات وأول رجفة صادقة أيقظت الغارقين في السبات، كانت بحق طليعة رائدة لمسيرة مجاهدة.
لقد كان تنبيه ابن حزم وأصحابه إلى فظاعة الاختلافات في الكتاب وهول التناقضات في الشرائع والأحكام، كان تنبيهاً رائعاً قوياً يفيض غيرةً وإيماناً، قوته في حجته ونوره في برهانه، كان نقداً كامل الصحة بالغ الصواب في كل ما رده إلى السنة والكتاب، باستثناء هنات جنح فيها إلى الحكم بالآراء فوقع في طائفة من الأخطاء، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
ولكن لحكمة يعلمها الله تعالى، لن تستمر ثورة ابن حزم الأثر المرجو التصحيحية، إذ لم يتبنها بعده أحد، فلم تُؤثر في إبطال الاختلافات في الكتاب، ولا حتى في إنقاصها أو تصحيح ما كان منها قائماً، بل استمرت الاختلافات على شراستها الأولى، حتى وصل المسلمون إلى ما هم عليه الآن.
قال تعالى: {ظلمات بعضها فوق بعض إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (الشورى: 4). لكن بقي لهم أجرهم عند الله، وما زالت أسفارهم تحدث كل ناظر فيها بالحق الذي عرفوا، والضلال الذي كشفوا.
لقد كانت ثورة ابن حزم وأصحابه على الاختلافات نفسها، لا على ما ترتب عليها من خطيئة تفرق الدين شيعاً ومذاهب. لم يتعرض ابن حزم وأصحابه لتلك الخطيئة “خطيئة المذاهب” بكلمة واحدة، بل استغرقوا في تفنيد اختلافات الفقهاء في الشرائع والأحكام، فندوا كل حكم لذاته، لبيان علته وذلاته، دون التفات إلى سببه ومصدره، فغفلوا عن خطيئة تفرق المسلمين في الشيع والمذاهب.
ولكن على الرغم من ذلك فقد كان عملهم جليلاً دون ريب، إذ حطم وثنية الأئمة، وكشف الحجاب عن أعين الأمة. كان عملهم إصلاحاً لذات الداء، لا لسبب البلاء، وكان حرياً لو عمل به لعدهم أن يصلوا إلى أصل الداء، فيقتلعوا الأصل والفروع جميعاً. فإن الأحكام الخاطئة سببها اختلاف المذاهب، والمذاهب إنما تولدت عن الاختلاف في الكتاب، الذي هو السبب في كل البلاء، فلولا الاختلاف في الكتاب ما كانت المذاهب والأحزاب.
كل ذلك صواب وحق لو أن الأمر عولج من بدايته، أما الآن ونحن نواجه تلك الأعداد الهائلة من المسلمين المتمذهبين، فإن العلاج يحتاج بالإضافة إلى منع الاختلاف في الكتاب – يحتاج إلى ردّ تلك الجحافل البشرية المتمذهبة إلى الاعتصام بالسنة والكتاب بعد انسلاخهم من جميع المذاهب والأحزاب، ولا سبيل إلى ذلك إلا بكشف خطيئة المذهبية وويلاتها للناس لعلهم يرجعون. وهذا هو المقصود الأوّل من تأليف هذا الكتاب.
لقد كان النور الساطع الذي سلطه ابن حزم على اختلافات المذاهب في الشرائع والأحكام أول تنبيه إلى خطر الاختلاف في الدين. لقد كان تفنيداً قوياً للتناقضات المخالفة للنصوص، ولكنه لم يتعرض إلى خطيئة المذهبية نفسها، خطيئة تفريق الدين شيعاً. تلك الخطيئة التي جعل الله نبيه بريئاً من فاعليها، وتوعدهم بأن أمرهم إليه ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون. لم يتعرض ابن حزم إلى تلك الخطيئة ولم ينبه إلى وبالها على الإسلام والمسلمين. وقد بينا الفارق العظيم بين اختلاف الأفراد واختلاف الجماعات في باب (مراحل الاختلاف).
وعلى الرغم من أن أكثر أحكام الظاهرية (ابن حزم وأصحابه كما يسميهم الناس) كانت صواباً لالتزامهم بالنصوص القطعية الثبوت في أغلب الأحيان، إلا أنهم لم يسلموا من الخطأ في عدد غير قليل من الأحكام والشرائع، وهي تلك التي حكموا فيها بالرأي دون النص الصحيح استناداً إلى المعلول من الأخبار، أو إلى التأويل دون التفصيل، أو إلى الغلو في الدين بغير الحق.
ولقد اشتملت دواويننا التي أخرجناها للناس على أمثلة لهذا الغلو والتأويل وغيرهما من أسباب الخطأ في الأحكام. وخلاصة القول أن ثورة ابن حزم رغم عدم اكتمالها كانت أول صيحة بالحق زلزلت عبادة الأحبار، ونسفت قداسة الأئمة، وهلهلت رداء الكهنوت فعرف من عرف من الناس ما هي عواقب الاختلاف في الكتاب، وما هو حكم الله في المختلفين في الكتاب، وما هي أبعاد الشقاق الذي وقع فيه المختلفون.
ثم أراد الله عز وجل، بعد قرابة عشرة قرون من ثورة ابن حزم وأصحابه أن يخرج للمسلمين صوتاً مجدداً يحذرهم من مغبة الاختلاف في الكتاب، ويصارحهم جهرة بخطيئة تفريق الدين شيعاً ومذاهب، ويدعوهم إلى الاعتصام بالكتاب والسنة وحدهما دون سواهما، واجتماع المسلمين في مشرق الأرض ومغاربها أمةً واحدةً، كما أمرها الله أن تكون، فذلك الذي ندعو إليه، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
باب: (دعاء ونداء)
إلى مئات الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إلى المقرين بقلوبهم قبل ألسنتهم: ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
إلى المؤمنين بالقرآن العظيم وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
إلى المؤمنين بصدق كل ما بلغ محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، وأنه ما ضل وما غوى وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى.
إلى المؤمنين بأن كل ابن آدم خطاء، وأنه لا عصمة من الخطأ في الدين لأي إنسان كائناً من كان دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنشدكم جميعاً بالله رب السموات السبع ورب العرش العظيم القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير.
أنشدكم بالله العظيم خالق الخلق مالك الملك مدبر الأمر، أحكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
أنشدكم بالله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون، أنشدكم بذلك كله ألا يجرمنكم خلاف ناصح أو واعظ أو مبلغ على ألا تسمعوا لما يقول.
اسمعوا فقد يكون فيما يقول من الحق والعلم والخير ما لم تعلموا فتتبعوا وتغنموا، ولا تعرضوا فتندموا.
اسمعوا فإن الله تعالى يقول {فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب}
اسمعوا فإننا لا نقول لكم البته أي شيء برأينا ولا برأي أحد من الناس كائناً من كان لأن الدين بالنص لا بالرأي.
اسمعوا فإنه إذا كان كل ما نقول هو من كلام الله وكلام رسوله، فليس مؤمناً من يرد كلام الله وكلام رسوله أو ينكره.
اسمعوا فإننا لا نفترى على الله ولا على رسوله حرفاً من كلمة {قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون} أو كما قال مؤمن آل فرعون: {وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} (غافر: 28). فأنتم الرابحون إن كنتم مؤمنين.
النصوص أمامكم ساطعة كالشمس، قد عميت عنها القرون. أفتريدون أن تعموا عنها كما كانوا يعمهون؟
ليس قولنا ولا قول غيرنا من أول الدهر إلى آخره بمسعد شقياً ولا بهاد عمياً، ولكنه البلاغ المبين ، طاعة الله رب العالمين، قال تعالى {فتوكل على الله إنك على الحق المبين، إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا وَلَّوْا مدبرين وما أنت بهادى العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون}.
والنصح يلقى للناس أجمعين ، ولكن الناس معادن ، منهم صادق وكذاب ومنهم موقن ومرتاب ، والقلوب بيد الله العزيز الوهاب ، يُقلبها كيف يشاء ، معادن الناس ، كمعادن الأرض ، منها سبخه وجنان ، ومنها أجادب وقيعان ، فنحن نبذر البذر بإذن الله ، والغنى الحميد هو الزارع ، يعطى ويمنع كما يشاء {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } ونحن إنما نؤدى ما أمرنا الله به من البيان وعدم الكتمان، والله بعد ذلك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال تعالى {من يشأ الله يُضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} وقال تعالى {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} يا قوم إنى آمنت بربكم فاسمعون.
ياقوم قد جئتكم بالحق من ربكم فاتقوا الله وأطيعون ، يا قوم هل أمر الله أو أمر رسوله بالفرق والشيع والمذاهب في الدين ؟ أفلا تذكرون ، ياقوم ألم يُحرم الله ورسوله تفريق الدين شيعاً ويتوعد الفاعلين بأشد الوعيد ؟ أفلا تنتهون ، ياقوم ألم يأمركم ربكم أن تكونوا أمة واحدة فتقطعتم أمركم بينكم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون ؟ !
ياقوم ألم يقل الرسول الكريم خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ؟ ! وهؤلاء ما كانوا متمذهبين لم يكونوا متفرقين شيعا ومذاهب ، أفلا تكونوا مثل الأكرمين وتتركوا فعل الأرذلين الذين فرقوا الدين ؟ !
ياقوم ألم يلعن الله الذين اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله ؟! ألم يبين الرسول أن عبادة الأخبار ليست ركوعاً ولا سجوداً ولكنها طاعتهم فيما يشرعون وفيما يحلون ويُخرمون ، وهل إتخاذ المذاهب إلا عبادة هذه المذاهب فيما يحلون ويحرمون ؟ ! أفتأتون الشرك وأنتم تبصرون .
ياقوم ألم تعلموا أن شرائع الله لا اختلاف فيها ولا خطاً ولا ضلال ، وأن شرائع المذاهب طافحة بالاختلافات والتناقضات ؟ ! أفتتبعون شرائع المذاهب وتتركون شرائع الكتاب والسنة ؟ ! أتشترون الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ؟ !
ياقوم ألم يأمركم ربكم أن تتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وينهكم أن تتبعوا من دونه أولياء ؟ فاتبعتم شرائع المذاهب والفقهاء الذين اتخذتموهم أولياء ، ولم تتبعوا ما أنزل اليكم من السماء ؟ الله أذن لكم أم على الله تفترون ؟ !
ياقوم ألم يأمركم الله أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ؟ ! ألم يأمركم أن تستمسكوا بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ، وهل حبل الله إلا القرآن وهل العروة الوثقى الا اسلام الوجه الله ، وأنتم اعتصمتم بالمذاهب وأسلمتم وجوهكم للفقهاء ، فتقطعت بكم الأسباب ، وضل عنكم الحق والصواب ، فمن يجادل الله عنكم يوم الحساب ؟ !
ضرب الله مثلاً ، وضرب رسوله مثلاً ، ضرب الله مثلاً للذين تركوا شرائع الله الطيبة الراشدة واتبعوا شرائع العباد الخبيثة الفاسدة ، ضرب الله لهم مثلاً أحقر الحشرات ، وأحمق الكائنات ، التي تعرش في الهواء ، وتحتمى بالهباء, فلا منعةً لها ولا وجاء ، قال تعالى {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون} فالذين تركوا شرائع السنة والكتاب ، واتبعوا شرائع المذاهب والأحزاب ، شبههم الله بالعنكبوت ، التي تأوى إلى أوهى البيوت ، اتبعوا شرائع الفقهاء الذين اتخذوهم من دون الله أولياء ، فكان هذا منهم تعلقاً بالهباء ، لا أمنة لهم فيه ولاغناء ، تركوا الركن الركين ، وتشبثوا بالهباء الظنين ، بئس للظالمين بدلاً .
وضرب رسول الله مثلاً للذين يتبعون خطوات الشياطين ولا يُحبّون الناصحين ، تلك الفراش والدواب التي كلما ذُبّت عن النار تساقطت فيها قال ﷺ [ مثلى ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ماحوله ، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل الرجل يَزَعُهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها ] فالذين تركوا شرائع الله التي في الكتاب والسنة واتبعوا شرائع الناس التي في المؤلفات ، قد انفلتوا من حواجز الأمان ، وتدافعوا في النيران ، كذلك غمارالأوباش, هم أحمق من الفَراش. يا قوم قد ذكرناكم, وبلغناكم, فإن الذكرى تنفع المؤمنين {فستذكرون ما اقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد ) .
باب ( خلاصة الدعوة الجامعة)
في ختام هذا الشرح المفصل لخطيئة المذاهب وما تولدت عنه وماتولد عنها وما اتصل بها من أسباب ونتائج نرى – وبالله التوفيق – أن نجمع للقارىء ملخصاً لأهم الأوامر والنواهي المتعلقة بذلك مدعمة ببعض نصوصها ، لتكون له تذكرة سهلة جلية ، تجمع شتات أفكاره ، وتثبت سابق استذكاره ، وترسى في ذهنه قواعد الأثبات وتزيل عنه ما يجد من الشبهات ، مع ترك باقى النصوص والشروح المفصلة لمتن الكتاب ، يرجع اليها من شاء ، وقتما شاء .
وقد رتبنا هذه الأوامر والنواهى في دعوة جامعة ورقمنا عناصرها بأرقام مسلسلة ، ندعو إليها المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عسى الله أن يستنقذ بها لفيفاً من المؤمنين ، ورهطاً من الصالحين ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وفيما يلى عناصر تلك الدعوة :
1 – دعوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى ترك الاختلاف في الكتاب قال تعالى : {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفى شقاق بعيد} وقال ﷺ ( إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب ) وقالﷺ ( لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)
2-دعوة المسلمين الى ترك التفرق في الدين شيعا ومذاهب قال تعالى {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} وقال تعالى {منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} وقال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} وقال تعالى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} وقال تعالى {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}
3- دعوة المسلمين إلى الاجتماع مرة أخرى أمة واحدة كما أمرهم الله وكما كانوا من قبل قال تعالى {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} .
4-دعوة المسلمين الى اخلاص الدين لله وحده وذلك بعدم اتخاذ الأنداد والأولياء من دون الله لقوله تعالى {فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون} (البقرة: 22). ولقوله تعالى: “ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله” (البقرة: 165). ولقوله تعالى: “وجعلوا لله أندادًا ليضلوا عن سبيله، قل تمتع بكفرك قليلًا إنك من أصحاب النار” (الزمر: 8) ولقوله تعالى: “واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء، قليلًا ما تذكرون” (الأعراف: 3). ولقوله تعالى: “وإنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصًا له الدين” (الزمر: 2). ولقوله تعالى: “والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار” (الزمر: 3).
5 – دعوة المسلمين إلى التبرؤ من عبادة الأحبار والرؤساء قال تعالى: “قاتلهم الله أنى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله” (التوبة: 31). وقال تعالى: “وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا” (الأحزاب: 67).
6 – دعوة المسلمين إلى التطهر من الحكم في دين الله بالرأي دون النص، لأن ذلك هو اتباع الهوى قال تعالى: “فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب” (ص: 26). وقال تعالى: “إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى” (النجم: 23).
7 – دعوة المسلمين إلى الحكم بما أنزل الله وعدم الحكم بشرائع الناس لقوله تعالى: “فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق” (المائدة: 48). ولقوله تعالى: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” (المائدة: 44).
8 – دعوة المسلمين إلى الامتناع عن أي تشريع في الدين لأن ذلك خاص بالله وحده، فمن فعله فقد أشرك نفسه بالله ومن أطاعه كان مشركًا، لأن قبول الشرك شرك قال تعالى: “أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله” (الشورى: 21).
9 – دعوة المسلمين إلى عدم تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، لأن ذلك افتراء الكذب على الله قال تعالى: “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب، هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم” (النحل: 117).
10 – دعوة المسلمين إلى عدم إدخال أي بدعة في الدين لقوله صلى الله عليه وسلم: “من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد” (البخاري ومسلم). وقال صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” (البخاري ومسلم).
إن خطيئة المذاهب هي كبرى الخطيئات كلها، هي أصل البلاء وجماعته، ولا تنفك الشرور والآثام تتولد عنها وتتدفق منها لتغرق الناس في الضلال والخبال. وقد ذكرنا في الباب السادس بعضًا من هذه الكبائر، على سبيل الذكرى والبصائر، لا على سبيل الحصر؛ فما لشرورها من آخر.
لولا المذاهب، لما اختلف المسلمون، ولا اقتتل المؤمنون، ولا افترى الكذابون، ولا أشرك الوضاعون، ولا ابتدع المحدثون. قال تعالى: “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ” (البقرة: 253).
واقتلاع المذاهب واستئصالها ليس مجرد إزالة منكر أو إصلاح فساد أو إحلال حق أو إماتة باطل، بل هو بعث كامل شامل للأمة الإسلامية كلها، لتحيا بعد ممات، وتصحو من ثبات، وتطهر من الشرك والضلالات، وتعود إلى صفائها ونقائها الذي تركها عليه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
يا معشر المسلمين، قد وصلنا لكم القول لعلكم تذكرون! يا معشر المسلمين، قد قطع البلاغ كل المعاذير، أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير! فقد جاءكم بشير ونذير، والله على كل شيء قدير.
يا معشر الفقهاء، ضعوا الدنيا تحت أقدامكم واستقبلوا رضوان ربكم، فالموت أقرب إلى أحدكم من شراك نعاله، وإني والله لحجيجكم عند ربكم.
يا أيها الناس، إني أشهد الله وأشهدكم أنني بريء من جميع الفرق والشيع والمذاهب والأحزاب، لا أدين إلا بالسنة والكتاب، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. “ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.” (التحريم: 8).
[…] كتاب خطيئة المذاهب […]